فالبيانُ في الحقيقةِ بمعنى الفصاحةِ، ولا شكَّ أنَّها تفعلُ فِعْلَ السحرِ.
وقولُهُ: (( إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا ) )هلْ هذا على سبيلِ الذمِّ، أوْ على سبيلِ المدحِ، أوْ لبيانِ الواقعِ ثمَّ يُنْظَرُ إلى أثَرِهِ؟
الجوابُ: الأخيرُ هوَ المرادُ، فالبيانُ مِنْ حيثُ هوَ بيانٌ لا يُمْدَحُ عليهِ ولا يُذَمُّ،
ولكنْ يُنْظَرُ إلى أثرِهِ والمقصودِ منهُ، فإنْ كانَ المقصودُ منهُ ردَّ الحقِّ وإثباتَ الباطلِ فهوَ مذمومٌ؛ لأنَّهُ استعمالٌ لنعمةِ اللهِ في معصيتِهِ، وإنْ كانَ المقصودُ منهُ إثباتَ الحقِّ وإبطالَ الباطلِ فهوَ ممدوحٌ، وإذا كانَ البيانُ يُسْتَعْمَلُ في طاعةِ اللهِ وفي الدعوةِ إلى اللهِ فهوَ خَيْرٌ مِن الْعِيِّ، لكنْ إذا ابْتُلِيَ الإنسانُ ببيانٍ ليَصُدَّ الناسَ عَنْ دينِ اللهِ، فهذا لا خَيْرَ فيهِ والْعِيُّ خيرٌ مِنْهُ.
والبيانُ منْ حيثُ هوَ لا شكَّ أنَّهُ نعمةٌ؛ ولهذا امتنَّ اللهُ بهِ على الإنسانِ فقالَ تعالى: { عَلَّمَهُ البَيَانَ } .
وهذا الذي ذكره المصنف حسن؛ لكن قال ابن رجب: (من تأمل طرق الحديث، وسياقه علم أنه لا يصلح له إلا هذا المعنى يعني: الذم) .
وقد كان المؤلِّفُ حكيمًا في تعبيرِهِ بالترجمةِ حيثُ قالَ: (بابُ بيانِ شيءٍ مِنْ أنواعِ السحرِ) ولمْ يحكُمْ عليها بشيءٍ؛ لأنَّ منها ما هوَ شركٌ، ومنها ما هوَ مِنْ كبائرِ الذنوبِ، ومنها ما دونَ ذلكَ، ومنها ما هوَ جائزٌ على حسَبِ ما يُقْصَدُ بِهِ وعلى حسبِ تأثيرِهِ وآثارِهِ.
قالَ:
فيهِ مَسائِلُ: أيْ: في هذا البابِ وما تضمَّنَهُ من الأحاديثِ والآثارِ مسائلُ.
المسألةُ الأولى:
(أنَّ العِيَافَةَ والطَّرْقَ والطِّيَرَةَ مِن الْجِبْتِ) وقدْ سَبَقَ تفسيرُ هذهِ الثلاثةِ وتفسيرُ الجبتِ.
الثانيةُ: (تفسيرُ العيافةِ والطَّرْقِ) وقدْ بُيِّنَتْ في البابِ أيضًا وشُرِحَتْ.
الثالثةُ: (أنَّ عِلْمَ النجومِ نَوْعٌ مِن السِّحرِ) لقوْلِهِ: (( مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجُومِ فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ ) )وسبقَ الكلامُ عليها أيضًا.
الرَّابِعَةُ: (أن العَقْدَ مَعَ النَّفْثِ مِنْ ذلِك) لحديثِ أبي هريرَةَ: (( مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيها فَقَدْ سَحَرَ ) )وقدْ تقدَّمَ الكلامُ على ذلِكَ.
الخامسةُ: (أنَّ النَّميمةَ مِنْ ذلِكَ) لحديثِ ابنِ مسعودٍ: (( أَلاَ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ ) )وهيَ من السحرِ؛ لأنَّها تفعلُ ما يفعلُ الساحرُ مِن التفريقِ بينَ الناسِ والتحريشِ بَيْنَهُم، وقدْ سَبَقَ بيانُ ذلِكَ.
السَّادسةُ: (أَنَّ مِنْ ذلِكَ بَعْضَ الفَصاحَةِ) أيْ: مِن السحرِ بعضَ الفصاحةِ؛ لقولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا ) ).
والمؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ قالَ: بعضُ الفصاحةِ، استدلالاً بقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ ) )لأنَّ (( مِنْ ) )هنا عندَ المُؤَلِّفِ للتبعيضِ.
ووجْهُ كونِ ذلِكَ مِن السحرِ أنَّ لسانَ البليغِ ذي البيانِ قَدْ يَصْرِفُ الهِمَمَ، وقَدْ يُلْهِبُ الهممَ بما عندَهُ مِن الفصاحةِ.