فهرس الكتاب
الصفحة 9 من 93

3 -بَابُ الْخَوْفِ مِنَ الشِّرْكِ

وَقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النِّسَاء:48] .

وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إِبْرَاهِيم:35] .

وَفِي الحَدِيثِ: (( أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ، فَسُئِلَ عَنْهُ؟

فَقَالَ: الرِّيَاءُ )) .

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ ) )رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( مَنْ لَقِيَ اللهَ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ ) ).

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: الْخَوْفُ مِنَ الشِّرْكِ.

الثَّانِيَةُ: أَنَّ الرِّيَاءَ مِنَ الشِّرْكِ.

الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ مِنَ الشِّرْكِ الأَصْغَرِ.

الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ أَخْوَفُ مَا يُخَافُ مِنْهُ عَلَى الصَّالِحِينَ.

الْخَامِسَةُ: قُرْبُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ.

السَّادِسَةُ: الْجَمْعُ بَيْنَ قُرْبِهِمَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ.

السَّابِعَةُ: أَنَّهُ مَنْ لَقِيَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، ومَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَعْبَدِ النَّاسِ.

الثَّامِنَةُ: الْمَسْأَلَةُ الْعَظِيمَةُ سُؤَالُ الْخَلِيلِ لَهُ وَلِبَنِيهِ وِقَايَةَ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ.

التَّاسِعَةُ: اعْتِبَارُهُ بِحَالِ الأَكْثَرِ لِقَوْلِهِ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ} .

الْعَاشِرَةُ: فِيهِ تَفْسِيرُ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ.

الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فَضِيلَةُ مَنْ سَلِمَ مِنَ الشِّرْكِ.

(1) مناسبةُ هذا البابِ للبابين قبلَه:أن المصنف -رحمه الله-:

-ذَكَرَ في أولها تحقيقَ التوحيدِ.

-وذكر في البابِ الثاني منهما أنَّ مَن حقَّقَ التوحيدَ دخلَ الجنَّةَ بغيرِ حسابٍ ولا عذابٍ، ثم ثلَّثَ بهذا البابِ؛ لأنَّ الإنسانَ قد يرى أنَّه قدْ حقَّقَ التوحيدَ، وهو لم يحقِّقْه، ولهذا قالَ بعضُ السَّلَفِ: (ما جَاهَدْتُ نَفسي عَلى شيءٍ مجاهَدتَها عَلى الإخلاصِ) .

وذلك أنَّ النفسَ متعلِّقةٌ بالدُّنيا، تريدُ حظوظَها مِن مالٍ، أو جاهٍ، أو رئاسةٍ، وقد تريدُ بعمَلِ الآخرةِ الدَّنْيَا، وهذا نقْصٌ في الإخلاصِ، وقلَّ مَن يكونُ غرَضُه الآخِرَةَ في كلِّ عمَلِهِ، ولهذا أَعْقَبَ المؤلِّفُ-رحِمَه اللهُ- ما سبَقَ من البابين بهذا البابِ، وهُو الخوفُ من الشِّركِ، وذكَرَ فيه آيتيْن.

(2) قولُه: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} (لا) نافيةٌ، (أنْ يُشْرَكَ به) فعلٌ مضارعٌ مقرونٌ بأن المصدريَّةِ، فيُحَوَّلُ إلى مصدرٍ تقديرُه: إنَّ اللهَ لا يغْفِرُ الإشراكَ بِهِ، أو لا يَغْفِرُ إشْرَاكًا به.

فالشِّرْكُ لا يَغْفِرُهُ اللهُ أبدًا؛ لأنه جِنايةٌ على حقِّ اللهِ الخاصِّ، وهو التوحيدُ.

أمَّا المعاصي: (كالزِّنا والسرقةِ) ، فقد يكونُ للإنسانِ فيها حظُّ نفسٍ بما نالَ مِن شهوةٍ، أمَّا الشِّركُ فهو اعتداءٌ على حقِّ اللهِ تعالى، وليس للإنسانِ فيه حظُّ نفسٍ، وليس شهوةً يريدُ الإنسانُ أن ينالَ مرادَه منها، ولكنَّه ظُلْمٌ، ولهذا قال اللهُ تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .

وهل المرادُ بالشركِ هنا الأكبرُ، أم مطلقُ الشركِ؟

قال بعضُ العلماءِ: (إنه مطلقٌ، يَشْمَلُ كلَّ شِرْكٍ، ولَو أَصغرَ، كالحَلِفِ بغيرِ اللهِ فإنَّ اللهَ لا يغفِرُه، أمَّا بالنسبةِ لكبائرِ الذنوبِ كالسَّرِقَةِ والخمْرِ فإنَّها تحتَ المشيئةِ، فقد يغْفِرُها اللهُ) .

وشيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ المحقِّقُ في هذه المسائِلِ اختلَفَ كلامُه في هذه المسألةِ:(فمرَّةً قالَ: الشركُ لا يَغْفِرُهُ اللهُ ولو كانَ أصغَرَ.

ومرَّةً قالَ: الشِّركُ الذي لا يغْفِرُه اللهُ هو الشِّركُ الأكبرُ).

وعلى كلِّ حالٍ فيجِبُ الحذَرُ من الشِّركِ مُطْلَقًا؛ لأنَّ العمومَ يحتَمِلُ أنْ يكونَ داخِلاً فيه الأصغرُ؛ لأنَّ قولَه: {أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (أنْ) ومَا بعدَها في تأويلِ مصْدَرٍ، تقديرُه: إشراكًا به، فهو نكِرَةٌ في سياقِ النفيِ، فتفيدُ العمومَ.

(3) قولُه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} المرادُ بالدونِ هنا مَا هو أقلُّ مِن الشركِ، وليس ما سِوى الشِّركِ.

(4) الآيةُ الثانيةُ: قولُه: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} ومعْنَى اجْنُبْني: أيْ: اجْعَلْني في جانِبٍ، والأصنامَ في جانبٍ، وهذا أبلغُ مما لو قالَ: امْنَعْني وبنيَّ من عبادَةِ الأصنامِ؛ لأنَّه إذا كانَ في جانبٍ عنها كانَ أَبْعَدَ.

قال الشيخ المحدث سليمان بن عبد الله آل الشيخ في (تيسير العزيز الحميد) ص118: (وإنما دعا إبراهيم عليه السلام بذلك؛ لأن كثيراً من الناس افتتنوا بها، كما قال تعالى: {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس} فخاف من ذلك، ودعا الله أن يعافيه وبنيه من عبادتها. فإذا كان إبراهيم عليه السلام يسأل الله أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام، فما ظنك بغيره.

-قال إبراهيم التيمي: (ومن يأمن من البلاء بعد إبراهيم ؟!) وهذا يوجب للقلب الحي أن يخاف من الشرك، لا كما يقول الجهال: إن الشرك لا يقع في هذه الأمة؛ ولهذا أمنوا الشرك فوقعوا فيه) ا.هـ.

فإبراهيمُ-عليه السلامُ- يَخافُ الشركَ على نفسِه، وهو خليلُ الرحمنِ، وإمامُ الحنفاءِ، فما بالُكَ بنا نحنُ إذن؟

فلا تأْمَن الشِّركَ، ولا تَأْمَن النِّفاقَ؛إذ لا يأمَنُ النِّفاقَ إلا منافِقٌ، ولا يخافُ النفاقَ إلا مؤمِنٌ، ولهذا قالَ ابنُ أبي مُلَيْكَةَ: (أدْرَكْتُ ثلاثينَ مِن أصحابِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهم يخافُ النِّفاقَ على نفسِه) .

قولُه: {أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} (أنْ) وما بعدَها في تأويلِ مصدرٍ، مفعولٌ ثانٍ لقولِه: {اجْنُبْني} .

والأصنامُ: جَمْعُ صَنَمٍ، وهو: ما جُعِلَ على صورةِ إنسانٍ أو غيرِه يُعبَدُ مِن دونِ اللهِ.

أمَّا الوَثَنُ: هو ما عُبِدَ مِن دونِ اللهِ على أيِّ شكْلٍ كانَ، وفي الحديثِ: (( لا تَجْعَلْ قَبْري وَثَنًا يُعْبَدُ ) )فالوثَنُ أعمُّ من الصَّنَمِ.

قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في (فتح المجيد) (ص101) : (وقد يسمى الصنم وثناً، كما قال الخليل عليه السلام: {إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً} )

ولا شكَّ أنَّ إبراهيمَ سألَ ربَّه الثباتَ على التوحيدِ؛ لأنه إذا جنَّبَه عبادةَ الأصنامِ صارَ باقِيًا على التوحيدِ.

الشاهِدُ من هذه الآيةِ: أنَّ إبراهيمَ خافَ الشركَ، وهو إمامُ الحنفاءِ، سيِّدُهم، ما عدا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.

(5) قولُه: (أَخْوَفُ ما أَخافُ عَلَيْكُمْ) الخطابُ للمسلمين؛ إذ المسلمُ هو الذي يُخافُ عليه الشِّركُ الأصغرُ، وليس لجميعِ الناسِ.

قولُه: (الرياءُ) مشتَقٌّ مِن الرُّؤْيَةِ، مَصْدَرُ رَاءَى يُرَائِي، والمصدَرُ رِياءٌ، كقَاتَل يُقَاتِلُ قِتَالاً.

والرِّياءُ:أنْ يَعْبُدَ اللهَ ليرَاه الناسُ،فيَمْدَحُوه على كونِه عابِدًا، وليسَ مراده أنْ تكونَ العبادةُ للناسِ؛ لأنَّه لو أرادَ ذلك لكانَ شِرْكًا أكبرَ، والظاهِرُ: أنَّ هذا على سبيلِ التمثيلِ، وإلا فَقَدْ يكونُ رِياءً، وقد يكونُ سماعًا أيْ: يَقْصِدُ بعبادَتِه أنْ يَسْمَعَه الناسُ، فيُثنوا عليه، فهذا داخِلٌ في الرياءِ، فالتعبيرُ بالرياءِ مِن بابِ التعبيرِ بالأغلبِ.

أمَّا إنْ أرادَ أن يَقْتَدوا به فيها فلَيسَ رِياءً،بلْ هذا مِن الدعوةِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، والرسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يقولُ: (( فَعَلْتُ هَذا لِتأْتَمُّوا بِي وتَعْلَمُوا صَلاتي ) ).

والرياءُ ينقسمُ باعتبارِ إبطالِه للعبادةِ إلى قسمين:

الأولُ:أنْ يكونَ في أصلِ العبادةِ،فما قامَ يتَعَبَّدُ إلا للرياءِ، فهذا عملُه باطِلٌ مردودٌ عليه؛ لحديثِ أبي هريرةَ في الصحيحِ مرفوعًا، قالَ اللهُ تعالى: (( أَنا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّركِ، مَنْ عَمِلَ عمَلاً أشْرَكَ مَعِي فيهِ غَيْري تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ ) ).

الثاني: أنْ يكونَ الرِّياءُ طارِئًا على العبادةِ،فأصْلَ العبادةِ للهِ، لكنْ طرَأَ عليها الرياءُ، فهذا ينقَسِمُ إلى قسميْن:

الأولُ: أنْ يُدَافِعَه فهذا لا يَضُرُّه.

مثالُه: رجلٌ صلَّى رَكْعَةً، ثُمَّ جاءَ أناسٌ في الركعةِ الثانيةِ، فحصَلَ في قلبِه شيءٌ، بأنْ أطالَ الركوعَ، أو السجودَ، أو تبَاكَى، وما أشبَه ذلك:

فإنَّ دَافَعَه: فإنه لا يَضُرُّه؛ لأنَّه قامَ بالجهادِ.

وإنْ اسْتَرْسَلَ معه: فكلُّ عَمَلٍ ينشأُ عن الرياءِ فهو باطِلٌ، كمَا لَوْ أطالَ القِيامَ، أو الركوعَ، أو السُّجودَ، أو تباكَى، فهذا كلُّ عملِه حابِطٌ.

ولكن هل البطلانُ يمتدُّ إلى جميعِ العبادةِ أمْ لا؟

نقولُ: لا يخلو هذا مِن حالين:

الحالُ الأولى:أن يكونَ آخرُ العبادةِ مبنيًّا على أولِها،

بحيثُ لا يصِحُّ أولُها معَ فسادِ آخِرِها فهِيَ كلُّها فاسِدَةٌ، وذلك مثلُ الصلاةِ: فالصلاةُ مثلاً لا يمكنُ أنْ يَفْسُدَ آخِرُها، ولا يفْسُدَ أوَّلُها، إذنْ تبطُلُ الصلاةُ.

الحالُ الثانيةُ:أنْ يكونَ أولُ العبادةِ منْفَصِلاً عن آخِرِها،بحيثُ يَصِحُّ أولهُا دونَ آخِرِها، فما سبقَ الرياءَ فهُو صحيحٌ، وما كانَ بعدَه فهو باطِلٌ.

مثالُ ذلك: رجلٌ عنده مائةُ ريالٌ، فتصدَّق بخمسينَ للهِ بنيَّةٍ خالِصَةٍ، ثم تَصَدَّقَ بخمسينَ بقصدِ الرياءِ، فالأولى مقبولَةٌ، والثانيةُ غيرُ مقبولةٍ؛ لأنَّ آخرَها مُنْفَكٌّ عَن أولِها.

(6) قولُه: (مَن) هذه شرطيَّةٌ تفيدُ العمومَ للذكرِ والأنْثَى.

قولُه: (يدعو مِن دُونِ الله نِدًّا) أي: يَتَّخِذُ للهِ ندًّا، سواءً دعاهُ دعاءَ عبادةٍ، أم دعاءَ مسألةٍ؛لأنَّ الدعاءَ ينقسمُ إلى قسمين:

الأولُ: دعاءُ عبادةٍ، كالصومُ، والصلاةُ، وغيرُ ذلك من العباداتِ، فإذا صلَّى الإنسانُ، أو صامَ فقد دعا ربَّه بلسانِ الحالِ أن يغفِرَ له، وأن يُجِيرَه مِن عذابِهِ، وأن يُعْطِيَه مِن نَوَالِه.

ويدلُّ لهذا القسمِ قولُه تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُم ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} فجعلَ الدعاءَ عبادةً، وهذا القِسْمُ كلُّه شرْكٌ، فمَن صرَفَ شيئًا من أنواعِ العبادةِ لغيرِ اللهِ، فقد كَفَرَ كُفرًا مُخْرِجًا له عن الملَّةِ، فلو رَكَعَ لإنسانٍ، أو سجَدَ لشيءٍ يُعَظِّمُه كَتعظيمِ اللهِ في هذا الركوعِ أو السجودِ لكانَ مُشْرِكًا، ولهذا مَنَع النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- مِن الانْحِنَاءِ عندَ الملاقاةِ لَمَّا سُئِلَ عن الرجلِ يَلْقَى أخَاهُ أيَنْحَنِي له؟

قالَ: (( لا ) ).

خِلافًا لما يفعلُه بعضُ الجُهَّالِ إذا سلَّمَ عليكَ انْحَنَى لك، فيجِبُ على كلِّ مؤمنٍ باللهِ أن يُنكِرَه؛ لأنَّه عظَّمَك على حِسابِ دينِهِ.

الثاني: دعاءُ المسألةِ: فهذا ليسَ كُلُّه شِركًا، بل فيه تفصيلٌ، فإنْ كانَ المخلوقُ قادرًا على ذلكَ فليسَ بشرْكٍ، كقولِكَ: اسْقِني ماءً لمن يستطِيعُ ذلكَ.

كما قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (( مَنْ دعاكُمْ فَأجِيبوهُ ) ).

وقالَ تعالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ} .

فإذا مدَّ الفقيرُ يدَه وقال: (ارْزُقْنِي) أي: أَعْطِني فهو جائزٌ، كما قال تعالى: {فَارْزُقُوهُم مِّنْه} وأما إنْ دعا المخلوقَ بما لا يقْدِرُ عليه إلا اللهُ فإنَّ دعوتَه شِرْكٌ مُخْرِجٌ مِن الملَّةِ.

مثالُ ذلك: أنْ تدعوَ إنْسانًا أن يُنزِّلَ الغَيْثَ، مُعْتَقِدًا أنَّه قادِرٌ على ذلك.

والمرادُ بقولِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (( مَن ماتَ وهُو يدعو.. ) )المرادُ الندُّ في العبادةِ، أمَّا الندُّ في المسألةِ ففيه التفصيلُ السابِقُ.

(7) قولُه: (( دخَلَ النارَ ) )أي: خالِدًا مع أن اللَّفظَ لا يدلُّ عليه؛ لأن دخَلَ فِعْلٌ، والفعلُ يدلُّ على الإطلاقِ؛ لكن قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} .

وإذا حُرِّمَت عليه الجنَّةُ لزِمَ أنْ يكونَ خالدًا في النارِ أبدًا،فيجبُ أن نخافَ من الشِّركِ ما دامت هذه عقوبتَه، فالمشركُ خَسِرَ الآخِرَةَ؛ لأنَّه في النارِ خالِدٌ، وخَسِرَ الدنيا أيضًا؛ لأنه لم يستَفِدْ منها شيئًا، وقامَت عليهِ الحُجَّةُ، وجاءَه النذيرُ، ولكنَّه خَسِرَ والعياذُ باللهِ، ولهذا قالَ عزَّ وجلَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} .

وقالَ تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .

فخَسِرَ نفسَهُ؛ لأنَّه لَم يستَفِدْ منها شيئًا، وخسِرَ أهلَه؛ لأنهم إنْ كانوا مِن المؤمنين فهُم في الجنةِ، فلا يَتَمَتَّعُ بهِم في الآخرةِ، وإنْ كانوا في النارِ فكذلِك؛ لأنه كلَّمَا دخلَتْ أمَّةٌ لعَنَت أختَهَا، والشِّرْكُ خَفِيٌّ جدًّا، فقد يكونُ في الإنسانِ وهو لا يشعرُ إلا بعدَ المحاسبةِ الدقيقةِ، ولهذا قالَ بعضُ السلَفِ: (ما جاهدتُ نَفْسي علَى شيءٍ ما جاهَدْتُها على الإخلاصِ) .

فالشركُ أمرُه صعْبٌ جدًّا ليس بالهيِّنِ،ولكن يُيَسِّرُ اللهُ الإخلاصَ على العبدِ، وذلك بأنْ يَجْعَلَ اللهَ نُصْبَ عينيْه، فيقْصِدُ بعملِه وجهَ اللهِ لا يقْصِدُ مدْحَ الناسِ، أو ذمَّهُم، أو ثناءَهم عليه، فالناسُ لا ينْفَعونَه أبدًا، حتى لو خَرَجوا معه لتشييعِ جِنَازَتِه لم ينفعْه إلا عملُه، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (( يَخْرُجُ مَعَ المَيِّتِ أَهْلُهُ ومَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ اثنان: أَهْلُهُ ومَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ ) ).

فالإخلاصُ صعْبٌ جدًّا،إلا أنَّ الإنسانَ إذا كانَ متَّجِهًا إلى اللهِ اتِّجَاهًا صادِقًا سليمًا على صراطٍ مستقيمٍ فإنَّ اللهَ يُعِينُه عليهِ، ويُيَسِّرُه لهُ.

(8) قولُه: (مَن) شرطيَّةٌ تفيدُ العمومَ، وفعْلُ الشرطِ (( لَقِيَ ) )وهذا الدخولُ لا ينافي أن يُعذَّبَ بقَدْرِ ذنوبِه إنْ كانَت عليه ذنوبٌ؛ لدلالةِ نصوصِ الوعيدِ على ذلكَ، وهذا إذا لَم يغْفِر اللهُ له؛ لأنَّه داخِلٌ تحتَ المشيئةِ.

قولُه: (شيئًا) نكِرَةٌ في سياقِ الشرطِ، فيَعُمُّ أيَّ شِرْكٍ حتى ولو أشرَكَ مع اللهِ أشرفَ الخلْقِ، وهو الرسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- دخلَ النارَ، فكيف بِمَن يَجْعَلُ الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أعظمَ من اللهِ؟

فيلجأُ إليه عندَ الشدائدِ، ولا يلجأُ إلى اللهِ، بل ربما يلجأُ إلى ما دونَ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.

وهل يلْزَمُ مِن دخولِ النارِ الخلودُ لِمَن أشرَكَ؟

هذا بحسَبِ الشِّركِ، إن كانَ الشركُ أصغرَ فإنه لا يلزَمُ مِن ذلك الخلودُ في النارِ، وإنْ كانَ أكبرَ، فإنه يلزَمُ منه الخلودُ في النارِ.

لكن لو أنَّنا حمَلْنَا الحديثَ على الشركِ الأكبرِ في الموضعيْن في قولِه: (( مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنّةَ ) ).

-وفي قولِه: (( وَمَنْ لَقِيَ اللهَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ ) )لقُلْنَا: مَن لَقِيَ اللهَ لا يُشْرِكُ بهِ شيئًا دخَلَ الجنةَ، وإنْ عُذِّب قبلَ الدخولِ في النارِ بما يَسْتَحِقُّ فيكونُ مآلُهُ إلى الجنَّةِ، ومَن لقِيَه يُشْرِكُ به شِرْكًا أكبرَ دخَلَ النارَ مخلدًا فيها، ولم نَحْتَجْ إلى هذا التفصيلِ.

(9) فيه مسائِلُ:

الأُولَى: (الخوفُ من الشِّركِ)

لقولِه: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} ، ولقولِه: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} .

(10) الثانيةُ: (أن الرياءَ مِن الشركِ) لحديثِ: (( أخْوَفُ ما أخافُ عليكُم الشِّركُ الأصغرُ ) )فسُئِلَ عنه فقالَ: (( الرياءُ ) )وقد سبَقَ بيانُ أحكامِه بالنسبةِ إلى إبْطَالِ العبادةِ.

(11) الثالثةُ: (أنه مِن الشركِ الأصغرِ) لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لما سُئِلَ عنه قالَ: (( الرياءُ ) )فسمَّاه شِركًا أصغرَ.

وهل يُمْكِنُ أن يصِلَ إلى الأكبرِ؟

ظاهِرُ الحديثِ لا يُمْكِنُ؛ لأنَّه قالَ: (( الشِّركُ الأصغرُ ) )فسُئِلَ عنه؟ فقالَ: (( الرياءُ ) ).

لكنْ في عباراتِ ابنِ القَيِّمِ رحِمَه اللهُ، أنَّه إذا ذَكَر الشِّرْكَ الأصغرَ قالَ: (كيسيرِ الرياء) فهذا يدُلُّ على أنَّ كثيرَه ليسَ مِن الأصغرِ، لكنْ إنْ أرادَ بالكميَّةِ فنَعَم؛ لأنه لو كانَ يُرائِي في كلِّ عملٍ لكانَ مُشْرِكًا شِرْكًا أكبرَ؛ لِعدَمِ وجودِ الإخلاصِ في عَمَلٍ يعملُه، أمَّا إذا أرادَ الكيفيَّةَ، فظاهِرُ الحديثِ أنّه أصغرُ مطلقًا.

(12) (الرابعةُ:(أنه أخوفُ ما يخافُ منهُ على الصالِحين) وتُؤْخَذُ من قولِه: (( أَخْوَفُ ما أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ ) )ولأنَّه قدْ يدخُلُ في قلبِ الإنسانِ مِن غيرِ شعورٍ لخفائِه، وتَطَّلِعُ النفسُ إليهِ؛ فإنَّ كثيرًا مِن النفوسِ تُحِبُّ أنْ تُمْدَحَ بالتَّعَبُّدِ للهِ.

(13) الخامِسَةُ: (قُرْبُ الجنَّةِ والنَّارِ)

لقولِه: (( مَنْ لَقِيَ اللهَ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الجنّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ ) ).

(14) السادسةُ: (الجمعُ بينَ قُربِهِما في حديثٍ واحدٍ) (( مَنْ لَقِيَ اللهَ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَل الجنّةَ وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.. ) ).

(15) السابعةُ: (أنَّه مَن لَقِيَه يشرِكُ بِهِ شيئًا دخَلَ النارَ، ولو كانَ مِن أعبدِ الناسِ)

تُؤخَذُ مِن العمومِ في قولِه: (( مَنْ لَقِيَ ) )لأنَّ (مَن) للعمومِ، لكنْ إنْ كانَ شِرْكُه أكبرَ لم يدخُل الجنَّةَ وإنْ كانَ أعبدَ الناسِ؛ لقولِه تعالَى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} . وإن كانَ أصغرَ عُذِّبَ بقدرِ ذنوبِه ثم دخَلَ الجنّةَ.

(16) الثامنةُ: (المسألةُ العظيمةُ سؤالُ الخليلِ له ولبنيهِ وقايةَ عبادةِ الأصنامِ) تُؤخَذُ من قولِه تعالى: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} .

(17) التاسعةُ: (اعتبارُه بحالِ الأكثرِ؛ لقولِه: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ} )

وفيهِ إشكالٌ؛ إذ المؤلِّفُ يقولُ: (بحالِ الأكثرِ) والآيةُ: {كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ} وفرقٌ بينَ كثيرٍ وأكثرَ، ولهذا قالَ -تعالى- في بني آدَمَ: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} .

فلم يَقُلْ على أكثرِ الخلْقِ، ولا على الخلقِ، فالآدمِيُّونَ فُضِّلوا على كثيرٍ ممَّن خلَقَ اللهُ، وليسوا أكرَمَ الخلقِ على اللهِ، ولكنَّه كَرَّمَهم.

(18) العاشِرةُ: (فيه تفسيرُ(لا إلهَ إلا اللهُ) كما ذكرَهالبخاريُّ) الظاهرُ أنَّها تُؤخَذُ من جميعِ البابِ؛ لأنَّ لا إلهَ إلا اللهُ فيها نفيٌ وإثباتٌ.

(19) (الحاديةَ عشَرَةَ:(فضيلةُ مَن سلِمَ مِنَ الشِّركِ) لقولِه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} . وقولِه: (( مَنْ لَقِيَ اللهَ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَل الجنّةَ ) ).

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام