وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الْوَاقِعَةُ:82] .
وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لاَ يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ بِالأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالاِسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ ) ).
وَقَالَ: (( النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ ) )رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلَهُمَا عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ:(( هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ ) )قَالُوا: (اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) قَالَ: (( أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ ) ).
وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ، وَفِيهِ: (( قَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَاتِ: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَّو تَعلَمُونَ عَظِيمٌ * إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنونٍ * لا يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالمينَ * أفَبِهذا الحَديثِ أنتُم مُّدْهِنونَ * وتَجْعَلُونَ رِزْقَكُم أنَّكَم تُكَذِّبُونَ} [الْوَاقِعَةُ:75-82] ) ).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى:
تَفْسِيرُ آيَةِ الْوَاقِعَةِ.
الثَّانِيَةُ:
ذِكْرُ الأَرْبَعِ الَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ.
الثَّالِثَةُ:
ذِكْرُ الْكُفْرِ فِي بَعْضِهَا.
الرَّابِعَةُ:
أَنَّ مِنَ الْكُفْرِ مَا لاَ يُخْرِجُ عَنِ الْمِلَّةِ.
الْخَامِسَةُ:
قَوْلُهُ: (( أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ ) )بِسَبَبِ نُزُولِ النِّعْمَةِ.
السَّادِسَةُ:
التَّفَطُّنُ لِلإِيمَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
السَّابِعَةُ:
التَّفَطُّنُ لِلْكُفْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
الثَّامِنَةُ:
التَّفَطُّنُ لِقَوْلِهِ (لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا) .
التَّاسِعَةُ:
إِخْرَاجُ الْعَالِمِ لِلْمِتَعَلِّمِ الْمَسْأَلَةَ بِالاِسْتِفْهَامِ عَنْهَا؛ لِقَوْلِهِ: (( أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ) ).
الْعَاشِرَةُ:
وَعِيدُ النَّائِحَةِ.
الاسْتِسْقاءُ:
طلبُ السُّقْيَا، كالاستغفارِ: طَلَبُ المغفرةِ، والاستعانةِ: طلبُ المعونةِ، والاستعاذةِ: طلبُ العَوْذِ.
والاستهداءِ:
طلبُ الهدايةِ؛ لأنَّ مَادَّةَ (اسْتَفْعَلَ) في الغالبِ تدلُّ على الطلبِ، وقدْ لا تَدُلُّ على الطلبِ بلْ تَدُلُّ على المبالغةِ في الفعلِ، مثلَ: (استكبرَ) ، أيْ: بَلَغَ في الكِبْرِ غايتَهُ، وليسَ المعنى طلبَ الكِبْرَ. والاستسقاءُ بالأَنْوَاءِ: أيْ: أنْ تَطْلُبَ منها أنْ تَسْقِيَكَ.
والاستسقاءُ بالأنواءِ ينقسمُ إلى قسمَيْنِ:
القسمُ الأَوَّلُ: شِرْكٌ أكبرُ، ولهُ صورتانِ:
الأُولَى:
أنْ يدْعُوَ الأَنْوَاءَ بالسُّقْيَا،
كأنْ يقولَ: يا نَوْءَ كذا اسْقِنا أوْ أَغِثْنَا، وما أشبهَ ذلكَ؛ فهذا شِرْكٌ أكبرُ؛ لأنَّهُ دعا غيرَ اللهِ، ودعاءُ غيرِ اللهِ من الشركِ الأكبرِ، قالَ تعالى: { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } .
-وقالَ تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا } .
-وقالَ تعالى: { وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ } إلى غيرِ ذلكَ مِن الآياتِ الكثيرةِ الدَّالَّةِ على النَّهْيِ عَنْ دُعَاءِ غيرِ اللهِ وأنَّهُ من الشركِ الأكبرِ.
الثانيةُ:
أنْ يَنْسِبَ حصولَ الأمطارِ إلى هذهِ الأنواءِ على أَنَّها هيَ الفاعلةُ بنفسِها دونَ اللهِ،
ولوْ لمْ يَدْعُها، فهذا شركٌ أكبرُ في الرُّبُوبِيَّةِ، والأَوَّلُ في العبادةِ؛ لأنَّ الدعاءَ من العبادةِ، وهوَ مُتَضَمِّنٌ للشركِ في الرُّبُوبِيَّةِ؛ لأنَّهُ لم يَدْعُها إلاَّ وهوَ يعتقدُ أنَّها تفعلُ وتقضي الحاجةَ.
القسمُ الثاني:
شركٌ أصغرُ،
وهوَ أنْ يجعلَ هذهِ الأنواءَ سببًا، معَ اعتقادِهِ أنَّ اللهَ هوَ الخالقُ الفاعلُ؛ لأنَّ كُلَّ مَنْ جعلَ سببًا لمْ يجعَلْهُ اللهُ سببًا لا بوَحْيِهِ ولا بقَدَرِهِ فهوَ مُشْرِكٌ شِرْكًا أصغرَ.
قولُهُ تعالى: {وَتَجْعَلُونَ} أيْ: تُصَيِّرونَ، وهيَ تَنْصِبُ مفعوليْنِ:
الأَوَّلُ: (رِزْقَ) .
والثاني: (أَنَّ) وما دَخَلَتْ عليهِ في تأويلِ مصدرٍ مفعولٍ ثانٍ، والتقديرُ: وتجعلُونَ رِزْقَكُم كونَكُم تُكَذِّبُونَ أوْ تكْذِيبَكُم، والمعنى: تُكَذِّبُونَ أنَّهُ منْ عِنْدِ اللهِ حيثُ تُضِيفُونَ حُصُولَهُ إلى غيْرِهِ.
قولُهُ: {رِزْقَكُمْ} الرزقُ هوَ العطاءُ، والمرادُ بهِ هنا ما هوَ أعمُّ من المطرِ، فيشملُ معنييْنِ:
الأَوَّلُ: أنَّ المرادَ بِهِ رِزْقُ العلمِ؛
لأنَّ اللهَ قالَ: { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِن رَبِّ الْعَالَمِينَ (.8) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } أيْ: تخافُونَهم فتُدَاهِنُونَهُم وتجعلُونَ شُكْرَ ما رزقَكُم اللهُ بهِ من العلمِ والوحيِ أنَّكُم تُكَذِّبُونَ بهِ، وهذا هوَ ظاهرُ سياقِ الآيةِ.
الثاني:
أنَّ المرادَ بالرزقِ المطرُ،
وقدْ رُوِيَ في ذلكَ حديثٌ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، لكنَّهُ ضعيفٌ، إلاَّ أنَّهُ صحَّ عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنْهُما في تفسيرِ الآيةِ، أنَّ المرادَ بالرزقِ المطرُ، وأنَّ التكذيبَ بهِ نِسْبَتُهُ إلى الأنواءِ. وعليهِ يكونُ ما ساقَ المُؤَلِّفُ الآيةَ منْ أجلِهِ مُنَاسِبًا للبابِ تمامًا.
والقاعدةُ في التفسيرِ: أنَّ الآيةَ إذا كانتْ تَحْتَمِلُ المعنييْنِ جميعًا بدونِ مُنَافَاةٍ تُحْمَلُ عليهما جميعًا، وإنْ حصلَ بينَهُما مُنَافَاةٌ طُلِبَ المُرَجِّحُ.
ومعنى الآيةِ:
أنَّ اللهَ يُوَبِّخُ هؤلاءِ الذينَ يجْعَلُونَ شُكرَ الرزقِ التكذيبَ والاستكبارَ والبعدَ؛ لأنَّ شُكْرَ الرزقِ يكونُ بالتصديقِ والقَبُولِ والعملِ بطاعةِ المُنْعِمِ، والفطرةُ كذلكَ لا تَقْبَلُ أنْ تَكْفُرَ بمَنْ يُنْعِمُ عليها، فالفطرةُ والعقلُ والشرعُ كلٌّ منها يُوجِبُ أنْ تَشْكُرَ مَنْ يُنْعِمُ عليكَ، سواءٌ قُلْنَا: المرادُ بالرزقِ المطرُ الذي بهِ حياةُ الأرضِ، أوْ قُلْنَا: إِنَّ المرادَ بهِ القرآنُ الذي بِهِ حياةُ القلوبِ، فإنَّ هذا مِنْ أعظمِ الرزقِ، فكيفَ يليقُ بالإنسانِ أنْ يُقَابِلَ هذهِ النعمةَ بالتكذيبِ؟!
واعلمْ أنَّ التكذيبَ نوعانِ:
أحدُهما:
التكذيبُ بلسانِ المقالِ، بأنْ يقولَ: هذا كَذِبٌ، أو المطرُ من النَّوْءِ، ونحوَ ذلكَ.
والثاني:
التكذيبُ بلسانِ الحالِ،
بأنْ يُعَظِّمَ الأنواءَ والنجومَ معتقدًا أنَّها السببُ.
ولهذا وَعَظَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ الناسَ يومًا فقالَ: (أيُّها الناسُ، إنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقينَ فأنْتُم حمقَى، وإنْ كُنْتُمْ مكذِّبينَ فأَنْتُمْ هَلْكَى) .
وهذا صحيحٌ؛ فالذي يُصدِّقُ ولا يعملُ أحمقُ، والمكذِّبُ هالكٌ، فكلُّ إنسانٍ عاصٍ نقولُ لَهُ الآنَ: أنتَ بينَ أمرَيْنِ؛ إمَّا أَنَّكَ مُصَدِّقٌ بما رُتِّبَ على هذهِ المعصيةِ، أوْ مُكَذِّبٌ، فإنْ كُنْتَ مُصَدِّقًا فأَنْتَ أحمقُ، كيفَ لا تخافُ فتستقيمَ؟!
وإنْ كُنْتَ غيرَ مُصَدِّقٍ فالبلاءُ أكبرُ، فأنتَ هالكٌ كافرٌ.
قولُهُ في حديثِ أبي مالكٍ: (( أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي ) )الفائدةُ منْ قوْلِهِ: (( أَرْبَعٌ ) )ليسَ الحَصْرَ؛ لأنَّ هناكَ أشياءَ تُشَارِكُها في المعنى، وإنَّما يقولُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ذلكَ مِنْ بابِ حَصْرِ العُلُومِ وجمْعِها بالتقسيمِ والعددِ؛ لأنَّهُ يُقرِّبُ الفهمَ ويُثَبِّتُ الحِفظَ.
قولُهُ: (( في أُمَّتِي ) )أيْ: أُمَّةِ الإجابةِ.
قولُهُ: (( مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ ) )أمرٌ هنا بمعنى شَأْنٍ، أيْ: منْ شَأْنِ الجاهلِيَّةِ، وهوَ واحدُ الأمورِ، وليسَ واحدَ الأوامرِ؛ لأنَّ واحدَ الأوامرِ هوَ طلبُ الفعلِ على وجهِ الاستعلاءِ.
والإضافة إلى الجاهليَّةِ الغرضُ منها التقبيحُ والتنفيرُ؛ لأنَّ كلَّ إنسانٍ يُقالُ لهُ: فِعْلُكَ فِعْلُ الجاهليَّةِ، لا شكَّ أنَّهُ يَغْضَبُ؛ إذ إنَّهُ لا أحدَ يَرْضَى أَنْ يُوصَفَ بالجهلِ، ولا بأَنَّ فِعْلَهُ منْ أفعالِ الجاهليَّةِ، فالغرضُ من الإضافةِ هنا أمرانِ:
-التَّنْفِيرُ.
-وبيانُ أنَّ هذهِ الأمورَ كُلَّها جَهْلٌ وحُمْقٌ بالإنسانِ؛ إذْ ليسَتْ أَهلاً بأنْ يُرَاعِيَها الإنسانُ أوْ يعْتَنِيَ بها، فالَّذِي يعْتَنِي بها جاهلٌ.
والمرادُ بالجاهليَّةِ هنا ما قبلَ الْبَعْثَةِ؛
لأنَّهُم كانوا على جَهْلٍ وضلالٍ عظيمٍ، حتَّى إنَّ العربَ كانوا أجْهَلَ خَلْقِ اللهِ، ولهذا يُسَمَّوْنَ بالأُمِّييِّنَ، والأُمِّيُّ هوَ الذي لا يقرأُ ولا يَكْتُبُ، نسبةً إلى الأُمِّ، كأنَّ أُمَّهُ وَلَدَتْهُ الآنَ.
لكنْ لمَّا بُعِثَ فيهم هذا النبيُّ الكريمُ قالَ تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ } فهذهِ منَّةٌ عظيمةٌ أنْ بعثَ فيهم النبيَّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لهذهِ الأمورِ السَّامِيَةِ:
-يَتْلُو عليهم آياتِ اللهِ.
-ويُزَكِّيهِم، ويُطَهِّرُ أخلاقَهُم وعبادَتَهُم ويُنَمِّيها.
-ويُعَلِّمُهم الكتابَ.
-والحِكْمَةَ.
وهذهِ الفوائدُ الأربعٌ عظيمةٌ لوْ وُزِنَت الدُّنْيا بواحدةٍ منها لوَزَنَتْها عندَ مَنْ يَعْرِفُ قَدْرَها، ثمَّ بيَّنَ الحالَ منْ قبلُ قالَ: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} ، و {إنْ} هذهِ ليْسَتْ نافيةً، بلْ مُؤَكِّدَةً، فهيَ مُخَفَّفَةٌ من الثقيلةِ، يعني: وإنَّهُم كانوا منْ قبلُ لفي ضلالٍ مبينٍ.
إِذَن المرادُ بالجاهليَّةِ ما قبلَ البَعْثَةِ؛
لأنَّ الناسَ كانوا فيها على جهلٍ عظيمٍ، فجهلُهم شاملٌ للجهلِ في حقوقِ اللهِ وحقوقِ عبادِهِ، فمِنْ جَهْلِهِم أنَّهُم ينْصِبُونَ النُّصُبَ ويعْبُدُونَها مِنْ دُونِ اللهِ، ويَقْتُلُ أحدُهم ابْنَتَهُ لكيْ لا يُعَيَّرَ بها، ويقْتُلُ أولادَهُ منْ ذكورٍ وإناثٍ خشيةَ الفقرِ.
قولُهُ: (( لاَ يَتْرُكُونَهُنَّ ) )المرادُ: لا يتركونَ كلَّ واحدٍ منها باعتبارِ المجموعِ بالمجموعِ، بأنْ يكونَ كلُّ واحدٍ منها عندَ جماعةٍ، والثاني عندَ آخرينَ، والثالثُ عندَ آخرينَ، والرابعُ عندَ آخرينَ، وقدْ تجتمعُ هذهِ الأقسامُ في قبيلةٍ، وقدْ تخْلُو بعضُ القبائلِ منها جميعًا، إنَّما الأُمَّةُ كمجموعٍ لا بُدَّ أنْ يُوجَدَ فيها شيءٌ منْ ذلكَ؛ لأنَّ هذا خبرٌ من الصادقِ المصدوقِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
والمرادُ بهذا الخبرِ التنفيرُ؛
لأنَّهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قدْ يُخْبِرُ بأشياءَ قدْ تقعُ وليسَ غرضُهُ أنْ يُؤْخَذَ بها، كما قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ) )أيْ: فاحذَرُوا.
وأَخْبرَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ (( أَنَّ الظَّعِينَةَ تَخْرُجُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ تَخْشَى إِلاَّ اللهَ ) )أيْ: بلا مَحْرَمٍ، وهذا خبرٌ عنْ أمْرٍ واقعٍ، وليسَ إقرارًا لهُ شرعًا.
قولُهُ: (( الْفَخْرُ بِالأَحْسَابِ ) )الفخرُ: التعالي والتعاظمُ، والباءُ للسببيَّةِ، أَيْ: يفْخَرُ بسببِ الحَسَبِ الذي هُوَ عليهِ.
والحَسَبُ:
ما يحتسبُهُ الإنسانُ منْ شرفٍ وسُؤْدُدٍ، كأنْ يكونَ منْ بني هاشمٍ فيَفْتَخِرُ بذلكَ، أوْ مِنْ آباءٍ وأجدادٍ مشهورينَ بالشجاعةِ فيفتخرُ بذلكَ، وهذا مِنْ أمْرِ الجاهليَّةِ؛ لأنَّ الفخرَ في الحقيقةِ يكونُ بتقوى اللهِ الذي يمنعُ الإنسانَ من التعالي والتعاظمِ، والمُتَّقِي حقيقةً هوَ الذي كُلَّمَا ازْدَادَتْ نِعَمُ اللهِ عليهِ ازْدَادَ تواضُعًا للحقِّ وللخلقِ.
وإذا كانَ الفخرُ بالحَسَبِ مِنْ فِعْلِ الجاهليَّةِ فلا يجوزُ لنا أنْ نفْعَلَهُ؛ ولهذا قالَ تعالى لنساءِ نبيِّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } واعْلَمْ أنَّ ما يُنسَبُ إلى الجاهليَّةِ فهوَ مذمومٌ ومنْهِيٌّ عنهُ.
قولُهُ: (( الطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ ) )الطعنُ: العَيْبُ، لأنَّهُ وَخْزٌ معنويٌّ كَوَخْزِ الطاعونِ في الجسدِ؛ ولهذا سُمِّيَ العيبُ طعنًا.
والأنسابُ: جَمْعُ نَسَبٍ، وهو أصلُ الإنسانِ وقرابتُهُ، فَيَطْعَنُ في نسبِهِ كأنْ يقولَ: أَنْتَ ابنُ الدَّبَّاغِ، أوْ أنتَ ابنُ مُقطِّعةِ البُّظُورِ، وهو شيءٌ في فَرْجِ المرأةِ يُقْطَعُ عِندَ خِتانِ النساءِ.
قولُهُ: (( وَالاِسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ ) )أيْ: نسبةُ المطرِ إلى النجومِ معَ اعتقادِ أنَّ الفاعلَ هوَ اللهُ عزَّ وجلَّ.
أمَّا إن اعتقدَ أَنَّ النجومَ هيَ التي تَخلُقُ المطرَ والسَّحَابَ، أوْ دَعَاها منْ دُونِ اللهِ لتُنْزِلَ المطرَ، فهذا شِرْكٌ أكبرُ مُخْرِجٌ عن الملَّةِ.
قولُهُ: (( وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ ) )هذا هوَ الرابعُ، والنياحةُ: هيَ رفعُ الصوتِ بالبُكاءِ على الميِّتِ قَصْدًا، وينبغي أنْ يُضافَ إليهِ على سبيلِ النوْحِ، كَنَوْحِ الحمامِ.
والنَّدْبُ: تَعدادُ محاسنِ المَيِّتِ.
والنِّياحةُ منْ أمْرِ الجاهليَّةِ،
ولا بُدَّ أنْ تكونَ في هذهِ الأمَّةِ، وإنَّما كانتْ مِنْ أمْرِ الجاهليَّةِ:
-إمَّا من الجهلِ الذي هوَ ضِدُّ العِلْمِ.
-أوْ من الجهالةِ التي هيَ السَّفَهُ وهيَ ضدُّ الحكمةِ.
وإنَّما كانتْ كذلكَ لأمورٍ أربعة:
الأول:
أنَّها لا تَزِيدُ النائحَ إلاَّ شِدةً وحُزنًا وعذابًا.
الثاني:
أنَّها تَسَخُّطٌ منْ قضاءِ اللهِ وقدَرِهِ، واعتراضٌ عليهِ.
الثالث:
أنَّها تُهَيِّجُ أحزانَ غيرِهِ.
وقدْ ذُكِرَ عن ابنِ عَقِيلٍ رَحِمَهُ اللهُ، وهو منْ عُلَمَائِنا الحنابِلَةَ، أنَّهُ خرجَ في جنازةِ ابنِهِ عَقِيلٍ، وكانَ أكبرَ أولادِهِ وطالِبَ عِلْمٍ، فلمَّا كانوا في المقبرةِ صَرَخَ رجلٌ وقالَ: { يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } فقالَ لهُ ابنُ عَقِيلٍ رَحِمَهُ اللهُ: إنَّ القرآنَ إنَّما نَزَلَ لتسكينِ الأحزانِ، وليسَ لتهْيِيجِ الأحزانِ.
الرابع:
أنَّهُ معَ هذهِ المفاسدِ لا يَرُدُّ القضاءَ، ولا يَرْفَعُ ما نَزَلَ.
والنياحةُ تشملُ ما إذا كانتْ منْ رجلٍ أو امرأةٍ، لكن الغالبُ وُقُوعُها من النساءِ.
ولهذا قالَ: (( النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا ) )أيْ: إِنْ تَابَتْ قبلَ الموتِ تابَ اللهُ عليها، وظاهرُ الحديثِ أنَّ هذا الذَّنْبَ لا تُكَفِّرُهُ إلاَّ التَّوْبَةُ، وأنَّ الحسناتِ لا تَمْحُوهُ؛ لأنَّهُ منْ كبائرِ الذنوبِ، والكبائرُ لا تُمحَى بالحسناتِ، فلا يمحُوها إلاَّ التَّوْبَةُ.
قولُهُ: (( تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ ) )أيْ: تُقَامُ مِنْ قَبْرِهَا.
والسِّربالُ:
الثوبُ السابغُ كالدِّرْعِ، والقَطِرَانُ معروفٌ، ويُسمَّى الزِّفْتَ، وقيلَ: إنَّهُ النُّحَاسُ المُذَابُ.
قولُهُ: (( وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ ) )الجَرَبُ: مرضٌ معروفٌ يكونُ في الجلدِ يُؤَرِّقُ الإنسانَ، ورُبَّما يقْتُلُ الحيوانَ.
والمعنى أنَّ كلَّ جلدِها يكونُ جَرَبًا بمنزلةِ الدِّرْعِ، وإذا اجتمعَ قَطِرَانٌ وجَرَبٌ زادَ البلاءُ؛ لأنَّ الجربَ أيُّ شيءٍ يمَسُّهُ يتَأَثَّرُ بهِ، فكيفَ ومعَهُ قَطِرَانٌ؟!
والحكمَةُ: أنَّها لمَّا لمْ تُغَطِّ المُصِيبةَ بالصَّبْرِ غُطِّيَتْ بهذا الغطاءِ؛
سِرْبَالٍ منْ قَطِرَانٍ ودرعٍ منْ جَرَبٍ، فكانت العقوبةُ منْ جِنسِ العملِ.
قولُهُ في حديثِ زيدِ بنِ خالدٍ: (( صَلَّى لَنَا ) )أيْ: إمامًا؛ لأنَّ الإمامَ يُصَلِّي لنفْسِهِ ولغيرِهِ، ولهذا يَتْبَعُهُ المأمومُ.
وقيلَ
: إنَّ اللامَ بمعنى الباءِ، وهذا قريبٌ.
وقيلَ:
إنَّ اللامَ للتعليلِ، أيْ: صلَّى لأَجْلِنا.
قولُهُ: (( صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ ) )أيْ: صلاةَ الفجرِ، والحُدَيْبِيَةُ: فيها لُغَتَانِ: التخفيفُ وهوَ أكثرُ، والتَّشْدِيدُ، وهيَ اسمُ بِئْرٍ سُمِّيَ بها المكانُ.
وقيلَ:
إنَّ أصْلَها شجرةٌ حَدْبَاءُ تُسَمَّى حُدَيْبِيَةَ، والأكثرُ على أَنَّها اسمُ بئرٍ، وهذا المكانُ قريبٌ منْ مَكَّةَ، بعضُهُ في الحِلِّ وبعضُهُ في الحَرَمِ، نزلَ بهِ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في السَّنَةِ السادسةِ من الهجرةِ لمَّا قَدِمَ معتمرًا، فصدَّهُ المشركونَ عن البيتِ، وما كانوا أوْلِيَاءَهُ إنْ أوْلِيَاؤُهُ إلاَّ المُتَّقُونَ، ويُسمَّى الآنَ الشِّمِيسِيَّ.
قولُهُ: (عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ) الإِثْرُ معناهُ العَقِبُ، والأَثَرُ ما يَنْتُجُ عن السَّيْرِ.
قولُهُ: (سَماءٍ) المرادُ بهِ المطرُ.
قولُهُ: (كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ) (مِنْ) لابتداءِ الغايةِ، هذا هوَ الظاهرُ واللهُ أعلمُ، ويُحْتَمَلُ أنْ تكونَ بمعنى (في) للظرفيَّةِ.
قولُهُ: (فَلَمَّا انْصَرَفَ) أيْ: مِنْ صلاتِهِ، وليسَ مِنْ مكانِهِ؛ بدليلِ قولِهِ: (( أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ ) ).
قولُهُ: (( هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ ) )الاستفهامُ يُرادُ بهِ التنبيهُ والتشويقُ لِمَا سيُلقَى عليْهِمْ، وإلاَّ فالرَّسُولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَعْلَمُ أنَّهُم لا يَعْلَمُونَ ماذا قالَ اللهُ؛ لأنَّ الوَحْيَ لا يَنْزِلُ عليهِم.
ومعنى قولِهِ: (( هَلْ تَدْرُونَ ) )أيْ: هلْ تعلَمْونَ.
والمرادُ بالرُّبُوبِيَّةِ هنا الرُّبُوبِيَّةُ الخاصَّةُ؛
لأنَّ رُبُوبِيَّةَ اللهِ للمؤمنِ خاصَّةٌ، كما أَنَّ عُبوديَّةَ المؤمنِ لهُ خاصَّةٌ، ولكنَّ الخاصَّةَ لا تنافي العامَّةَ؛ لأنَّ العامَّةَ تشْمَلُ هذا وهذا، والخاصَّةَ تخْتَصُّ بالمؤمنِ.
قولُهُ: (( قالوا: اللهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ ) )فيهِ إشْكَالٌ نحْوِيٌّ؛ لأنَّ (أَعْلَمُ) خبرٌ عن اثنَيْنِ، وهيَ مُفْرَدٌ، فيُقَالُ: إنَّ اسْمَ التفضيلِ إذا نُوِيَ بِهِ معنى (مِنْ) ، وكانَ مُجَرَّدًا منْ (أَلْ) والإضافةِ، لَزِمَ فيهِ الإفرادُ والتذكيرُ.
وفيهِ:
أيضًا إشكالٌ معنَوِيٌّ، وهوَ أنَّهُ جَمَعَ بينَ اللهِ ورسولِهِ بالواوِ، معَ أنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لمَّا قالَ لهُ الرَّجُلُ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، قالَ: (( أَجَعَلْتَنِي للهِ نِدًّا؟! ) ).
فيُقَالُ: إنَّ هذا أمرٌ شرعيٌّ، وقدْ نزلَ على الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
وأمَّا إنكارُهُ على مَنْ قالَ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ؛ فلأنَّهُ أمْرٌ كوْنِيٌّ، والرسولُ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ ليسَ لهُ شَأْنٌ في الأمورِ الكونيَّةِ، والمرادُ بقوْلِهِم: (( اللهُ ورسولُهُ أعلمُ ) )، تفويضُ العلمِ إلى اللهِ ورسولِهِ، وأنَّهُم لا يعلمونَ.
قولُهُ: (( أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ ) ) (( مُؤْمِنٌ ) )صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ، أيْ: عبدٌ مؤمنٌ، وعبدٌ كافرٌ.
و (( أصبحَ ) )مِنْ أخواتِ كانَ، واسْمُها (( مؤمنٌ ) )وخبرُها (( مِنْ عِبَادِي ) ).
ويجوزُ أنْ يكونَ (( أصْبَحَ ) )فِعْلُها ماضٍ ناقِصٌ، واسمُها ضميرُ الشأنِ، أيْ: أصْبَحَ الشأنُ، فَـ (( منْ عبادِي ) )خبرٌ مُقَدَّمٌ، و (( مؤمنٌ ) )مبتدأٌ مُؤَخَّرٌ، أيْ: أصبحَ شأنُ الناسِ منْهُم مُؤْمنٌ ومنهم كافرٌ.
قولُهُ: (( فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ ) )أيْ: قَالَ بلسانِهِ وقلبِهِ، والباءُ للسببيَّةِ، والفضلُ: العطاءُ والزيادةُ.
والرحمةُ
: صفةٌ منْ صفاتِ اللهِ، يكونُ بها الإنعامُ والإحسانُ إلى الخلْقِ.
وقولُهُ: (( فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ ) )لأنَّهُ نَسَبَ المطرَ إلى اللهِ ولمْ يَنْسِبْهُ إلى الكوكبِ، ولمْ يرَ لهُ تأثيرًا في نُزُولِهِ، بلْ نَزَلَ بفضلِ اللهِ.
قولُهُ: (( وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا ) )الباءُ للسببِيَّةِ.
(( فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ ) )
وصارَ كافرًا باللهِ؛ لأنَّهُ أنْكَرَ نعمةَ اللهِ ونَسَبَها إلى سببٍ لم يَجْعَلْهُ اللهُ سببًا، فتَعَلَّقَتْ نفسُهُ بهذا السببِ، ونسِيَ نعمةَ اللهِ، وهذا الكُفْرُ لا يُخْرِجُ من الملَّةِ؛ لأنَّ المرادَ نسبةُ المطرِ إلى النَّوْءِ على أنَّهُ سببٌ، وليسَ إلى النَّوْءِ على أنَّهُ فاعلٌ؛ لأنَّهُ قالَ: (مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا) ولمْ يَقُلْ: أَنْزَلَ عَلَيْنَا الْمَطَرَ نَوْءُ كذا؛ لأنَّهُ لوْ قالَ كذلكَ لكانَ نسبةُ المطرِ إلى النَّوْءِ نسبةَ إيجادٍ، وبهِ نعرفُ خطأَ مَنْ قالَ: إنَّ المرادَ بقولِهِ: (مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا) نسبةُ المطرِ إلى النوءِ نسبةَ إيجادٍ؛ لأنَّهُ لوْ كانَ هذا هوَ المرادَ لقالَ: أَنْزَلَ علينا المطرَ نوءُ كذا، ولمْ يقُلْ: مُطِرْنَا بِهِ، فعُلِمَ أنَّ المرادَ أنَّ مَنْ أقرَّ بأنَّ الذي خلقَ المطرَ وأنزلَهُ هوَ اللهُ، لكنَّ النوْءَ هوَ السببُ فهوَ كافرٌ، وعليهِ يكونُ منْ بابِ الكُفْرِ الأصغرِ الذي لا يُخْرِجُ من الملَّةِ.