فهرس الكتاب
الصفحة 54 من 93

والمرادُ بالكوكبِ النَّجْمُ، وكانوا يَنْسِبُونَ المطرَ إليهِ ويقولونَ: إذا سقطَ النجمُ الفلانيُّ جاءَ المطرُ، وإذا طلعَ النجمُ الفلانيُّ جاءَ المطرُ، وليْسُوا يَنْسِبُونَهُ إلى هذا نسبةَ وَقْتٍ وإنَّما نسبةَ سببٍ.

فنسبةُ المطرِ إلى النَّوْءِ تنقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:

الأول:

نسبةُ إيجادٍ، وهذهِ شركٌ أكبرُ.

الثاني:

نسبةُ سببٍ، وهذهِ شركٌ أصغرُ.

الثالث:

نسبةُ وَقْتٍ، وهذهِ جائزةٌ

بأنْ يُرِيدَ بقولِهِ: (مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا) أيْ: جاءَنا المطرُ في هذا النَّوْءِ، أيْ: في وَقْتِهِ.

ولهذا قالَ العلماءُ: (يَحْرُمُ أنْ يقُولَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، ويجوزُ: مُطِرْنَا في نَوْءِ كذا) وفَرَّقُوا بيْنَهُما أنَّ الباءَ للسببيَّةِ وفي للظرفيَّةِ، ومِنْ ثَمَّ قالَ أهلُ العلمِ: (إنَّهُ إذا قالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كذا، وجَعلَ الباءَ للظرفيَّةِ، فهذا جائزٌ، وهذا وإنْ كانَ لهُ وَجْهٌ منْ حيثُ المعنى، لكنْ لا وَجْهَ لهُ منْ حيثُ اللفظُ؛ لأنَّ لفظَ الحديثِ:(( مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا ) )والباءُ للسببيَّةِ أظهرُ منها للظرْفيَّةِ، وهيَ وإنْ جاءتْ للظرفيَّةِ كما في قولِهِ تعالى: { وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ... } لكنْ كوْنُها للسببيَّةِ أظهرُ، والعكسُ بالعكسِ، فَـ (في) للظرفيَّةِ أظهرُ منها للسببيَّةِ، وإنْ جاءَتْ للسببيَّةِ كما في قولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ ) ).

والحاصلُ: أنَّ الأقربَ المنعُ ولوْ قَصَدَ الظرفيَّةَ، لكنْ إذا كانَ المتكلِّمُ لا يَعْرِفُ من الباءِ إلاَّ الظرفيَّةَ مطلقًا، ولا يظُنُّ أنَّها تأتي سببيَّةً، فهذا جائزٌ.

ومعَ ذلكَ فالأَوْلَى أنْ يُقَالَ لهمْ قولُوا: في نَوْءِ كذا.

قولُهُ:

(( وَلَهُمَا ) )الظاهرُ: أنَّهُ سَبْقُ قَلَمٍ، وإلاَّ فالحديثُ في (مسلمٍ) وليسَ في (الصحيحَيْنِ) .

ومعنى الحديثِ:

أنَّهُ لَمَّا نَزَلَ المطرُ نسبَهُ بعضُهم إلى رحمةِ اللهِ، وبعضُهمْ قالَ: لقدْ صدَقَ نَوْءُ كذا وكذا، فكأنَّهُ جعلَ النوءَ هوَ الذي أَنْزَلَ المطرَ، أوْ أُنزِلَ بسبَبِهِ.

ومنهُ:

ما يُذْكَرُ في بعضِ كُتُبِ التوقيتِ:

(وَقَلَّ أَنْ يُخْلَفَ نَوْؤُهُ) أوْ (هَذَا نَوْؤُهُ صَادِقٌ) وهذا لا يجوزُ، وهوَ الذي أنْكَرَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ على عبادِهِ، وهذا شِرْكٌ أصغرُ، ولوْ قَالَ: بإِذْنِ اللهِ؛ فإنَّهُ لا يجوزُ؛ لأنَّ كلَّ الأسبابِ مِن اللهِ، والنوءُ لمْ يجْعَلْهُ اللهُ سببًا.

قولُهُ: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} اخْتُلِفَ في (لا) فقيلَ: نافيةٌ، والمنفيُّ محذوفٌ، والتقديرُ: لا صِحَّةَ لِمَا تزعُمُونَ مِنْ أَنَّ القرآنَ كَذِبٌ أوْ سحرٌ وشعرٌ وكَهَانةٌ، أُقْسِمُ بمواقعِ النجومِ إنَّهُ لقُرْآنٌ كريمٌ، فـ {أُقْسِمُ} لا علاقةَ لها بـ (لا) إطلاقًا، وهذا لهُ بعضُ الوَجْهِ.

وقيلَ:

إنَّ المنفيَّ القَسَمُ، فهيَ داخلةٌ على {أُقْسِمُ} أيْ: لا أُقْسِمُ ولنْ أُقْسِمَ على أنَّ القرآنَ قرآنٌ كريمٌ؛ لأنَّ الأمرَ أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يحتاجَ إلى قَسَمٍ، وهذا ضعيفٌ جدًّا.

وقيلَ:

إنَّ (لا) للتَّنْبِيهِ،

والجملةَ بعْدَها مُثْبَتَةٌ؛ لأنَّ (لا) بمعنى: انْتَبِهْ، أُقْسِمُ بمواقعِ النجومِ... وهذا هوَ الصحيحُ.

وقولُهُ: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} اخْتُلِفَ في النجومِ، فقيلَ: إنَّها النجومُ المعروفةُ، فيكونُ المرادُ بمواقعِها مَطَالِعَهَا ومغارِبَها، وأقسمَ اللهُ بها لِمَا فيها من الدَّلالةِ على كمالِ القدرةِ في هذا الانتظامِ البديعِ، وما فيها مِنْ مناسبةِ المُقسَمِ بهِ والمُقْسَمِ عليهِ وهوَ القرآنُ المحفوظُ بواسطةِ الشُّهُبِ؛ فإنَّ السماءَ عندَ نُزُولِ الوحيِ مُلِئَتْ حَرَسًا شديدًا وشُهُبًا.

وقيلَ:

إنَّ المرادَ آجالُ نزولِ القرآنِ،

ومنهُ قوْلُهُمْ: (نَزلَ القرآنُ مُنَجَّمًا) .

وقولُ الفقهاءِ: ( يَجِبُ أنْ يكونَ دَيْنُ المُكَاتِبِ مُؤَجَّلاً بنجْمَيْنِ فأَكْثرَ) فيكونُ اللهُ أقسمَ بمواقعِ نزولِ القرآنِ.

وقدْ سَبَقَتْ لنا قاعدةٌ مفيدةٌ،

وهِيَ أنَّهُ: إذا كانَ المعنيانِ لا يتنافيانِ حُملت الآيةُ على كلٍّ مِنْهُما، وإلاَّ طُلِبَ المُرَجِّحُ.

قولُهُ: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (قَسَمٌ) خبرُ إنَّ، وهذا القسَمُ أكَّدَ اللهُ عظمتَهُ بإنَّ واللامِ تنويهًا بالمُقسَمِ عليهِ وتعظيمِهِ.

وقولُهُ: {لوْ تَعْلَمُونَ} مُؤَكِّدٌ ثالثٌ، كأنَّهُ قالَ: (ينبغي أنْ تعلَمُوا هذا الأمرَ ولا تجهلُوهُ، فهوَ أعظمُ مِنْ أنْ يكونَ مجهولاً، فإنَّهُ يحتاجُ إلى علمٍ وانتباهٍ، فلوْ تعلمونَ حقَّ العلمِ لعرفتُمْ عظمتَهُ، فانْتَبِهُوا) .

قولُهُ: {لَقُرْآنٌ} مصدرٌ مثلُ الغُفْرَانِ والشُّكْرَانِ، بمعنى اسمِ الفاعلِ، وبمعنى اسمِ المفعولِ.

فعلى الأَوَّلِ يكونُ المرادُ أنَّهُ جامعٌ للمعاني التي تضمَّنَتْها الكُتُبُ السابقةُ من المصالحِ والمنافعِ، قَالَ تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } وعلى الثاني يكونُ بمعنى المجموعِ؛ لأنَّهُ مجموعٌ مكتوبٌ.

قولُهُ: {كَرِيمٌ} يُطلَقُ على كثيرِ العطاءِ، وهذا كمالٌ في العطاءِ مُتَعَدٍّ للغَيْرِ.

ويُطلَقُ على الشيءِ البهيِّ الحَسَنِ، ومنهُ قولُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( إِيَّاكَ وَكَرائِمَ أَمْوَالِهِمْ ) )أي: البهيَّ منها والحسَنَ، وهذا كمالٌ في الذَّاتِ.

وهذانِ المعنيانِ موجودانِ في القرآنِ، فالقرآنُ لا أحسنَ مِنْهُ في نفسهِ، قَالَ تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً } والقرآنُ يُعْطِي أهلَهُ من الخيراتِ الدينيَّةِ والدنيويَّةِ والجسميَّةِ والقلبيَّةِ، قَالَ تعالى: { فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبيرًا } فهوَ سلاحٌ لمَنْ تمسَّكَ بِهِ، ولكنْ يحتاجُ إلى أنْ نتمسَّكَ بِهِ في القولِ والعملِ والعقيدةِ، فلا بُدَّ أنْ يُصَدِّقَ العقيدةَ العملُ، قَالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( أَلاَ إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ ) ).

ووصفَ اللهُ القرآنَ في آيةٍ أخرى بأنَّهُ مجيدٌ،

والْمَجْدُ صفةُ العظمةِ والعزَّةِ والقُوَّةِ، والقرآنُ جامعٌ بينَ الأمرَيْنِ: فيهِ قُوَّةٌ وعظمةٌ، وكذا خيراتٌ كثيرةٌ وإحسانٌ لمَنْ تمسَّكَ بِهِ.

قولُهُ: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} كتابٌ: فِعَالٌ بمعنى مفعولٍ، مثلُ: فِراشٍ بمعنى مفروشٍ، ومثلُ: غِراسٍ بمعنى مغروسٍ، وكتابٌ: بمعنى مكتوبٍ، والمكنونُ: المحفوظُ، قَالَ تعالى: { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ } .

واختلفَ المفسِّرونَ في هذا الكتابِ على قولَيْنِ:

الأَوَّلُ:

أنَّهُ اللوحُ المحفوظُ

الذي كَتَبَ اللهُ فيهِ كلَّ شيءٍ.

الثاني: وإليهِ ذهبَ ابنُ القيِّمِ، أنَّهُ الصُّحُفُ التي في أيدي الملائكةِ، قَالَ تعالى: { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ... } .

فقولُهُ: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} يُرَجِّحُ أنَّ المرادَ الكُتُبُ التي في أيدي الملائكةِ؛ لأنَّ قولَهُ: { لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ } أي: الملائكةُ، يُوَازِنُ قوْلَهُ: { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } وعلى هذا يكونُ المرادُ بالكتابِ الجنسَ لا الواحدَ.

قولُهُ: {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} الضميُر يعودُ إلى الكتابِ المكنونِ؛ لأنَّهُ أقربُ شيءٍ، وهوَ بالرَّفْعِ {لاَ يَمَسُّهُ} باتَّفَاقِ القُرَّاءِ، وإنَّما نبَّهْنَا على ذلكَ لدَفْعِ قولِ مَنْ يقولُ: إنَّهُ خبرٌ بمعنى النَّهْيِ، والضميرُ يعودُ على القرآنِ، أيْ: نُهِيَ أنْ يَمَسَّ القرآنَ إلاَّ طاهرٌ، والآيةُ ليسَ فيها ما يدلُّ على ذلكَ، بلْ هيَ ظاهرةٌ في أنَّ المرادَ بهِ اللوحُ المحفوظُ؛ لأنَّهُ أقربُ مذكورٍ؛ ولأنَّهُ خبرٌ، والأصلُ في الخبرِ أنْ يبقى على ظاهِرِهِ خبرًا، لا أمرًا ولا نَهْيًا، حتَّى يقومَ الدليلُ على خلافِ ذلكَ، ولم يَرِدْ ما يدلُّ على خلافِ ذلكَ، بلِ الدليلُ على أنَّهُ لا يُرادُ بهِ إلاَّ ذلِكَ، وأنَّهُ يعودُ إلى الكتابِ المكنونِ؛ ولهذا قالَ اللهُ: {إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} باسمِ المفعولِ، ولمْ يَقُلْ: {إلاَّ المُطَهِّرُونَ} ولوْ كان المرادُ المُطَهِّرِينَ لقالَ ذلكَ، أوْ قالَ: إلاَّ المُتَطَهِّرُونَ، كما قالَ تعالى: { إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } .

والمُطَهَّرُونَ

: هُم الذينَ طَهَّرَهُم اللهُ تعالى، وهُم الملائكةُ، طُهِّرُوا مِن الذنوبِ وأدْنَاسِها، قَالَ تعالى: { لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ } .

-وقَالَ تعالى: { يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } .

-وقَالَ تعالى: { بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } .

-قولُهُ: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} خبرٌ ثانٍ لقولِهِ: {وَإِنَّهُ} وهوَ كقولِهِ: { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .

-وكقَوْلِهِ: { تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } فهوَ خبرٌ مُكَرَّرٌ معَ قولِهِ: {لَقُرْآنٌ} .

و {تَنْزِيلٌ} أيْ: مُنَزَّلٌ، فهيَ مصدرٌ بمعنى مُنَزَّلٌ منْ ربِّ العالمينَ، أنزَلَهُ اللهُ على قَلْبِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ؛ لأنَّهُ مَحَلُّ الوعيِ والحفظِ بواسطةِ جبريلَ، قَالَ تعالى: { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } .

-وقولُهُ: {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أيْ: خَالقِهِم.

-قولُهُ: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} الاستفهامُ للإنكارِ والتوبيخِ، والحديثُ: القرآنُ.

والمُدْهِنُ: الخائفُ مِنْ غيرِهِ الذي يُحَابِيهِ بقولِهِ وفعلِهِ، والمعنى: أَتُدْهِنُونَ بهذا الحديثِ وتخافونَ وتسْتَخْفُونَ، لا ينبغي لكُمْ هذا، بلْ ينبغي لِمَنْ معَهُ القرآنُ أنْ يَصْدَعَ بهِ وأنْ يُبَيِّنَهُ ويُجَاهدَ بِهِ، قالَ تعالى: { وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبيرًا } .

-قولُهُ: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } أكثرُ المفسِّرينَ على أنَّهُ على حَذْفِ مُضَافٍ، أيْ: أتَجْعَلُونَ شُكْرَ رِزْقِكُم، أيْ: ما أعْطَاكُم اللهُ مِنْ أيِّ شيءٍ من المطرِ ومِنْ إنزالِ القرآنِ، أيْ: تجعلونَ شُكرَ هذه النِّعْمَةِ العظيمةِ أنْ تُكَذِّبُوا بها، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ وإنْ كانَ ذَكَرَها في المطرِ فإنَّها تشْمَلُ المطرَ وغيرَهُ.

وقيلَ:

إنَّهُ ليسَ في الآيةِ حَذْفٌ،

والمعنى: تجعلونَ شُكْرَكُم تكذيبًا، وقالَ: إنَّ الشكرَ رزقٌ، وهذا هوَ الصحيحُ، بلْ هوَ مِنْ أكْبَرِ الأرزاقِ، قالَ الشاعرُ:

نعمةَ اللهِ نعمةً عَلَيَّ لهُ في مثْلِها يَجِبُ الشكرُ

فكيفَ بلوغُ الشُّكْرِ إلاَّ بفضلِهِ وإنْ طَالَت الأيَّامُ واتَّصَلَ العمرُ

فالنعمةُ تحتاجُ إلى شكرٍ،

ثمَّ إذا شكَرْتَهَا فهيَ نعمةٌ أخرى تحتاجُ إلى شُكْرٍ ثانٍ، وإنْ شَكَرْتَ في الثانيةِ فهيَ نعمةٌ تحتاجُ إلى شُكْرٍ ثالثٍ، وهكذا أبدًا، قالَ تعالى: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا } .

-قولُهُ: {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} (أنَّ) وما دخَلَتْ عليهِ في تأويلِ مصدرٍ مفعولِ {تجعلونَ} الثاني، أيْ: تُصَيِّرونَ شُكْرَكُم تكذيبًا، ولا شكَّ أنَّ هذا من السَّفهِ أنْ يُقَابِلَ الإنسانُ نعمةَ ربِّهِ بالتكذيبِ، إنْ كانتْ وحيًا كَذَّبَ خبرَهُ ولمْ يمْتَثِلْ أمْرَهُ ولمْ يجْتَنِبْ نهيَهُ، وإنْ كانتْ عطَاءً تنْمُو بِهِ الأجسامُ نسبَهُ إلى غيرِ اللهِ، قالَ: هذا من النوءِ، أوْ هذا مِنْ عَمَلِي، كمَا قالَ قَارُونُ: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي } .

فيهِ مسائلُ:

الأُولى:

(تَفْسِيرُ آيَةِ الواقِعَةِ) وهيَ قولُهُ تعالى: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } وقدْ مرَّ تفسيرُها.

الثانيةُ: (ذِكْرُ الأرْبعِ التي مِنْ أَمْرِ الجاهليَّةِ)

وهيَ الطعنُ بالأنسابِ، والفخرُ بالأحسابِ، والاستسقاءُ بالأنواءِ، والنياحةُ على المَيِّتِ.

الثالثةُ: (ذِكْرُ الكُفْرِ في بَعْضِها)

وهيَ الاسْتِسْقَاءُ بالأنواءِ، وكذلكَ الطَّعْنُ في النسبِ، والنِّيَاحَةُ على الميِّتِ، كما في حديثِ: (( اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ ) ).

(22) الرابعةُ: (أَنَّ مِن الكُفْرِ ما لا يُخْرِجُ مِن الملَّةِ) وهيَ أنَّ الاستسقاءَ بالأنواءِ بعضُهُ كفرٌ مُخْرِجٌ عن الملَّةِ، وبعضُهُ كفرٌ دونَ ذلكَ، وقدْ سبقَ بيانُ ذلكَ.

(23) الخامسةُ: قولُهُ: (( أَصْبَحَ مِنْ عِبادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ ) )بسببِ نزولِ النِّعْمَةِ) أيْ: أنَّ الناسَ ينقسمونَ عندَ نُزُولِ النعمةِ إلى مؤمنٍ باللهِ وكافرٍ بِهِ، وقدْ سَبَقَ بيانُ حُكْمِ إضافةِ نزولِ المطرِ إلى النوءِ، والواجبُ على الإنسانِ إذا جاءَتْهُ النعمةُ أنْ لا يُضِيفَها إلى أسبابِها مُجَرَّدةً عن اللهِ، بلْ يعتقدُ أنَّ هذا سببٌ مَحْضٌ إنْ كانَ هذا سببًا.

مثالُ ذلكَ: (رَجُلٌ غَرِقَ في ماءٍ وكانَ عندَهُ رجلٌ قَوِيٌّ، فنَزَلَ وأنْقَذَهُ) فإنَّهُ يَجِبُ على هذا الذي نجا أنْ يعرفَ نعمةَ اللهِ عليهِ، ولولا أنَّ اللهَ أمَرَ أمْرًا قَدَريًّا وأَمْرًا شرعيًّا أنْ يُنْقِذَكَ هذا الرجلُ ما حصلَ إنقاذٌ، فأنتَ تعتقدُ أنَّ هذا سببٌ مَحْضٌ.

أمَّا إنْ غَرِقَ ويسَّرَ اللهُ لهُ فَخَرَجَ فقالَ: إنَّ الوَلِيَّ الفلانيَّ أنقذَني. فهذا شركٌ أكبرُ؛ لأنَّهُ سببٌ غيرُ صحيحٍ.

ثمَّ إنَّ إضافتَهُ إليهِ لا يَظْهَرُ منها أنَّهُ يُرِيدُ أنَّهُ سببٌ، بلْ يُرِيدُ أنَّهُ مُنْقِذٌ بنفسِهِ؛ لأنَّ اعتقادَ أنَّهُ سببٌ وَهُوَ في قبرِهِ غيرُ واردٍ، ولذلكَ كانَ أصحابُ الأَوْلِيَاءِ إذا نَزَلَتْ بهمْ شِدَّةٌ يسألونَ الأَوْلِيَاءَ دُونَ اللهِ تعالى، فيقَعُونَ في الشركِ الأكبرِ منْ حيثُ لا يعلمونَ أوْ منْ حيثُ يعلمونَ، ثمَّ قدْ يُفْتَنُونَ فيحْصُلُ لهم ما يُرِيدونَ عندَ دعاءِ الأَوْلِيَاءِ لا بهِ؛ لأنَّنا نعلمُ أنَّ هؤلاءِ الأَوْلِيَاءَ لا يستجيبونَ لهُمْ؛ لقَوْلِهِ تعالى: { إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ } .

-وقوْلِهِ: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } إلى يَومِ القِيامَةِ.

السادسةُ: (التَّفَطُّنُ للإيمانِ في هَذا الموضعِ)

وهو نِسْبَةُ المطرِ إلى فضلِ اللهِ ورحمتِهِ.

السابعةُ: (التَّفَطُّنُ لِلْكُفْرِ في هَذا الْمَوْضِعِ)

وهوَ نسبةُ المطرِ إلى النوءِ، فيقالُ: هذا بسببِ النوءِ الفلانيِّ، وما أشبهَ ذلكَ.

الثَّامِنَةُ:

التَّفَطُّنُ لِقَوْلِهِ: (لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذا وَكَذا) .

وهذا قريبٌ منْ قولِهِ: (( مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا ) )لأنَّ الثناءَ بالصدقِ على النَّوْءِ مقتضاهُ أنَّ هذا المطرَ بوعدِهِ، ثمَّ بتنفيذِ وعدِهِ.

التاسعةُ: (إِخْراجُ العالِمِ للمُتَعلِّمِ المسألةَ بالاستفهامِ عَنْها؛ لقولِهِ:

(( أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ ) )).

وذلكَ أنْ يُلقِيَ العالمُ على المُتَعَلِّمِ السؤالَ لأجلِ أنْ ينْتَبِهَ لَهُ، وإلاَّ فالرَّسُولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَعْلَمُ أنَّ الصحابةَ لا يعلمونَ ماذا قالَ اللهُ، لكنْ أرادَ أنْ يُنَبِّهَهُم لهذا الأمرِ، فقالَ: (( أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ ) )وهذا يُوجِبُ استحضارَ قُلُوبِهِم.

العاشرةُ: (وَعيدُ النَّائِحَةِ) وذلكَ بقوْلِهِ: (( إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ ودِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ ) )وهذا وعيدٌ عظيمٌ.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام