عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا.
فَقَالَ: (( السَّيِّدُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ) )
قُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلاً، وَأَعْظَمُنَا طَوْلاً.
فَقَالَ: (( قُولُوا بِقَوْلِكُمْ، أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ، وَلاَ يَسَتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ) ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ.
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، يَا خَيْرَنَا، وَابْنَ خَيْرِنَا، وَسَيِّدَنَا، وَابْنَ سَيِّدِنَا. فَقَالَ: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا بِقَوْلِكُمْ وَلاَ يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ، أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِيَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ) )رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَحْذِيرُ النَّاسِ مِنَ الْغُلُوِّ.
الثَّانِيَةُ:
مَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ مَنْ قِيلَ لَهُ: أَنْتَ سَيِّدُنَا.
الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ:
(( لاَ يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ) )مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا إِلاَّ الْحَقَّ.
الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: (( مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي ) ).
مناسبةُ البابِ للتَّوحيدِ:
لمَّا تكلَّمَ المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ فيما مَضَى منْ كتابِهِ على إثباتِ التَّوحيدِ، وعلى ذِكْرِ ما يُنَافِيهِ أوْ يُنَافي كمالَهُ، ذكرَ ما يَحْمِي هذا التَّوحيدَ، وأنَّ الواجبَ سَدُّ طُرُقِ الشِّركِ منْ كلِّ وَجْهٍ حتَّى في الألفاظِ؛ ليكونَ خالِصًا منْ كُلِّ شَائِبَةٍ.
قال الشيخ ابن قاسم في حاشيته على (كتاب التوحيد) (ص:393) : (وحمايته حمى التوحيد: صونه عما يشوبه من الأقوال والأعمال التي يضمحل معها التوحيد أو ينقص، وقد اشتمل هذا الكتاب مع اختصاره على ذلك أو أكثر، وعلى النهي عمُا ينافي التوحيد أو يضعفه، يعرف ذلك من تدبره ) .
قولُهُ:(انطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَني
عامرٍ)الظَّاهرُ أنَّ هذا الوفدَ قَدِمَ على النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ في العامِ التَّاسعِ؛ لأنَّ الوفودَ كثُرَتْ في ذلكَ العامِ، ولذلكَ يُسمَّى عامَ الوفودِ.
قولُهُ: (أَنْتَ سيِّدُنا) السَّيِّدُ: ذُو السُّؤْدُدِ والشَّرفِ، والسُّؤْدُدُ معناهُ: العظَمَةُ والفخْرُ وما أشبهَهُ.
قولُهُ: (السَّيِّدُ اللهُ) لمْ يَقُلْ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ: سيِّدُكُم، كما هوَ مُتَوَقَّعٌ؛ حيثُ إنَّهُ رَدٌّ على قولِهِم: (سيِّدُنا) لوجْهَيْنِ:
الوجهُ الأوَّلُ:
إرادةُ العُمُومِ المستفادِ منْ (أَلْ) ؛ لأنَّ (أَلْ) للعمومِ، والمعنى: أنَّ الَّذي لهُ السِّيادةُ المطلقَةُ هوَ اللهُ عزَّ وجلَّ، ولكنَّ السَّيِّدَ المضافَ يكونُ سَيِّدًا باعتبارِ المضافِ إليهِ، مِثلَ: سيِّدِ بني فُلانٍ، سيِّدِ البَشَرِ، وما أشبهَ ذلكَ.
الوجهُ الثَّاني:
لِئَلاَّ يُتَوَهَّمَ أنَّهُ مِنْ جنسِ المضافِ إليهِ؛
لأنَّ سيِّدَ كلِّ شيءٍ مِنْ جنْسِهِ.
و (السَّيِّدُ) منْ أسماءِ اللهِ تعالى، وهيَ منْ معاني الصَّمَدِ، كما فسَّرَ ابنُ عبَّاسٍ الصَّمدَ بأنَّهُ الكامِلُ في عِلْمِهِ وحِلْمِهِ وسُؤْدُدِهِ، وما أشبهَ ذلكَ.
ولمْ ينْهَهُم صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ عنْ قولِهِم: (أَنْتَ سيِّدُنا) ، بلْ أذِنَ لهم بذلكَ فقالَ: (( قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ ) )لكنْ نَهَاهُمْ أنْ يَسْتَجْرِيَهُم الشيطانُ فيَتَرَقَّوْا من السِّيادةِ الخاصَّةِ إلى السِّيادةِ العامَّةِ المطلقةِ؛ لأنَّ (سَيِّدَنا) سيادةٌ خاصَّةٌ مُضَافَةٌ، و (السَّيِّدُ) سيادةٌ عامَّةٌ مُطْلَقةٌ غيرُ مضافةٍ.
قولُهُ: (تَبَارَكَ) قالَ العلماءُ: (معنى تباركَ: أيْ كثُرَتْ بَرَكَاتُهُ وخَيْرَاتُهُ) ولهذا يقولونَ: إنَّ هذا الفعلَ لا يُوصَفُ بهِ إلاَّ اللهُ، فلا يُقالُ: تباركَ فلانٌ؛ لأنَّ هذا الوصفَ خاصٌّ باللهِ.
والبركةُ يَصِحُّ إضافتُهَا إلى الإنسانِ إذا كانَ أهلاً لذلكَ.
كما قالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ حينَ نَزَلَتْ آيةُ التَّيمُّمِ بسببِ عِقْدِ عائشةَ الَّذي ضاعَ منها: (مَا هَذِهِ بأَوَّلِ بَرَكَتِكُم يا آلَ أبي بَكْرٍ) .
قولُهُ: (وأفضَلُنا) أيْ: فَضْلُكَ أفضلُ مِنْ فَضلِنا.
قولُهُ: (وأعْظَمُنا طَوْلاً) أيْ: أعظمُنا شَرَفًا وغِنًى، والطَّوْلُ: الغِنى، قالَ تعالى:
{ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ } .
ويكونُ بمعنى العظَمةِ، قالَ تعالى: { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ } ، أيْ: ذي العظَمَةِ والغِنى.
قولُهُ: (قُولُوا بِقوْلِكُم، أَوْ بَعْضِ قوْلِكُم) الأمرُ للإباحَةِ والإذنِ كما سبَقَ.
وقولُهُ: (قُولُوا بِقَوْلِكُم) يعني: قوْلَهُم: أنتَ سيِّدُنا، أوْ أنتَ أفضلُنَا، وما أشبهَ ذلكَ.
وقولُهُ: (أوْ بعْضِ قولِكُم) يحتَمِلُ أنْ يكونَ شَكًّا مِن الرَّاوِي، أوْ أنْ يكونَ منْ لفظِ الحديثِ، أي: اقْتَصِرُوا على بعْضِهِ.
قولُهُ: (وَلاَ يَسَتَجْرِينَّكُمُ الشَّيْطَانُ) اسْتَجْرَاهُ بمعنى جَذَبَهُ وجعلَهُ يجري معهُ، أيْ: لا يَسْتَمِيلَنَّكُم الشَّيطانُ ويَجْذِبَنَّكُم إلى أنْ تقولوا قولاً مُنْكَرًا، فأرشدَهُم صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ إلى ما ينبغي أنْ يُفْعَلَ، ونهاهُم عن الأمرِ الَّذي لا ينبغي أن يُفْعَلَ؛ حمايةً للتَّوحيدِ من النَّقصِ أو النَّقضِ.
وقالَ في (النِّهايةِ) : (لاَ يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) أيْ: لا يَسْتَغْلِبَنَّكُمْ فيتَّخِذَكُم جَرْيًا، أيْ: رسولاً ووكيلاً.
وعلى كلا التفسيرَيْنِ فمرادُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حمايةُ التوحيدِ وسدُّ كلِّ طريقٍ يُوصِلُ إلى الشِّركِ.
والحمايةُ من المنكَرِ تَعْظُمُ كُلَّما كانَ المنكرُ أعظمَ وأكبرَ، أوْ كانَ الداعي إليهِ في النفوسِ أشدَّ؛ ولهذا تَجِدُ أنَّ بابَ الشِّركِ حماهُ النَّبيُّ عَليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حمايةً بالغةً حتَّى سدَّ كلَّ طريقٍ يُمْكِنُ أنْ يكونَ ذريعةً إليهِ؛ لأنَّهُ أعظمُ الذنوبِ.
وأيضًا بابُ الزِّنا حُمِيَ حمايةً عظيمةً، حتَّى مُنِعَت المرأةُ من التَّبرُّجِ وكشْفِ الوجهِ وخَلْوَتِهَا بالرَّجُلِ المُحَرَّمِ وما أشبهَ ذلكَ؛ لِئَلاَّ يكونَ ذلكَ ذريعةً إلى الزِّنَا؛ لأنَّ النُّفوسَ تَطْلُبُهُ.
وفي بابِ الرِّبا أيضًا حُمِيَ الرِّبا بحمايةٍ عظيمةٍ،
حتَّى إنَّ الرَّجلَ لَيُعْطِي الرَّجلَ صاعًا من البُرِّ بصاعَيْنِ قيمتُهُما واحدةٌ، ويكونُ ذلكَ ربًا مُحَرَّمًا، معَ أنَّهُ ليسَ فيهِ ظُلْمٌ.
فالشِّركُ قدْ يكونُ من الأمورِ الَّتي لا تدعو إليهِ النُّفوسُ كثيرًا،
لكنَّهُ أعظمُ الظُّلمِ، فالشَّيطانُ يحرِصُ على أنْ يُوصِلَ ابنَ آدمَ إلى الشِّركِ بكلِّ وسيلةٍ، فحماهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم حمايةً تامَّةً مُحْكمةً؛ حتَّى لا يدخلَ الإنسانُ فيهِ منْ حيثُ لا يشعرُ، وهذا هوَ معنى البابِ الَّذي ذكَرَهُ المؤلِّفُ.
تنبيهٌ:
جرَى شُرَّاحُ هذا الحديثِ على أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ نهاهُمْ عنْ قولِ: سيِّدُنا، فحاوَلُوا الجمعَ بينَ هذا الحديثِ وبينَ قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ:
(( أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ) )وقولِهِ: (( قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ ) )وقولِهِ في الرَّقيقِ: (( وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي وَمَوْلاَيَ ) )بواحدٍ مِنْ ثلاثةِ أَوْجُهٍ:
الأوَّلُ:
أنَّ النَّهيَ على سبيلِ الكراهَةِ والأدبِ،
والإباحةَ على سبيلِ الجوازِ.
الثَّاني:
أنَّ النَّهيَ حيثُ يُخْشَى منهُ المفسدةُ، وهيَ التّدرُّجُ إلى الغُلُوِّ، والإباحةَ إذا لم يكُنْ هناكَ مَحْذُورٌ.
الثَّالثُ:
أنَّ النَّهيَ بالخطابِ، أيْ: أنْ تُخَاطِبَ الغيرَ بقولِكَ: أنْتَ سيِّدي أوْ سيِّدُنا، بخلافِ الغائبِ؛ لأنَّ المخاطَبَ رُبَّما يكونُ في نفسِهِ عُجْبٌ وعُلوٌّ وتَرَفُّعٌ، ثمَّ إنَّ فيهِ شيئًا آخرَ وهو خضوعُ هذا المتسيِّدِ لهُ وإذلالُ نفسِهِ لهُ بخلافِ ما إذا جاءَ من الغَيْرِ، مثلَ: (( قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ ) )أوْ على سبيلِ الغَيْبَةِ، كقولِ العبدِ: قالَ سيِّدي، ونحوَ ذلكَ.
لكنَّ هذا يُرَدُّ عليهِ إباحتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ للرَّقيقِ أنْ يقولَ لمالكِهِ: سيِّدي.
والَّذي يظهرُ لي أنْ لا تعارُضَ أصلاً؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أَذِنَ لهُمْ أنْ يقولوا بقولِهم، لكنْ نهاهُم أنْ يَسْتَجْرِيَهُم الشيطانُ بالغُلُوِّ، مثلَ ( السيِّدِ ) ؛ لأنَّ السَّيِّدَ المطلقَ هوَ اللهُ تعالى.
وعلى هذا يجوزُ أنْ يُقَالَ: سيِّدُنا، وسيِّدُ بني فلانٍ، ونحوُهُ، ولكنْ بشرطِ أنْ يكونَ المُوَجَّهُ إليهِ السِّيادةُ أهلاً لذلكَ، أمَّا إذا لم يكُنْ أهلاً كما لوْ كانَ فاسِقًا أوْ زِنْدِيقًا فلا يُقالُ لهُ ذلكَ ، حتَّى ولوْ فُرِضَ أنَّهُ أعلى منْهُ مَرْتَبَةً أوْ جَاهًا، وقدْ جاءَ في الحديثِ: (( وَلاَ تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ: سَيِّدٌ؛ فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمْ ذَلِكَ أَغْضَبْتُمُ اللهَ ) )فإذا كانَ أهلاً لذلكَ وليسَ هناكَ محذورٌ، فلا بأسَ بهِ، وأمَّا إنْ خُشِيَ المحذورُ أوْ كانَ غيرَ أهلٍ فلا يجوزُ، والْمَحذورُ هوَ الخشيةُ من الغلوِّ فيهِ.
قولُهُ: قالوا: (يا رسولَ اللهِ) هذا النِّداءُ مُوَافِقٌ لقولِهِ تعالى:
{ لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } ، أيْ: لا تُنَادُوهُ كما يُنَادِي بعضُكُم بعضًا فتقُولُوا: يا مُحَمَّدُ، ولكنْ قولوا: يا رسولَ اللهِ، أوْ يا نبيَّ اللهِ.
وفي الآيةِ معنًى آخَرُ: أيْ: إذا دَعاكُم الرَّسولُ فلا تجعلوا دُعاءَهُ إيَّاكُم كدُعَاءِ بعضِكُم بعضًا إنْ شئتُم أجبْتُم وإنْ شِئتُمْ أبَيْتُمْ، فهوَ كقولِهِ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } ، وعلى المعنى الأوَّلِ تكونُ (دُعاءِ) مضافةً إلى المفعولِ، وعلى الثَّاني تكونُ مضافةً إلى الفاعلِ.
قولُهُ: (خيْرُنا) هذا صحيحٌ، فهوَ خيرُهُم نَسَبًا ومَقَامًا وحالاً.
قولُهُ: (وابنُ خيرِنَا) أيْ: في النسبِ، لا في المَقَامِ والحالِ، وكذلكَ يُقَالُ في قولِهِ: (وابنُ سيِّدِنا) .
قولُهُ: (قُولُوا بِقَوْلِكُمْ) سبقَ القولُ فيهِ.
قولُهُ: (وَلاَ يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) أيْ: لا يَسْتَمِيلَنَّكُم الشَّيطانُ فتَهْوَوْهُ وَتَتَّبِعُوا طُرُقَهُ حتَّى يَبْلُغُوا الغُلُوَّ، ونظيرُهُ قولُهُ تعالَى: { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ } .
قولُهُ: (أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ) (مُحَمَّدٌ) اسمُهُ العلَمُ، و (عبدُ اللهِ ورسولُهُ) وصفانِ لهُ، وهذانِ الوصفانِ أحسنُ وأبلغُ وصفٍ يتَّصفُ بهِ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ؛ ولذلكَ وصفَهُ اللهُ تعالى بالعبوديَّةِ في أعظمِ المَقَامَاتِ، فوصفَهُ بها في مَقَامِ إنزالِ القرآنِ عليهِ، قالَ تعالى: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } ووصَفَهُ بها في مقامِ الإسراءِ، قالَ تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } ووصَفَهُ بها في مَقَامِ المعراجِ.
قالَ تعالى: { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } ووصفَهُ بها في مَقَامِ الدِّفاعِ عنهُ والتحدِّي، قالَ تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } .
وكذلكَ:
بالنِّسْبَةِ للأنبياءِ، كقولِهِ تعالى: { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} وهذهِ العُبُودِيَّةُ خاصَّةٌ، وهيَ أعلى أنواعِ الخاصَّةِ.
والعبوديَّةُ للهِ مِنْ أَجَلِّ أوصافِ الإنسانِ؛ لأنَّ الإنسانَ إمَّا أن يَعْبُدَ اللهَ أو الشَّيطانَ، قالَ تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } .
قالَ ابنُ القيِّمِ:
هَرَبُوا مِن الرِّقِّ الذي خُلِقُوا لهُ فَبُلُوا بِرِقِّ النَّفسِ والشَّيطانِ
وقالَ الشَّاعرُ:
لا تدْعُنِي إِلاَّ بِيا عَبْدَها فَإنَّهُ أشْرَفُ أَسْمَائِي
(ورَسُولُهُ) أي: المُرْسَلُ منْ عنْدِهِ إلى جميعِ النَّاسِ، كما قالَ تعالى:
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } .
ورسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم في قِمَّةِ الطَّبقاتِ الصَّالحةِ، قالَ تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } والنَّبيُّونَ فيهم الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ، بلْ هوَ أفضلُهُم.
ومِنْ عبارةِ المؤلِّفِ رَحِمَهُ اللهُ في الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ: (عَبْدٌ لاَ يُعْبَدُ، ورَسُولٌ لا يُكَذَّبُ) .
وقدْ تَطَرَّفَ في الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ طائفتانِ:
-طائفةٌ غَلَتْ فيهِ حتَّى عَبَدَتْهُ، وأعَدَّتْهُ للسَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، وصارَتْ تَعْبُدُهُ وتدْعُوهُ مِنْ دونِ اللهِ.
-وطائِفةٌ كذَّبَتْهُ وزعَمَتْ أنَّهُ كاذِبٌ ساحِرٌ شاعرٌ مجنونٌ كاهنٌ، ونحوَ ذلِكَ.
وفي قولِهِ: (عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ) رَدٌّ على الطَّائفتَيْنِ.
قولُهُ: (مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي) (ما) نافيةٌ، و (أنْ) ومَا دَخَلَتْ عليهِ في تأويلِ مصدرٍ مفعولِ أُحِبُّ، أيْ: ما أُحِبُّ رِفْعَتَكُم إيَّايَ فوقَ منزلتِي، لا في الألفاظِ، ولا في الألقابِ، ولا في الأحوالِ.
قولُهُ: (الَّتي أَنْزَلَنِيَ اللهُ) يُستفادُ منهُ أنَّ اللهَ تعالى هوَ الَّذي يجعلُ الفضلَ في عبادِهِ، ويُنَزِّلُهُم منازلَهُم.
فيهِ مسائلُ:
الأولى: (تَحذيرُ النَّاسِ مِن الغُلُوِّ) تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: (( لاَ يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ) )ووجهُهُ: أنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ جعلَ هذا من استجراءِ الشَّيطانِ، والإنسانُ يَجِبُ عليهِ أنْ يَحْذَرَ كلَّ ما كانَ منْ طُرُقِ الشَّيطانِ.
الثانيةُ: (ما يَنْبَغي أنْ يقولَ مَنْ قِيلَ لَهُ: أنْتَ سيِّدُنا) وتُؤْخَذُ منْ قولِهِ: (( السَّيِّدُ اللهُ ) )فينبغي أنْ يقولَ مَنْ قيلَ لهُ ذلكَ: السَّيِّدُ اللهُ.
الثَّالِثةُ: (قولُهُ:(( لاَ يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ) )مَعَ أنَّهم لَمْ يَقُولُوا إِلاَّ الحَقَّ)، ظاهِرُ كلامِ المؤلِّفِ أنَّ هذا من استجراءِ الشَّيطانِ، فهذهِ الكلمةُ يُحْتَمَلُ أنَّ معناها أنَّ ما قُلْتُمْ من استجراءِ الشَّيطانِ.
ويُحْتَمَلُ أنَّ المعنى: قُولُوا بهذا القولِ ، ولكنْ إيَّاكُمْ أنْ تَغْلُوا؛ فإنَّ هذا من استجراءِ الشَّيطانِ، وهذا ظاهرُ الحديثِ كما سَبَقَ.
الرَّابعةُ: قولُهُ: (( مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي ) )أيْ: إنِّي أَكْرَهُ أنْ تَرْفَعُوني فوقَ مَنْزِلَتِي وهيَ العبوديَّةُ والرِّسالةُ، ففيها تواضُعُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.