وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبي لا إلَهَ إلاَّ هُوَ عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وإليهِ مَتَابِ} [الرَّعْدُ:30] .
وَفِي (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) قَالَ عَلِيٌّ: (حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُرِيدُونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ) .
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً انْتَفَضَ لَمَّا سَمِعَ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصِّفَاتِ اسْتِنْكَارًا لِذَلِكَ فَقَالَ: (مَا فَرَقَ هَؤُلاَءِ؟ يَجِدُونَ رِقَّةً عِنْدَ مُحْكَمِهِ وَيَهْلِكُونَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ) انْتَهَى.
وَلَمَّا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الرَّحْمَنَ أَنْكَرُوا ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرَّعْدُ:30] .
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى:
عَدَمُ الإِيمَانِ بِجَحْدِ شَيْءٍ مِنَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
الثَّانِيَةُ:
تَفْسِيرُ آيَةِ الرَّعْدِ.
الثَّالِثَةُ:
تَرْكُ التَّحْدِيثِ بِمَا لاَ يَفْهَمُ السَّامِعُ.
الرَّابِعَةُ:
ذِكْرُ الْعِلَّةِ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَكْذِيبِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَوْ لَمْ يَتَعَمَّدِ الْمُنْكِرُ.
الْخَامِسَةُ:
كَلاَمُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِمَنِ اسْتَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُ أَهْلَكَهُ.
الجحدُ: هو الإنكارُ.
والإنكارُ نوعانِ:
الأوَّلُ: إنكارُ تكذيبٍ.
وهذا كفرٌ بلا شكٍّ، فلوْ أنَّ أحداً أنكرَ اسماً مِنْ أسماءِ اللهِ، أو صِفَةً مِنْ صفاتِهِ الثابتةِ في الكتابِ والسُّنَّةِ، مثلَ أنْ يقولَ: ليسَ للهِ يدٌ، أو أنَّ اللهَ لم يَسْتَوِ على عرشِهِ، أو ليسَ له عينٌ فهوَ كافرٌ بإجماعِ المسلمينَ؛ لأنَّ تكذيبَ خبرِ اللهِ ورسولِهِ كفرٌ مخرِجٌ عن الملَّةِ بالإجماعِ.
الثاني:
إنكارُ تأويلٍ،
وهو أنْ لا يُنْكِرَهَا ولكنْ يتأوَّلُها إلى معنًى يخالِفُ ظاهرَهَا وهذا نوعانِ:
أحدهما:
أنْ يكونَ للتأويلِ مسوِّغٌ في اللُّغةِ العربيَّةِ
فهذا لا يُوجِبُ الكفرَ.
والآخر:
أنْ لا يكونَ له مسوِّغٌ في اللُّغةِ العربيَّةِ،
فهذا حُكْمُهُ الكفرُ؛ لأنَّه إذا لم يكنْ له مسوِّغٌ صارَ في الحقيقةِ تكذيباً، مثلَ أنْ يقولَ المرادُ بقولِهِ تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} تجري بأَراضِينَا، فهذا كافِرٌ؛ لأنَّه نَفَاهَا نفياً مطلَقاً، فهو مُكذِّبٌ.
ولو قالَ في قولِهِ تعالَى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} المرادُ بيديهِ السمواتُ والأرضُ، فهو كُفْرٌ أيضاً؛ لأنَّه لا مسوِّغَ له في اللُّغةِ العربيَّةِ، ولا هوَ مُقْتَضَى الحقيقةِ الشرعيَّةِ فهو منكِرٌ ومكذِّبٌ، لكنْ إنْ قالَ: المرادُ باليدِ النِّعْمةُ أو القوَّةُ فلا يُكَفَّرُ؛ لأنَّ اليدَ في اللُّغةِ تطلَقُ بمعنى النعمةِ، قالَ الشاعرُ:
وَكَمْ لِظَلامِ الليلِ عندَك من يدٍ تُحَدِّثُ أنَّ المَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ
فقولُه: (مِنْ يدٍ) أيْ: مِنْ نعمةٍ؛ لأنَّ المانويَّةَ يقولونَ: إنَّ الظُّلمةَ لا تخلُقُ الخيرَ، وإنَّما تخلُقُ الشرَّ.
قولُه: (( مِنَ الأسماءِ ) )جمعُ اسمٍ واختُلِفَ في اشتقاقِهِ:
فقيلَ:
مِنَ السُّمُوِّ وهو الارتفاعُ، ووجهُ هذا أنَّ المسمَّى يرتفعُ باسمِهِ ويتبيَّنُ ويظهرُ.
وقيلَ:
مِنَ السِّمَةِ وهي العلامةُ، ووجهُه: أنَّه علامةٌ على مسمَّاهُ، والراجحُ أنَّه مشتَقٌّ مِنْ كِلَيْهِمَا.
والمرادُ بالأسماءِ -هنا-: أسماءُ اللهِ عزَّ وجلَّ، وبالصفاتِ صفاتُ اللهِ عزَّ وجلَّ، والفرقُ بينَ الاسمِ والصفةِ أنَّ الاسمَ ما تَسَمَّى بهِ اللهُ، والصفةَ: ما اتَّصَفَ بهِ، وأحسن من هذا أن يقال: إن الاسم ما دل على الذات، والصفة ما دل على معنى قائم بالذات (2)
قولُه تعالَى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} الآيةَ: {وَهُمْ} أيْ: كُفَّارُ قُريشٍ.
{يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} المرادُ: أنَّهمْ يكفرونَ بهذا الاسمِ لا بالمسمَّى، فهمْ يُقِرُّونَ بهِ، قالَ تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} وفي حديثِ سُهَيْلِ بنِ عمرٍو: (لَمَّا أرادَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ علَيْهِ وسلَّمَ أنْ يَكْتُبَ الصُّلْحَ في غَزْوَةِ الحُدَيبِيَّةِ قالَ للكاتبِ: اكْتُبْ:(بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ) .
قالَ سُهيلٌ: أمَّا الرحمَنُ، فَواللهِ ما أَدْرِي مَا هي؟
ولكنْ اكْتُبْ: (باسمِك اللهُمَّ) .
وهذا مِنَ الأمثلةِ التي يُرادُ به الاسمُ دونَ المسمَّى).
وقدْ قالَ تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} أيْ: بأيِّ اسمٍ مِنْ أسمائِه تدعونَهُ فإنَّ لَهُ الأسماءَ الحسنَى فكلُّ أسمائِهِ حُسنَى فادعُوا بما شِئْتمْ مِنَ الأسماءِ، ويُرادُ بهذهِ الآيةِ الإنكارُ على قريشٍ.
وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ مَنْ أنكرَ اسماً مِنْ أسمائِهِ تعالى فإنَّه يَكْفُرُ؛ لقولِهِ تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} ولأنَّه مكذِّبٌ للهِ ولرسولِهِ وهذا كُفرٌ، وهذا وجهُ استشهادِ المؤلِّفِ بهذه الآيةِ.
قولُه: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} خبرُ (لا) النافيةِ للجنسِ محذوفٌ، والتقديرُ: لا إلهَ حقٌّ إلا هوَ، وأمَّا الإلهُ الباطِلُ فكثيرٌ، قالَ تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ} .
قولُه: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أيْ: عليهِ وحدَه؛ لأنَّ تقديمَ المعمولِ يدلُّ على الحصرِ، فإذا قلتَ مثلاً: (ضرَبْتُ زيداً) فإنَّه يدلُّ على أنَّكَ ضرَبْتَهُ، ولكنْ لا يدلُّ على أنَّكَ لم تضرِبْ غيرَه، وإذا قلتَ: (زيداً ضربتُ) دلَّتْ على أنَّكَ ضربتَ زيداً ولم تضرِبْ غيرَه، وسبَقَ معنى التوَكُّلِ وأحكامُه.
قولُه: {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} أيْ: إلى اللهِ، و {متاب} أصلُها متابي، فحُذِفَت الياءُ تخفيفاً، والمتابُ بمعنى: التوبةِ، فهو مصدرٌ مِيميٌّ، أيْ: وإليهِ تَوْبَتِي.
والتوبةُ: هي الرُّجوعُ إلى اللهِ تعالَى مِنَ المعصيَةِ إلى الطاعةِ، ولها شروطٌ خمْسةٌ:
الأول: الإخلاصُ للهِ تعالى، بأنْ لا يَحْمِلَ الإنسانَ على التوبةِ مراعاةُ أحدٍ، أو محاباتُه، أو شيءٌ من الدُّنْيَا.
الثاني: أنْ تكونَ في وقتِ قَبولِ التوبةِ، وذلكَ قَبلَ طلوعِ الشمسِ من مغربِهَا، وقبلَ حضورِ الموتِ.
الثالث: الندمُ على ما مضى مِنْ فِعْلِه، وذلكَ بأنْ يَشْعُرَ بالتحسُّرِ على ما سبقَ ويتمنَّى أنَّه لمْ يكنْ.
الرابع: الإقلاعُ عَنِ الذنبِ، وعلى هذا فإذا كانت التوبةُ مِنْ مظالمِ الخلْقِ فلا بُدَّ مِنْ ردِّ المظالمِ إلى أهلِهِا واستحلالِهِم منْها.
الخامس: العزمُ على عدمِ العودةِ، والتوبةُ التي لا تكونُ إلا للهِ هي توبةُ العبادةِ، كما في الآيةِ السابقةِ، وأمَّا التوبةُ التي بمعنى الرجوعِ فإنها تكونُ له ولغيرِه، ومنهُ قولُ عائشةَحينَ جاءَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فوجَدَ نُمْرُقةً فيها صورٌ، فوقفَ بالبابِ ولمْ يدخُلْ وقالتْ: (أتوبُ إلى اللهِ ورسولِهِ، ما أَذْنَبْتُ) فليسَ المرادُ بالتوبةِ هنا توبةَ العبادةِ؛ لأنَّ توبةَ العبادةِ لا تكونُ للرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، ولا لغيرِهِ مِنَ الخلقِ، بل للهِ وحدَه، ولكنْ هذهِ توبةُ رجوعٍ، ومِنْ ذلكَ أيضاً حينَ يَضْرِبُ الإنسانُ ابنَهُ لسوءِ أدبِهِ، يقولُ الابنُ: أتوبُ.
قولُه في أثرِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنْه: (( حدِّثُوا الناسَ ) )أيْ: كلِّموهُم بالمواعِظِ وغيرِ المواعظِ.
قولُه: (( بِما يَعْرِفونَ ) )أيْ: بما يُمكنُ أنْ يَعْرِفوه وتَبْلُغَهُ عقولُهُمْ حتى لا يُفتَنوا، ولهذا جاءَ عَن ابنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: (إنَّكَ لَنْ تُحدِّثَ قوْماً حَديثاً لا تبلُغُه عقولهُمْ إلا كانَ لبعضِهِم فتنةً) ولهذا كانَ مِنَ الحكمةِ في الدعوةِ ألاَّ تُباغِتَ الناسَ بما لا يُمكِنُهم إدراكُه، بل تَدْعُونَهُم رُوَيْداً رُوَيْداً حتّى تستقِرَّ عُقولُهم، ولَيسَ مَعنى (( بِما يَعرِفون ) )أيْ: بما يعرفونَهُ مِنْ قبلُ؛ لأنَّ الذيْ يعرفونَهُ مِنْ قبلُ يكونُ التحديثُ بهِ تحصيلَ الحاصلِ.
قال في (فتح المجيد) ص476: (وقد كان شيخنا المصنف ـ رحمه الله ـ لا يُحب أن يقرأ على الناس إلا ما ينفعهم في أصل دينهم وعباداتهم ومعاملاتهم الذي لا غنى لهم عن معرفته، وينهاهم عن القراءة في مثل كتب ابن الجوزي(كالمنعش) و (المرعش) و (التبصرة) لما في ذلك من الإعراض عمّا هو أوجب وأنفع، وفيها ما الله به أعلم مما لا ينبغي اعتقاده ـ والمعصوم من عصمه الله) .
قولُه: (( أتريدونَ أنْ يُكَذَّبَ اللهُ ورسولُهُ ) )الاستفهامُ للإنكارِ، أيْ: أتريدونَ إذا حدّثْتُم الناسَ بما لا يعرفونَ أنْ يُكَذَّبَ اللهُ ورسولُه؟
لأنكَ إذا قلتَ: قالَ اللهُ وقالَ رسولُه كذا وكذا، قالوا: هذا كذبٌ إذا كانتْ عقولهُم لا تبلُغُهُ، وهمْ لا يُكذِّبونَ اللهَ ورسولَه، ولكنْ يكذِّبونكَ بحديثٍ تَنْسِبُهُ إلى اللهِ ورسولِهِ، فيكونونَ مكذِّبينَ للهِ ورسولِهِ لا مباشرةً، ولكنْ بواسطةِ الناقلِ.
فإنْ قيلَ: هل نَدَعُ الحديثَ بما لا تبلُغُهُ عقولُ الناسِ وإن كانوا محتاجين لذلك؟
أُجِيبَ: لا ندعُهُ، ولكنْ نُحدِّثُهُمْ بطريقٍ تبلُغُهُ عقولُهُمْ، وذلكَ بأنْ نَنْقُلَهُمْ رُوَيْداً رُوَيْداً حتى يتقبَّلوا هذا الحديثَ ويَطْمَئِنُّوا إليهِ، ولا ندعُ مالا تبلُغُه عقولهُم ونقولُ: هذا شيءٌ مُسْتَنْكَرٌ لا نَتَكلَّمُ بِهِ.
ومثلَ ذلكَ العملُ بالسُّنةِ التي لا يَعْتَادُها الناسُ ويَسْتَنْكِرُونها، فإنَّنا نعملُ بها ولكنْ بعدَ أنْ نُخْبِرَهم بها؛ حتَّى تَقْبَلَها نفوسُهُم ويطمَئِنُّوا إليها.
مناسبةُ هذا الأثرِ لبابِ الصفاتِ:
ظاهِرةٌ؛
لأنَّ بعضَ الصفاتِ لا تحتملُها أفهامُ العامةِ، فيمكنُ إذا حدَّثْتَهُمْ بها كانَ لذلكَ أثرٌ سيئٌ عليهِمْ، كحديثِ النزولِ إلى السماءِ الدنيا مع ثبوتِ العلوِّ، فلوْ حدَّثْتَ العامَّةَ بأنَّه ينزِلُ إلى السماءِ الدنيا بذاتِهِ مع علوِّهِ على عرشِهِ، فقدْ يَفْهَمُ أنَّه إذا نزلَ صارَت السماواتُ فوقَه وصارَ العرشُ خالياً منهُ، وحينئذٍ لا بدَّ في هذا مِنْ حديثٍ تبلغُهُ عقولهُمْ، فتبيِّنُ لهمْ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ينزلُ نزولاً لا يماثِلُ نزولَ المخلوقينَ مع علوِّهِ على عرشِهِ، وأنَّه لكمالِ فضلِهِ ورحمتِهِ يقولُ: (( مَنْ يَدعونِي فأَسْتَجيبَ لهُ.. ) )الحديثَ.
والعامِّيُّ يكفيهِ أنْ يتصوَّرَ مُطلقَ المعنى، وأنَّ المرادَ بذلكَ بيانُ فضلِ اللهِ عزَّ وجلَّ في هذهِ الساعةِ مِنَ الليلِ.
قولُه في أثرِ ابنِ عبَّاسٍ: (انتَفَضَ) أيْ: اهتزَّ جسمُه، والرجلُ مُبْهَمٌ، والصفةُ التي حُدِّثَ بها لم تُبَيَّنْ، وبيانُ ذلكَ ليسَ مهمّاً، وهذا الرجلُ انتفضَ استنكاراً لهذهِ الصفةِ، لا تعظيماً للهِ، وهذا أمرٌ عظيمٌ صعبٌ؛ لأنَّ الواجبَ على المرءِ إذا صحَّ عندَهُ شيءٌ عَن اللهِ ورسولِهِ أنْ يُقِرَّ بهِ ويُصدِّقَ؛ ليكونَ طريقُهُ طريقَ الراسخينَ في العلمِ، حتى وإنْ لم يسمعْهُ مِنْ قبلُ أو يتصوَّرْهُ.
قولُه: (ما فرق) فيها: ثلاثُ رواياتٍ:
الأولى: (فَرَقُ) بفتحِ الرَّاءِ وضَمِّ القافِ.
الثانية: (فَرَّقَ) بتشديدِ الرَّاءِ وفتحِ القافِ.
الثالثة: (فَرَقَ) بفتحِ الراءِ مخَفَّفَةً وفتحِ القافِ.
فعلى روايةِ (فَرَقُ) تكونُ (ما) استفهاميَّةً مبتدأً، و (فَرَقُ) خبرُ المبتدأِ، أيْ: ما خوْفُ هؤلاءِ من إثباتِ الصفةِ التي تُلِيَتْ عليهمْ وبلغَتْهُمْ، لماذا لا يُثبتونها للهِ عزَّ وجلَّ كما أثبتَها اللهُ لنفسِهِ وأثبتَها لهُ رسولُه؟
وهذا يَنْصَبُّ تماماً على أهلِ التَّعْطِيلِ والتَّحْريفِ الذينَ ينكِرونَ الصفاتِ، فما الذي يخوِّفُهُمْ من إثباتِهَا، واللهُ تعالى قدْ أثبتَها لنفسِهِ.
وعلى روايةِ: (فرَّقَ أو فَرَقَ) تكونُ فِعْلاً ماضياً بمعنى: ما فرَّقهم كقولِهِ تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} أي: فرَّقْنَاه و (ما) يُحتملُ أنْ تكونَ نافيةً، والمعنى: ما فرَّقَ هؤلاءِ بينَ الحقِّ والباطلِ، فجَعَلُوا هذا مِنَ المُتَشَابِهِ وأنكروهُ ولم يحملوهُ على المُحْكَمِ، ويُحتملُ أنْ تكونَ استفهاميَّةً والمعنى: أيُّ شيءٍ فرَّقهمْ فجعلَهُمْ يؤمنونَ بالْمُحْكَمَ ويَهْلِكُونَ عِنْدَ المتشابهِ؟
قولُه: (( يَجدونَ رِقَّةً عِندَ مُحْكَمِهِ ) )الرِّقةُ: اللِّينُ والقبولُ، و (مُحْكَمِهِ) أي: محكمِ القرآنِ.
قولُه: (( ويَهْلِكُونَ عِنْدَ مُتشابِهِهِ ) )أي: مُتَشَابِهِ القرآنِ.
والمُحْكَمُ: الذي اتَّضَحَ معناهُ وتبيَّنَ.
والمتشابهُ:
هو الذي يَخْفَى معناهُ،
فلا يعلَمُهُ الناسُ، وهذا إذا جُمِعَ بينَ المحكمِ والمتشابهِ، وأمَّا إذا ذُكِر المحكمُ مفرداً دونَ المتشابهِ فمعناه المُتْقَنُ الذي ليسَ فيه خَلَلٌ، لا كذِبَ في أخبارِهِ ولا جَوْرَ في أحكامِهِ، قالَ تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} .
وقدْ ذكرَ اللهُ الإحكامَ في القرآنِ دونَ المتشابهِ وذلكَ مثلَ قولِهِ تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} وقالَ تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} .
وإذا ذُكِر المتشابهُ دونَ المحكمِ صارَ المعنى أنَّه يُشبهُ بعضُهُ بعضاً في جودتِهِ وكمالِهِ، ويُصَدِّقُ بعضُه بعضاً ولا يتناقَضُ، قالَ تعالى: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ} .
والتشابهُ نوعانِ:
تشابهٌ نسبيٌّ، وتشابهٌ مطلَقٌ.
والفرقُ بينَهما: أنَّ المطلقَ يخفَى على كلِّ أحدٍ.
والنِّسبيَّ يخفَى على أحدٍ دونَ أحدٍ، وبناءً على هذا التقسيمِ ينبني الوقفُ على قولِهِ تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فعلى الوقفِ على {إلاَّ اللهُ} يكونُ المرادُ بالمتشابهِ التشابهَ المطلقَ، وعلى الوصلِ {إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يكونُ المرادُ بالمتشابهِ المتشابهَ النسبيَّ، وللسلفِ في ذلكَ قولانِ:
القولُ الأوَّلُ: الوقفُ على {إِلاَّ اللهُ} وعليهِ أكثرُ السلفِ، وعلى هذا فالمرادُ بالمتشابهِ المتشابهُ المطلَقُ الذي لا يعلمُهُ إلا اللهُ، وذلكَ مثلَ كيفيَّةِ وحقائقِ صفاتِ اللهِ، وحقائقِ ما أخبرَ اللهُ بهِ منْ نعيمِ الجنَّةِ وعذابِ النارِ، قالَ اللهُ تعالى في نعيمِ الجنَّةِ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} أي: لا تعلمُ حقائقَ ذلكَ، ولذلكَ قالَ ابنُ عبَّاسٍ: (ليسَ في الدنيا شيءٌ مما في الجنةِ إلا الأسماءُ) .
قال في (فتح المجيد) ص480: (بعدما سرد الآثار الواردة عن السلف في المتشابه: قال: قلت: وليس في هذه الآثار ونحوها ما يُشعر بأن الأسماء والصفات من المتشابه، وما قاله النفاةُ: من أنها من المتشابه، دعوى بلا برهان)
والقولُ الثاني: بالوصلِ فيُقرأُ: {إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} وعلى هذا فالمرادُ بالمتشابهِ المتشابهُ النسبيُّ وهذا يعلَمُهُ الراسخونَ في العلمِ ويكونُ عندَ غيرِهم متشابهاً، ولهذا يُرْوَى عَنِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّهُ قالَ: (أَنا مِنَ الرَّاسخين في العِلْمِ الذينَ يعلمونَ تأويلَهُ) ولم يقلْ هذا مَدْحاً لنفسِهِ أو ثناءً عليها، ولكنْ ليَعْلَمَ الناسُ أنَّه ليسَ في كتابِ اللهِ شيءٌ لا يُعْرَفُ معناه، فالقرآنُ معانيهِ كلُّها بيِّنَةٌ، لكنَّ بعضَ القرآنِ يشتبِهُ على ناسٍ دونَ آخرينَ، حتى العلماءُ الراسخونُ في العلمِ يختلفونَ في معنى القرآنِ، وهذا يدلُّ على أنَّه خَفِيَ على بعضِهم، والصوابُ بلا شكٍّ مع أحدِهم إذا كانَ اختلافُهُمْ اختلافَ تضادٍّ لا تنوُّعٍ، أمَّا إذا كانت الآيةُ تحتملُ المعنيينِ جميعاً بلا منافاةٍ ولا مُرَجِّحٍ لأحدِهِما فإنَّها تُحْمَلُ عليْهِما جميعاً.
قولُه: (( وَلَمَّا سمِعتْ قُريشٌ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَذْكُرُ الرَّحمنَ ) )أصلُ ذلكَ أنَّ سُهَيْلَ بنَ عمرٍو، أحدَ الذينَ أرسلتْهُمْ قريشٌ لمفاوضةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في صلحِ الحديبيَّةِ، وأمرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنْ يَكْتُبَ (بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ) .
فقالَ: أَمَّا الرحمنُ فلا واللهِ ما أدريْ ما هي؟
وقالُوا: إنَّنا لا نعرِفُ رَحْماناً إلا رحمنَ اليَمامةِ، فأنكرُوا الاسمَ دونَ المسمَّى.
فأنزلَ اللهُ: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} ) أيْ: بهذا الاسمِ مِنْ أسماءِ اللهِ.
وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ مَنْ أنكرَ اسماً مِنْ أسماءِ اللهِ الثابتةِ في الكتابِ أو السُّنَّةِ فهو كافرٌ؛ لقولِهِ تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} .
وقولُه: (وَلَمَّا سمِعَتْ قريشٌ) الظاهِرُ -واللهُ أعلَمُ- أنَّه مِنْ بابِ العامِّ الذي أُريدَ بهِ الخاصُّ، وليسَ كلُّ قريشٍ تُنْكِرُ ذلكَ بلْ طائفةٌ منهم، ولكنْ إذا أقَرَّت الأمَّةُ الطائفةَ على ذلكَ ولمْ تُنكِرْ صحَّ أنْ يُنسَبَ لهم جميعاً، بلْ إنَّ اللهَ نسبَ إلى اليهودِ في زمنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ما فعلَهُ أسلافُهُمْ في زمنِ موسى عليهِ السلامُ، قالَ تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} وهذا لمْ يكنْ في عهدِ المخاطَبِينَ.
فيهِ مَسائِلُ:
الأُولَى: (عَدَمُ الإيمانِ بِجَحدِ شيءٍ منَ الأسماءِ والصِّفاتِ) (عدمُ) بمعنى انتفاءٍ أي: انتفاءُ الإيمانِ بسببِ جحْدِ شيءٍ مِنَ الأسماءِ والصفاتِ، وسبقَ التفصيلُ في ذلكَ.
الثانيةُ: (تفسيرُ آيةِ الرَّعدِ) وهيَ قولُه تعالَى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} وسبقَ تفسيرُهَا.
الثالثةُ: (تَرْكُ التَّحديثِ بِما لا يَفْهَمُ السَّامعُ) وهذا ليسَ على إطلاقِهِ، وقدْ سبقَ التفصيلُ فيهِ عندَ شرحِ الأثرِ.
الرابعةُ: (ذكْرُ العِلَّةِ أَنَّهُ يُفضِي إِلى تَكذيبِ اللهِ ورسولِهِ، وَلَوْ لَمْ يَتَعَمَّدِ المُنْكِرُ)
وهي أنَّ الذي لا يبلُغُ عقلُهُ ما حُدِّثَ بهِ يُفْضِي به التحديثُ إلى تكذيبِ اللهِ ورسولِهِ، فيُكَذِّبُ ويقولُ: هذا غيرُ ممكنٍ، وهذا يوجَدُ من بعضِ الناسِ في أشياءَ كثيرةٍ مما أخبرَ به النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مما يكونُ يومَ القيامةِ، كما أخبرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( أنَّ الأرضَ يَوْمَ القِيامةِ تكون خُبْزةً واحدةً يَتكَفَّؤُها الجبَّارُ بِيَدِهِ كَما يَتَكَفَّأُ أحدُكم خُبزَتَه ) )وما أشبهَ ذلكَ، وكمَا أنَّ الصِّراطَ أحدُّ مِنَ السيفِ وأدقُّ مِنَ الشعرةِ، وغيرُ هذهِ الأمورِ لوْ حدَّثَنا بها إنساناً عامِّيًّا لأوشكَ أنْ يُنكِرَ، لكنْ يجبُ أنْ تُبَيِّنَ له بالتدريجِ حتَّى يتمكَّنَ مِنْ عَقْلِها مثْلَمَا نعلِّمُ الصبيَّ شيئاً فشيئاً.
وقولُه: (( وَلَوْ لَمْ يَتَعَمَّدِ المنْكِرُ ) )أيْ: ولوْ لمْ يقصِد المنكِرُ تكذيبَ اللهِ ورسولِهِ، ولكنْ كذَّبَ نسبةَ هذا الشيءِ إلى اللهِ ورسولِهِ، وهذا يعودُ بالتالي إلى ردِّ خبرِ اللهِ ورسولِهِ.
الخامسةُ: (( كلامُ ابْنِ عبَّاسٍ لِمَن اسْتَنْكَرَ شَيئاً مِنْ ذلِكَ وأَنَّهُ أَهْلَكَهُ ) )
وذلكَ قولُه: (( ما فَرَّقَ هؤلاءِ؟ يَجِدونَ رِقَّةً - أي لِيناً- عند مُحْكَمِهِ -فيَقْبَلونَهُ- ويَهْلِكُونَ عِنْدَ متشابِهِهِ ) )فينكرونَهُ.