فهرس الكتاب
الصفحة 89 من 93

وَقَوْلِهِ: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيكُم كَفِيلاً إنَّ اللهَ يَعلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النَّحْلُ:91] .

وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، فَقَالَ:(( اغْزُوا بِسْمِ اللهِ، قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تُمَثِّلُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلاَلٍ - فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُم أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ تَعَالَى، وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّكُمْ إِنْ تَخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تَخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اللهِ أَمْ لاَ ) )رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: الْفَرْقُ بَيْنَ ذِمَّةِ اللهِ وَذِمَّةِ نَبِيِّهِ، وَذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.

الثَّانِيَةُ:

الإِرْشَادُ إِلَى أَقَلِّ الأَمْرَيْنِ خَطَرًا.

الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ:

(( اغْزُوا بِسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ).

الرَّابِعَةُ:

قَوْلُهُ: (( قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ ) ).

الْخَامِسَةُ:

قَوْلُهُ: (( اسْتَعِنْ بِاللهِ وَقَاتِلْهُمْ ) ).

السَّادِسَةُ:

الْفَرْقُ بَيْنَ حُكْمِ اللهِ وَحُكْمِ الْعُلَمَاءِ.

السَّابِعَةُ:

فِي كَوْنِ الصَّحَابِيِّ يَحْكُمُ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِحُكْمٍ لاَ يَدْرِي أَيُوَافِقُ حُكْمَ اللهِ أَمْ لاَ؟

قولُه: (ذمَّةِ اللهِ وذمَّةِ نبيِّه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الذِّمَّةُ: العهدُ، وسُمِّي بذلك؛ لأنَّه يُلتزَمُ به كما يَلْتَزِمُ صاحبُ الدَّينِ بدينِهِ في ذمِّتِهِ.

واللهُ له عهدٌ على عبادِهِ:

أن يعبدوه ولا يُشْرِكُوا به شيئاً.

وللعبادِ عهدٌ على اللهِ، وهو: أن لا يعذِّبَ مَن لا يُشرِكُ به شيئاً، قال اللهُ تعالى:

{وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً} فهذا عهدُ اللهِ عليهم، ثمَّ قال: {لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأَُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} وهذا عهدُهُم على اللهِ.

قولُه: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} وللنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم عهدٌ على الأمَّةِ وهو أن يَتَّبِعوه في شريعتِهِ ولا يبتدعوا فيها، وللأمَّةِ عليه عهدٌ وهو أن يبلّغَهُم ولا يكتُمَهُم شيئاً.

وقد أخبَر النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم أنَّه ما من نبيٍّ إلا كان حقّاً عليه أن يدُلَّ أمَّتَه على ما هو خيرٌ.

والمرادُ بالعهدِ هنا: ما يكونُ بينَ المتعاقدين في العهودِ كما كانَ بينَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ وأهلِ مكَّةَ في صلحِ الحديبيةِ.

قولُه:

{وَأَوْفُواْ} أمرٌ من الرُّباعيِّ من (أوْفى: يُوفي) والإيفاءُ إعطاءُ الشَّيءِ تامّاً، ومنه إيفاءُ المكيالِ والميزانِ.

قولُهُ: {بِعَهْدِ اللهِ} يصلُحُ أن يكونَ من بابِ إضافةِ المصدرِ إلى فاعلِهِ أو إلى مفعولِهِ، أي: بِعَهدِكم اللهَ، أو بعهدِ اللهِ إيَّاكُم؛ لأنَّ فاعلَ الفعلِ يقتضي المشاركةَ من الجانبيْن مثلَ قاتلٍ ودافعٍ.

قولُه: {إِذَا عَاهَدتُمْ} فائدتُهَا التَّوكيدُ والتَّنبيهُ على وجوبِ الوفاءِ، أيْ: إذا صدَرَ منْكم العهدُ فإنَّه لا يليقُ منكم أنْ تَدَعُوا الوفاءَ ثمَّ أكَّدَ ذلك بقولِهِ: {وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} نقضُ الشَّيءِ هو حَلُّ إحكامِهِ، وشبَّه العهدَ بالعُقدةِ؛ لأنَّه عَقْدٌ بينَ المتعاهدين.

قولُه: {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} توكيدُ الشَّيءِ بمعنى تثبيتِهِ، والعهودُ تُوَكَّدُ، يُقالُ: (وَكَّدَ الأمرَ وأَكَّده تأكيداً وتَوْكِيداً) والواوُ أفصحُ من الهمزةِ.

قولُهُ: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} الجملةُ حاليَّةٌ فائدتُهَا قوَّةُ التَّوبيخِ على نقضِ العهدِ واليمينِ.

ووجهُ جعلِ اللهِ كفيلاً: أنَّ الإنسانَ إذا عاهدَ غيرَهُ قالَ: أُعاهِدُكَ باللهِ، أيْ: أنَّه جعلَ اللهَ عليه كفيلاً.

قولُهُ: {إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} ختَمَ اللهُ الآيةَ بالعلمِ تهديداً عن نقضِ العهدِ؛ لأنَّ الإنسانَ إذا علمَ بأنَّ اللهَ يعْلَمُ كلَّ ما يفعَلُ فإنَّه لا ينقضُ العهدَ.

ومناسبةُ الآيةِ للتَّرجمةِ:

واضحةٌ جدّاً؛ لأنَّ اللهَ قال: {أَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ} وقال: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} والعهدُ: الذِّمَّةُ.

ومناسبةُ البابِ للتوحيدِ:

أنَّ عدَمَ الوفاءِ بعهْدِ اللهِ تَنَقُّصٌ له،

وهذا مُخلٌّ بالتوحيدِ.

(3) قولُه: (إذا أَمَّرَ) أيْ: جَعَلَه أميراً، والأميرُ في صدرِ الإسلامِ يتولَّى التَّنفيذَ والحكمَ والفتوى والإِمَامةَ.

قولُه: (أو سَرِيَّةٍ) هذه ليسَتْ للشَّكِّ، بلْ للتَّنويعِ؛ فإنَّ الجيشَ ما زادَ على أربعِمائةِ رجلٍ، والسَّرِيَّةَ ما دونَ ذلِكَ.

والسَّرايا ثلاثةُ أقسامٍ:

الأول:

قسمٌ يُنفَذُ مِن البلدِ، وهذا ظاهِرٌ ويُقَسَّمُ ما غَنِمَه

كقسمةِ ما غَنِمَ الجيشُ.

الثاني:

قسمٌ يُنفذُ في ابتداءِ سفرِ الجهادِ، وذلك بأنْ يخرجَ الجيشُ بكاملِهِ ثمَّ يَبْعَثَ سريَّةً تكونُ أمامَهُم.

الثالث:

قسمٌ يُنفذُ في الرَّجعةِ وذلك بعدَ رجوعِ الجيشِ.

وقد فرَّقَ العلماءُ بينَهما من حيثُ الغنيمةُ، فلسريَّةِ الابتداءِ الرُّبُعُ بعدَ الْخُمُسِ؛ لأنَّ الجيشَ وراءها فهو رِدْءٌ لها وسيلحقُ بها، ولسريَّةِ الرَّجعةِ الثُّلثُ بعدَ الخمسِ، لأنَّ الجيشَ قد ذهب عنها فالخطرُ عليها أشدُّ.

وهذا الذي تُعطَاهُ السَّرِيَّتان راجعٌ إلى اجتهادِ الإمامِ؛

إن شاءَ أعْطَى وإنْ شاءَ مَنَعَ، حسبَمَا تقتضيه المصلَحَةُ.

قولُه: (أوْصاهُ) الوصيَّةُ الإخبارُ بشيءٍ على وجهِ الاهتمامِ.

قولُه: (بِتقْوى اللهِ) التَّقوى هي: امتثالُ أوامرِهِ واجتنابُ نواهيه على علمٍ وبصيرةٍ، وهي مأخوذةٌ من الوقايةِ، وهي اتّخاذُ وقايةٍ من عذابِ اللهِ، وذلك لا يكونُ إلا بفعلِ الأوامرِ واجتنابِ النَّواهي، وقالَ بعضُهُم: (التَّقوى: أن تعملَ بطاعةِ اللهِ على نورٍ من اللهِ ترجو ثوابَ اللهِ، وأن تتركَ ما نهى عنه اللهُ على نورٍ من اللهِ تخشى عقابَ اللهِ) .

وهذه التَّعريفاتُ كلُّها تؤدِّي معنىً واحداً.

وأجمعها أن يقال هي: اتخاذ العبد وقاية بامتثال خطاب الشرع

وكانَت الوصيَّةُ بالتَّقوى لأميرِ الجيشِ؛ لأنَّ الغالبَ أنَّ الأميرَ يكونُ معه ترفُّعٌ يُخْشَى منه أن يُجانِبَ الصَّوابَ من أجلِهِ، ولأنَّ تقواه سببٌ لتقوى مَن تحتَ ولايتِهِ.

قولُه: (وبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمينَ خَيْراً) أي:

أوصاه أن يعملَ بِمَن معه من المسلمين خيراً في أمورِ الدّنيا والآخرةِ، فيسلُكَ بهم الأسهلَ ويطلُبَ لهم الأخْصبَ إذا كانوا على إبلٍ أو خيلٍ، ويمنَعَ عنهم الظّلمَ، ويأمرَهم بالمعروفِ وينهاهم عن المنكرِ، وغيرَ ذلك ممَّا فيه خيرُهُم في الدُّنيا والآخرةِ.

ويُستفادُ من هذا الحديثِ: أنَّه يَجِبُ على مَن تولَّى أمراً من أمورِ المسلمين أن يَسْلُكَ بهم الأخيَرَ،

بخلافِ عملِ الإنسانِ بنفسِهِ فإنَّه لا يُلزَمُ إلا بالواجبِ.

قولُه: (اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ) يَحتملُ أنَّه أراد أن يعلّمَهُم أن يكونوا دائماً مستعينين باللهِ.

-ويَحتملُ أنَّه أراد أن يفتتحَ الغزوَ باسمِ اللهِ.

والأوَّلُ أظهرُ، والثَّاني أيضاً محتمِلٌ؛ لأنَّ بعثَ الجيوشِ من الأمورِ ذاتِ البالِ ، وكلُّ أمرٍ لا يُبدأُ فيه باسمِ اللهِ فهو أبترُ.

قولُه: (في سَبِيلِ اللهِ) متعلّقٌ بـ (اغزوا) وهو تنبيهٌ من الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم على حسنِ النِّيةِ والقصدِ؛ لأنَّ الغُزَاةَ لهم أغراضٌ، ولكنَّ الغزوَ النَّافعَ الَّذي تحصُلُ به إحدى الْحُسْنَيين ما كان خالصاً للهِ، وذلك بأن يقاتلَ لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا لا لِحَمِيَّةٍ أو شجاعةٍ أو لِيُرَى مكانُهُ أو لطلبِ دنيا.

فإنْ قاتَلَ لأجلِ الوطنِ:

فمَن قاتَلَ؛ لأنَّه وطنٌ إسلاميٌّ تجبُ حمايتُهُ وحمايةُ المسلمين فيه فهذه نيَّةٌ إسلاميَّةٌ صحيحةٌ، وإن كان للقوميَّةِ أو الوطنيَّةِ فقط فهو حميَّةٌ، وليس في سبيلِ اللهِ.

وقولُه: (في سَبِيلِ اللهِ) تشملُ النّيَّةَ والعملَ، فالنّيَّةُ سبقت.

والعملُ أن يكونَ الغزوُ في إطارِ دينِهِ وشريعتِهِ، فيكونُ حسْبَمَا رسمَه الشَّارِعُ.

قولُه: (قاتِلوا مَنْ كفَرَ باللهِ) قاتلوا:فعلُ أمرٍ وهو للوجوبِ، أي: يجبُ علينا أن نقاتلَ مَن كفرَ باللهِ، قالَ تعالى: {يأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .

-وقالَ تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} فإذا قاتَلْنَا الَّذين يلونَنَا فأسلَموا نقاتِلُ مَن وراءَهم، وهكذا إلى أنْ نَخلُصَ إلى مشارقِ الأرضِ ومغارِبِها.

و (مَنْ) اسمٌ موصولٌ، وصِلَتُه (كفر) واسمُ الموصولِ وصِلَتُه يفيدُ العِلِّيَّةَ ، أي: لكفرِهِ، فنحن لا نقاتلُ النَّاسَ عصَبِيَّةً أو قوميَّةً أو وطنيَّةً، نقاتِلُهم لكفرِهِم لمصلحتِهِم وهي إنقاذُهم من النارِ.

والكفرُ مدارُهُ على أمرين:

-الجحودِ.

-والاستكبارِ.

أي:

استكبارٍ عن طاعتِهِ، أو جحودٍ لما يجبُ قبولُهُ وتصديقُهُ.

قولُه: (اغزوا) تأكيدٌ، وأتى بها ثانيةً كأنَّه يقولُ: لا تَحْقِروا الغزوَ واغْزُوا بجدٍّ.

قولُه: (وَلا تَغُلُّوا) الغُلولُ: أن يكتُمَ شيئاً من الغنيمةِ يختصُّ به، وهو من كبائرِ الذّنوبِ، قالَ تعالى: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: معذَّباً به فهو يعذَّبُ بما غلَّ يومَ القيامةِ ويُعزَّرُ في الدنيا.

قال أهلُ العلمِ: (يُعَزَّرُ الغالُّ بإحراقِ رَحلهِ كلِّهِ إلا المصحفَ لِحُرمتِهِ، والسّلاحَ لفائدتِهِ، وما فيه روحٌ؛ لأنَّه لا يجوزُ تعذيبُهُ بالنَّارِ) .

قولُه: (ولا تَغدِروا) الغدرُ الخيانةُ، وهذا هو الشَّاهدُ من الحديثِ، وهذا إذا عاهَدْنا فإنَّه يحرُمُ الغدرُ، أمَّا الغدرُ بلا عهدٍ فلنا ذلك؛ لأنَّ الحربَ خُدعةٌ، وقد ورد أنَّ عليَّ بنَ أبي طالبٍ خَرَج إليه رَجُلٌ مِنَ الْمُشرِكين لِيُبارِزَهُ فلمَّا أقبل الرّجلُ على عليٍّ قال عليٌّ: ما خَرَجْتُ لأُبارزَ رَجُلين، فالتفت المشركُ يظنُّ أنَّه جاء أحدٌ من أصحابِهِ ليساعدَه فقتلَهُ عليٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْه.

وليُعْلَمْ أنَّ لنا مع المشركينَ ثلاثَ حالاتٍ:

الحالُ الأولى:

أن لا يكونَ بينَنا وبينَهم عهدٌ؛

فيجبُ قتالُهم بعدَ دعوتِهم إلى الإسلامِ وإبائِهم عنه وعن بذلِ الجزْيةِ، بشرطِ قدرتِنا على ذلك.

الحالُ الثانيةُ:

أن يكونَ بينَنا وبينَهم عهدٌ محفوظٌ يستقيمونَ فيه،

فهنا يجبُ الوفاءُ لهم بعهدِهم؛ لقولِه تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المتَّقِينَ} [التوبة:7] ، وقولِه: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ} [التوبة:4] .

الحالُ الثالثةُ:

أنْ يكونَ بينَنَا وبينَهُم عهدٌ نخافُ خيانَتَهم فيه،

فهنا يجبُ أنْ نَنبِذَ إليهم العهدَ ونخبرَهم أنَّه لا عهدَ بينَنا وبينَهم؛ لقولِه تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانْبُذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}

قولُه: (ولا تُمثِّلوا)

التَّمثيلُ: التَّشويهُ بقطعِ بعضِ الأعضاءِ، كالأنفِ واللِّسانِ وغيرِهِما، وذلك عندَ أسْرِهِم؛ لأنَّه لا حاجةَ إليه، لأنَّه انتقامٌ في غيرِ محلِّه.

قولُه: (وَلا تَقْتُلوا وَلِيداً) أي: لا تَقْتُلُوا صغيراً؛ لأنَّه لا يقاتِلُ، ولأنَّه ربَّما يسلِمُ.

ووردَ في أحاديثَ أخرى: أَنَّه لا يُقتَلُ راهِبٌ ولا شَيْخٌ فانٍ ولا امْرَأةٌ، إلا أن يقاتِلوا، أو يُحَرِّضوا على القتالِ، أو يكونَ لهم رأيٌ في الحربِ كما قُتِلَ دُرَيدُ بنُ الصِّمَّةِ في غزوةِ ثَقيفٍ مع كِبَرِهِ وعماه.

واسْتُدِلَّ بهذا الحديثِ أنَّ القتالَ ليس لأجلِ الإسلامِ ولكنَّه لحمايةِ الإسلامِ بدليلِ أنَّنا لا نقتُلُ هؤلاء، ولو كانَ من أجلِ الإسلامِ لقتلْنَاهُم إذا لم يسلِموا، ورجَّحَ شيخُ الإسلامِ هذا القولَ، وله رسالةٌ في ذلك اسمُهَا (قِتالُ الكُفَّارِ) .

قولُه: (وإذا لَقِيتَ عدوَّكَ) أي: قابلتَهُ أو وجدْتَه، وبدأ بذكرِ العداوةِ تَهييجاً لقتالِهِم؛ لأنَّك إذا علمتَ أنَّهم أعداءٌ لك فإنَّ ذلك يدعوك إلى قتالِهِم، ولهذا قالَ تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} وهذا أبلغُ من قولِهِ في آيةٍ أخرى: {لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} لكنْ خَصَّ في هذه الآيةِ باليهودِ والنصارى؛ لأن المقامَ يقْتَضيه.

والعدوُّ ضدُّ الوليِّ،

والوليُّ مَن يتولَّى أمورَكَ ويعتني بك بالنَّصرِ والدِّفاعِ وغيرِ ذلكَ، والعدوُّ يخذُلُكَ ويبتعدُ عنك ويعتدي عليكَ ما أمكنهُ.

قولُه: (مِنَ الْمُشرِكينَ) يدخُلُ فيه كلُّ الكفَّارِ، حتَّى اليهودِ والنَّصارى.

قولُه: (خصالٍ -أَوْ خِلال-) بمعنًى واحدٍ، وعليه فـ (أو) للشَّكِّ في اللَّفْظِ ، والمعنى لا يتغيرُ.

قولُه: (فأَيَّتُهُنَّ ما أجابوكَ) (أيتهنَّ) اسمُ شرطٍ مبتدأٌ، (ما) زائدةٌ وهي تُزادُ بالشَّرطِ تأكيداً للعمومِ، كقولِهِ تعالى: {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} والكافُ مفعولٌ به، والعائدُ إلى اسمِ الشَّرطِ محذوفٌ، والتَّقديرُ: فأيَّتُهنَّ ما أجابوك إليه فاقبَلْ منهم وكُفَّ عنهم، فلا تقاتِلْهُم.

قولُهُ: (( ثمَّ ادعُهُمْ ) ) (( ثمَّ ) )زائدةٌ كما في روايةِ أبي داودَ، ولأنَّه ليس لها معنىً، ويمكنُ أن يُقالَ: إنَّها ليسَتْ مِن كلامِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم بل مِن كلامِ الرَّاوي، على تقديرِ: (ثمَّ قالَ ادعُهُم) .

وقولُه: (إلى الإِسلامِ) أي: المتضمِّنِ للإيمانِ؛ لأنَّه إذا أُفرِدَ شَمِلَ الإيمانَ، وإذا اجتمعا افترَقَا كمَا فرَّقَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ بينَهما في حديثِ جبريلَ.

والإيمانُ عند أهلِ السُّنّةِ تدخُلُ فيه الأعمالُ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: (( الإِيمانُ بِضْعٌ وَسَبْعونَ شُعْبَةً، أَعْلاها قَوْلُ لا إلَهَ إلاّ اللهُ، وَأَدْناها إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَياءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمانِ ) ).

فإن أجابوا للإسلامِ فهذا ما يريدُهُ المسلمون، فلا يحِلُّ لنا أنْ نُقَاتِلَهُم ولهذا قال النَّبِيُّ صلَّى اللهُ علَيْه وسَلَّمَ: (( فَاقْبَلْ مِنْهم ) ).

قولُه: (ثُمَّ ادْعُهُم إلى التّحوُّلِ مِنْ دارِهِم إلى دارِ الْمُهاجرِينَ) هذه الجملةُ تشيرُ إلى أنَّ الَّذين قُوتِلوا أهلُ باديةٍ فإذا أسْلَمُوا طَلَبَ منهم أن يتحوَّلوا إلى ديارِ المهاجرين ليتعلَّمُوا دينَ اللهِ؛ لأنَّ الإنسانَ في باديتِهِ بعيدٌ عن العلمِ، قالَ تعالَى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ} وهذا أصلٌ في تَوْطينِ البَوَادي.

وقولُه: (إِلى دارِ الْمُهاجرِينَ) يحتمِلُ أنَّ المرادَ بها العينُ، أي: المدينةُ، ويحتمِلُ أنَّ المرادَ بها الجنسُ، أي: الدَّارُ الَّتي تصلُحُ أن يُهاجَرَ إليها لكونِهَا بلدَ إسلامٍ، سواءٌ كانَت المدينةَ النبويَّةَ أو غيرَهَا.

ويُقوِّي الاحتمالَ الثَّانِيَ -وهو أنَّ المرادَ بها الجنسُ- أنه لو كانَ المرادُ المدينةَ لكانَ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم يعبِّرُ عنها باسمِهَا، ولا يأتي بالوصفِ العامِّ.

ويُقوِّي الاحتمالَ الأوَّلَ أنَّ دارَ المهاجرين الأولى هي المدينةُ، والظَّاهرُ الاحتمالُ الثَّاني.

قولُه: (فَلَهُمْ مَا لِلمُهاجِرينَ، وعَلَيهِم مَا عَلَى الْمُهاجِرينَ) وهذا تمامُ العدلِ، ولا يُقالُ: إنَّ الحقَّ لصاحبِ البلدِ الأصليِّ، فلهم ما للمهاجرين من الغنيمةِ والفيءِ، وعليهم ما عليهم من الجهادِ والنُّصرةِ.

قولُه: (وَلا يَكُونُ لَهُمْ في الغَنيمةِ وَالفَيْءِ شَيءٌ إِلا أَنْ يُجَاهِدوا مَعَ الْمُسلمينَ) يعني: إذا لم يتحوَّلُوا إلى دارِ المهاجرين فليسَ لهم في الغنيمةِ من شيءٍ، والغنيمةُ: ما أُخِذَ من أموالِ الكفَّارِ بقتالٍ أو ما أُلْحِقَ به، والفيءُ ما يُصْرَفُ لبيتِ المالِ، كخُمُسِ خُمُسِ الغنيمةِ، والجزيةِ، والخَراجِ، وغيرِها.

وقولُه: (إِلاّ أَنْ يُجَاهِدوا مَعَ الْمُسلمينَ) يفيدُ أنَّهم إنْ جاهدوا مع المسلمين استحقُّوا من الغنيمةِ ما يستحِقُّه غيرُهم.

وأمَّا الفيءُ فاختلفَ أهلُ العلمِ في ذلك:

فعندَ الإمامِ

أحمدَ لهم حقٌّ في الفيءِ مطلقاً، ولهم حقٌّ في الغنيمةِ إن جاهدوا.

وقيلَ:

لا حقَّ لهم في الفيءِ، إنَّما الفيءُ يكونُ لأهلِ البلدانِ بدليلِ الاستثناءِ، فهو عائدٌ على الغنيمةِ؛

إذْ ليسَ مَنْ في البلدِ يُسْتَنْفَرُ للجهادِ ويَتَعَلَّمُ الدِّينَ ويَنْشُرُهُ كأعرابيٍّ عند إبلِهِ.

فإذا أسلموا فلهم ثلاثُ مراتبَ:

الأولى:

التَّحوُّلُ إلى دارِ المهاجرين، وحينَئذٍ يكونُ لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين.

الثانية:

البقاءُ في أماكنِهِم معَ الجهادِ فلهم مَا للمُجاهِدين من الغنيمةِ،

وفي الفيءِ الخلافُ.

الثالثة:

البقاءُ في أماكنِهِم معَ تركِ الجهادِ، فليسَ لهم من الغنيمةِ والفيءِ شيءٌ.

قولُه: (فإنْ هُم أبَوا) (هم) عندَ البصريِّينَ توكيدٌ للفاعلِ المحذوفِ مع فعلِ الشّرطِ، والتَّقديرُ: فإن أَبَوْا هُمْ، وعندَ الكوفيّين: مبتدأٌ خبرُهُ الجملةُ بعدَهُ.

والقاعدةُ عندَنا إذا اختلَفَ النَّحويُّون في مسألةٍ: أن نتَّبعَ الأسهلَ

، والأسهلُ -هنا- إعرابُ الكوفيِّين.

قولُه: (فاسأَلْهُمُ الجِزْيَةَ) سؤالَ عطاءٍ لا سؤالَ استفهامٍ، والفرقُ بينَ سؤالِ الاستفهامِ وسؤالِ العطاءِ أنَّ سؤالَ الاستفهامِ يتعدَّى بـ (عن) ، قال اللهُ تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} وقد يكونُ المفعولُ الثاني جملةً استفهاميَّةً؛ كقولِه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذا أُحِلَّ لَهُمْ} وأمَّا سؤالُ الإعطاءِ فيتعدَّى إليه بنفسِه، كقولِك: سألتُ زيداً كتاباً.

قولُه: (الجِزْية) (فِعْلةٌ) من (جَزَى، يَجزي) وظاهرٌ فيها أنَّها مكافأةٌ على شيءٍ، وهي: عبارةٌ عن مالٍ مدفوعٍ من غيرِ المسلمِ عوضاً عن حمايتِهِ وإقامتِهِ بدارِنَا.

والذِّميُّ معصومٌ مالُهُ ودمُهُ وذريَّتُهُ مقابلَ الجزيةِ، قالَ تعالى:

{حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} أيْ:يسلِّموها بأيديهم، لا يُقبَلُ أن يُرسِلَ بها خادمَهُ أو ابنَهُ، بل لا بدَّ أن يأتيَ بها هو.

وقيلَ: {عَنْ يَدٍ} عن قوَّةٍ منكم، والصَّحيحُ أنَّها شامِلةٌ للمعنيين.

وقيلَ:

{عَنْ يَدٍ} أنْ يعطيَكَ إيَّاه فتأخذَهَا بقوَّةٍ بأن تجرَّ يدَهُ حتَّى يتبيَّنَ له قوَّتُك، وهذا لا حاجةَ إليه.

وقولُه: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أيْ: يجبُ أن يتَّصِفوا بالذُّلِّ والهَوانِ عندَ إعطائِها، فلا يُعْطُوها بأُبَّهةٍ وتَرَفُّعٍ مع خدمٍ وموكبٍ ونحوِ ذلك، وجعلَ بعضُ العلماءِ من صَغارِهم أن يُطالَ وقوفُهُم عندَ تَسَلُّمِها منهم.

قولُه: (فاستَعِنْ باللهِ وقاتِلْهُم) بَدَأ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم بطلبِ العونِ من اللهِ؛ لأنَّه إذا لم يُعِنْك في جهادِ أعدائِهِ فإنَّك مخذولٌ، والجملةُ جوابُ الشرطِ.

قولُه: (وإذا حاصَرْتَ أهْلَ حِصْنٍ فأرادوكَ) الحصرُ: التَّضييقُ، أيْ: طوَّقتَهُم وضيَّقْتَ عليهم بحيثُ لا يخرجون من حصنِهِم ولا يدخلُ عليهم أحدٌ.

والحِصنُ

: كلُّ ما يُتَحَصَّنُ به من قصورٍ، أو أحواشٍ وغيرِهَا.

قولُه: (أرادوكَ) أي: طلَبوك، وضمَّنَ الإرادةَ معنى الطلَبِ، وإلا فإنَّ الأصلَ أن تتعدَّى بـ (مِنْ) فيُقالُ: أرادوا منْكَ.

قولُه: (فلا تَجْعلْ لهُم ذِمَّةَ اللهِ وذمَّةَ نبيِّهِ)

الذِّمَّةُ: العهدُ، فإذا قالَ أهلُ الحِصنِ المحاصَرُون: نريدُ أنْ ننزِلَ على عهدِ اللهِ ورسولِهِ، فإنَّه لا يجوزُ أن يُنْزِلَهُم على عهدِ اللهِ ورسولِهِ، وعلَّلَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم ذلك بقولِه: (( فإنَّكم أَنْ تُخْفِروا ذِمَمَكُم وَذِمَّةَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ.. ) ).

قولُه: (أَهْوَنُ مِنْ أنْ تُخفِروا ذِمَّةَ اللهِ وذِمَّةَ نبيِّهِ) لأنَّ الغدرَ بذمَّةِ اللهِ وذمَّةِ نبيِّهِ أعظم.

وقولُه: (أهْوَنُ)

من بابِ اسمِ التَّفضيلِ الَّذي ليس في الْمُفَضَّلِ ولا في المفضَّلِ عليه شيءٌ من هذا المعنى؛ لأنَّ قولَهُ: (أَهْوَنُ) يقتضي اشتراكَ المفضَّلِ والمفضَّلِ عليه بالهونِ، والأمرُ ليس كذلك؛ لأنَّ إخفارَ الذِّممِ سواءٌ كان لذمَّةِ اللهِ وذمَّةِ رسولِهِ، أو ذمَّةِ المجاهدين ، كلُّهُ ليس بهيِّنٍ، بل هو صعْبٌ، لكنَّ الهونَ هنا نسبيٌّ وليسَ على حقيقتِهِ.

فهنا أرادوا أنْ يَنْزِلُوا على العهدِ بدونِ أن يُحْكَمَ عليهم بشيءٍ بل يُعاهَدون على حمايةِ أموالِهِم وأنفسِهِم ونسائِهِم وذريَّتِهِم فنعطيهم ذلك.

وقولُه: (وإذا حَاصَرْتَ) أي: ضَرَبْتَ حِصَاراً.. بِمَنْعِهِم مِن الخروجِ مِن مكانِهِم.

(أَهْلَ الْحِصْنِ) أَهلَ بلدٍ أو مكانٍ يتحصَّنون به.

(فأَرادوك)

طلبُوا مِنْكَ.

(حُكْمَ اللهِ)

أيْ: شرعَ اللهِ.

قولُه: (ولَكِن أَنزِلْهم على حُكْمِكَ) فإذا أرادوا أن يَنْزِلوا على حكمِ اللهِ وحكمِ رسولِهِ، فإنَّهم لا يُجابون؛ فإنَّا لا ندري أنصيبُ فيهم حكمَ اللهِ أم لا؟

وقال: (أَنزِلْهم على حُكْمِكَ) ولم يقُلْ: وحكمِ أصحابِكَ؛ لأنَّ الحكمَ في الجيشِ أو السَّريَّةِ للأميرِ، وأمَّا

الذِّمَّةُوالعهدُ فهي من الجميعِ، فلا يحِلُّ لواحدٍ من الجيشِ أن ينقُضَ العهدَ.

وقولُه: (لا تَدري) أيْ: لاَ تعلَمُ أتصيبُ فيهم حكمَ اللهِ أم لا؟ وذلك لأنَّ الإنسانَ قد يخطِئُ حكمَ اللهِ تعالى.

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولى:

(الفرقُ بينَ ذِمَّةِ الله وذِمَّةِ نبيِّهِ، وذِمَّةِ المسلمينَ) لو قالَ: الفرقُ بين ذِمَّةِ اللهِ وذمَّةِ نبيِّه وبين ذِمَّةِ المسلمين لكان أوضحَ؛ لأنَّك عندَما تَقْرَأُ كلامَهُ تَظُنُّ أنَّ الفروقَ بينَ الثَّلاثةِ كلِّها، وليس كذلك فإنَّ ذِمَّةَ اللهِ وذمَّةَ نبيِّه واحدةٌ، وإنَّما الفرقُ بينَهما، وبينَ ذمَّةِ المسلمين.

والفرقُ أنَّه جَعلَ ذمَّةَ اللهِ وذمَّةَ نبيِّه للمُحاصَرِين مُحرَّمةً، جعَل ذمَّةَ المحاصِرين -بكسر الصادِ- ذمَّةً جائزةً.

الثانيةُ: (الإرشادُ إلى أقَلِّ الأمرينِ خطراً) لقولِه: (( وَلَكِن اجْعَلْ لهم ذمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ.. ) )إلخ، وهذه قاعدةٌ مهمَّةٌ، وتُقالُ على وجهٍ آخرَ وهو: ارتكابُ أدنى الْمَفْسَدَتَيْنِ لدفعِ أعلاهما، وقد دلَّ عليها الشَّرعُ، قالَ تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} فسبُّ آلهةِ المشركين مطلوبٌ، لكن إذا تضمَّنَ سبَّ اللهِ -عزَّ وجلَّ- صار منهيّاً عنه؛ لأنَّ سبَّ اللهِ أعظمُ من السُّكوتِ عن سبِّ آلهتِهِم، وإن كانَ في هذا السُّكوتِ شيءٌ من المفسَدَةِ، ولكن نَسْكُتُ؛ لئلاَّ نَقَعَ في مفسدةٍ أعظمَ، وأيضاً العقلُ دلَّ عليها.

وفيه قاعدةٌ مقابلةٌ وهي:

جلبُ أعلى المصلحتين بتركِ أدناهما، فإذا اجتمعَتْ مصلحتان فخُذْ بأعلاهما، وإذا اجتمعَتْ مفسدتان فخذْ بأدناهما.

الثَّالثةُ: قولُهُ: (( اغْزوا بِسْمِ اللهِ فِي سَبيلِ اللهِ ) )يُستفادُ منها وجوبُ الغزوِ مع الاستعانةِ باللهِ والإخلاصِ، والتَّمشِّي على شرعِهِ.

الرَّابعةُ:

قولُهُ: (( قاتِلُوا مَنْ كَفَر باللهِ ) )يُستفادُ منها وجوبُ قتالِ الكفَّارِ، وأنَّ علَّةَ قتالِهِم الكفرُ، وليس المعنى أنَّه لا يُقاتلُ إلا مَن كفرَ، بل الكفرُ سببٌ للقتالِ، فمَن منعَ الزَّكاةَ يُقاتَلُ، وإذا ترَكَ أهلُ بلدٍ صلاةَ العيدِ قُوتِلوا وكذا الأذانُ والإقامةُ، مع أنَّهم لا يَكْفُرون بذلك.

وإذا اقتتلت طائفتان وأبَتْ إحداهُمَا أن تَفِيءَ إلى أمرِ اللهِ قُوتِلوا، فالقتالُ له أسبابٌ متعدِّدةٌ غيرُ الكفرِ.

الخامسةُ: قولُهُ: (( اسْتَعِنْ باللهِ وقاتِلْهُمْ ) )يفيدُ وجوبَ الاستعانةِ باللهِ، وأنْ لا يَعْتَمِدَ الإنسانُ على حَوْلِه وقُوَّتِه.

السَّادسةُ:

(الفرْقُ بينَ حُكْمِ اللهِ) وحُكمِ العلماءِ:

وفيه فرقان:

الأول:

أنَّ حكمَ اللهِ مصيبٌ بلا شكٍّ،

وحكمَ العلماءِ قد يُصيبُ وقد لا يُصيبُ.

الثاني:

تنزيلُ أهلِ الحصنِ على حكمِ اللهِ ممنوعٌ، إمَّا في عهدِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ فقطْ أَوْ مُطلَقاً، وأمَّا على حكمِ العلماءِ ونحوِه فهو جائِزٌ.

(10) السابعةُ:في كونِ الصَّحابيِّ يَحْكُمُ عندَ الحاجةِ بحكمٍ لا يَدْرِي أَيُوافِقُ حكمَ اللهِ أم لا؟ وهذا ليسَ خاصّاً بالصَّحابةِ، بل حتَّى مَنْ بعدَهُم؛ فإنَّ له أن يَحْكُمَ بما يَرَى أنَّه حكمُ اللهِ عندَ الحاجةِ.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام