فهرس الكتاب
الصفحة 87 من 93

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (( قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلِيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً ) )أَخْرَجَاهُ.

وَلَهُمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهِئُونَ بِخَلْقِ اللهِ ) ).

وَلَهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (( كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسٌ يُعَذَّبُ بِهَا فِي جَهَنَّمَ ) ).

وَلَهُمَا عَنْهُ مَرْفُوعًا: (( مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ ) ).

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ قَالَ: (قَالَ لِي عَلِيٌّ) : (أَلاَ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟أَنْ لاَ تَدَعَ صُورَةً إِلاَّ طَمَسْتَهَا، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ) .

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى:

التَّغْلِيظُ الشَّدِيدُ فِي الْمُصَوِّرِينَ.

الثَّانِيَةُ:

التَّنْبِيهُ عَلَى الْعِلَّةِ وَهِيَ تَرْكُ الأَدَبِ مَعَ اللهِ لِقَوْلِهِ: (( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي ) ).

الثَّالِثَةُ:

التَّنْبِيهُ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَجْزِهِمْ لِقَوْلِهِ: (( فَلِيَخْلُقُوا ذَرَّةً أوْ حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً ) ).

الرَّابِعَةُ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا.

الْخَامِسَةُ:

أَنَّ اللهَ يَخْلُقُ بِعَدَدِ كُلِّ صُورَةٍ نَفْسًا يُعَذِّبُ بِهَا الْمُصَوِّرَ فِي جَهَنَّمَ.

السَّادِسَةُ:

أَنَّهُ يُكَلَّفُ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ.

السَّابِعَةُ:

الأَمْرُ بِطَمْسِهَا إِذَا وُجِدَتْ.

قولُهُ: (بابُ ما جاءَ في الْمُصَوِّرينَ) يعني: من الوعيدِ الشّديدِ.

ومناسبةُ هذا البابِ للتَّوحيدِ:

أنَّ في التَّصويرِ خَلْقًا وإبداعًا يكونُ به المصوِّرُ مشارِكًا للهِ في ذلك الخلقِ والإبداعِ.

قولُهُ في الحديثِ: (( وَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقي ) )ينتهي سندُ هذا الحديثِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، ويُسمَّى حديثًا قدسيًّا.

قولُهُ: (وَمَنْ أظْلَمُ) (مَن) اسمُ استفهامٍ، والمرادُ به النَّفيُ، أي: لا أحدَ أظلمُ، وإذا جاء النَّفيُ بصيغةِ الاستفهامِ كانَ أبلغَ من النَّفيِ المجرَّدِ أو المحضِ؛ لأنَّه يكونُ مُشْرَبًا معنى التَّحَدِّي والتَّعجيزِ.

قولُهُ: (يَخْلُقُ) حالٌ من فاعلِ ذهبَ، أيْ: ممَّنْ ذهَب خالقًا.

والخلقُ في اللغةِ: التَّقديرُ، قالَ الشَّاعرُ:

وَلأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وَبع ضُ النَّاسِ يَخلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي

(تَفري) أي: تَفْعَلُ.

و (ما خَلَقْتَ) أي: ما قَدَّرْتَ.

ويُطلَقُ الخلقُ على الفِعلِ بعدَ التَّقديرِ، وَهذا هُو الغالِبُ، والخلْقُ بالنّسبةِ للإنسانِ يكونُ بَعْدَ تَأمُّلٍ ونَظَرٍ وتقديرٍ، وأمَّا بالنّسبةِ للخالقِ فإنَّه لا يحتاجُ إلى تأمُّلٍ ونظرٍ؛ لكمالِ علمِهِ، فالخلقُ بالنّسبةِ للمصوِّرِ يكونُ بمعنى الصّنعِ بعدَ النَّظرِ والتّأمّلِ.

قولُهُ: (( يَخْلُقُ كَخَلْقي ) )فيه جوازُ إطلاقِ الخلقِ على غيرِ اللهِ، وقد سبق الكلامُ على هذا والجوابُ عنه في أوَّلِ الكتابِ.

قولُهُ: (( فليَخْلُقوا ذرَّةً ) )اللامُ للأمرِ، والمرادُ به التَّحدِّي والتَّعجيزُ، وهذا من بابِ التَّحدِّي في الأمورِ الكونيَّةِ، وقولُهُ تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} من بابِ التَّحدِّي في الأمورِ الشَّرعيَّةِ.

والذَّرَّةُ: واحدةُ الذَّرِّ، وهي النَّمْلُ الصِّغارُ.

قولُه: (( أَوْ لِيخْلُقُوا حَبَّةً ) ) (( أو ) )للتَّنويعِ، أي: انْتَقَلَ من التَّحدِّي بخلقِ الحيوانِ ذي الرُّوحِ إلى خلقِ الحبَّةِ الَّتي هي أصلُ الزَّرعِ، وليس لها رُوحٌ.

قولُهُ: (( أوْ لِيَخْلُقوا شَعيرةً ) )يَحْتَمِلُ أنَّ المرادَ شجرةُ الشَّعيرِ، فيكونُ في الأوَّلِ ذِكْرُ التَّحدّي بأصلِ هذه الشَّجرةِ وهي الحبَّةُ، ويَحْتَمِلُ أنَّ المرادَ الحبَّةُ من الشَّعيرِ، ويكونُ هذا من بابِ ذكرِ الخاصِّ بعدَ العامِّ؛ لأنَّ حبَّةَ الشعيرِ أخصُّ مِن الحبِّ.

أو تكونُ (( أو ) )شكًّا من الرَّاوي.

فاللهُ تحدَّى الخلْقَ إلى يومِ القيامةِ أن يَخْلُقوا ذرَّةً، أو يَخْلُقوا حبَّةً أو شعيرةً.

ويُستفادُ من هذا الحديثِ

-وهو ما ساقَهُ المؤلِّفُ من أجلِهِ-: تحريمُ التَّصويرِ؛ لأنَّ المصوِّرَ ذَهَبَ يخلُقُ كخلقِ اللهِ.

والتَّصويرُ له أحوالٌ:

الحالةُ الأولى:

أن يصوِّرَ الإنسانُ ما له ظلٌّ -كما يقولون- أي: ما له جسمٌ، على هيكلِ إنسانٍ، أو بعيرٍ، أو أسدٍ، أو ما أشبَهَهَا، فهذا أجمعَ العلماءُ فيما أعلمُ على تحريمِهِ، والمضاهاةُ لا يُشترطُ فيهَا القَصدُ وهَذا هُوَ سرُّ المَسأَلةِ فمَتى حَصلت المُضاهاةُ ثبتَ حُكمهَا.

الحالةُ الثَّانيةُ:

أن يُصَوِّرَ صورةً ليس لها جسمٌ،

بل بالتَّلوينِ والتَّخطيطِ، فهذا محرَّمٌ؛ لعمومِ الحديثِ، ويدلُّ عليه حديثُ النُّمْرُقةِ حيثُ أقبلَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم إلى بيتِهِ فلمَّا أرادَ أنْ يدخلَ رأَى نمرقةً فيها تصاويرُ، فَوَقَفَ وتأثَّر، وعُرِفَت الكَراهَةُ في وجهِهِ، فقالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْها: (ما أذْنَبْتُ يا رسولَ اللهِ)

فقالَ: (( إنَّ أَصْحابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبون يومَ القيامةِ، يُقالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ ) ).

فالصّورُ بالتَّلوينِ كالصّورِ بالتَّجسيمِ، وقولُهُ في (صحيحِ البخاريِّ) : (( إِلا رَقْمًا في ثَوْبٍ ) ).

إنْ صحَّتِ الرّوايةُ هذه فالمرادُ بالاستثناءِ ما يَحِلُّ تصويرُهُ من الأشجارِ ونحوِهَا.

الحالةُ الثَّالثةُ:

أن تُلْتَقَطَ الصّورُ التقاطًا بأَشِعَّةٍ معيّنةٍ بدونِ أيِّ تعديلٍ، أو تحسينٍ من المُلْتَقِطِ، فهذا محلُّ خلافٍ بينَ العلماءِ المعاصرين:

فالقولُ الأوَّلُ: إنَّه تصويرٌ،

وإذا كانَ كذلك فإنَّ حركةَ هذا الفاعلِ للآلةِ يُعَدُّ تصويرًا؛ إذ لولا تحريكُهُ إياها ما انطبعَتْ هذه الصّورةُ على هذه الورقةِ، ونحن متّفقون على أنَّ هذه صورةٌ، فَحَرَكَتُهُ تُعتبرُ تصويرًا، فيكونُ داخلاً في العمومِ.

القولُ الثَّاني:

إنَّها ليست بتصويرٍ؛

لأنَّ التَّصويرَ فعلُ المصوِّرِ، وهذا الرّجلُ ما صوَّرَها في الحقيقةِ، وإنَّما التقطَهَا بالآلةِ، والتَّصويرُ من صنعِ اللهِ، ويُوضِّحُ ذلك لو أدخلْتَ كتابًا في آلةِ التّصويرِ، ثمَّ خرج من هذه الآلةِ، فإنَّ رسمَ الحروفِ من الكاتبِ الأوَّلِ لا من المحرِّكِ، بدليلِ أنَّه قد يُشَغِّلُهَا شخصٌ أمِّيٌّ لا يعرفُ الكتابةَ إطلاقًا أو أعمى في ظلمةٍ، وهذا القولُ أقربُ؛ لأنَّ المصوِّرَ بهذه الطّريقةِ لا يُعتبَرُ مُبْدِعًا ولا مُخَطِّطًا، ولكن يَبْقَى النَّظرُ، هل يَحِلُّ هذا الفعلُ أو لا؟

والجوابُ:

إذا كانَ لغرضٍ محرَّمٍ صارَ حرامًا،

وإذا كانَ لغرضٍ مباحٍ صار مباحًا؛ لأنَّ الوسائلَ لها أحكامُ المقاصدِ، وعلى هذا فلو أنَّ شخصًا صَوَّرَ إنسانًا لما يُسَمُّونَه بالذِّكْرَى، سواءٌ كانَت هذه الذّكرى للتّمتُّعِ بالنّظرِ إليه أو التّلذُّذِ به، أو من أجلِ الحنانِ والشّوقِ إليه، فإنَّ ذلك محرَّمٌ ولا يجوزُ؛ لما فيه من اقتناءِ الصّورِ؛ لأنَّه لا شكَّ أنَّ هذه صورةٌ، ولا أحدَ ينكرُ ذلك.

وإذا كانَ لغرضٍ مباحٍ كما يوجدُ في التَّابعيَّةِ والرّخصةِ والجوازِ وما أشبهه فهذا يكونُ مباحًا.

فإذا ذهبَ الإنسانُ الَّذي يحتاجُ إلى رخصةٍ إلى هذا المصوِّرِ الَّذي تخرجُ منه الصّورةُ فوريَّةً بدونِ عملٍ؛ لا تحميضٍ، ولا غيرِهِ.

وقال: (صوِّرْنِي) فصوَّرَهُ، فإنَّ هذا المصوِّرَ لا نقولُ إنَّه داخلٌ في الحديثِ، أمَّا إذا قال: (صوِّرني) لغرضٍ آخرَ غيرِ مباحٍ صار من بابِ الإعانةِ على الإثمِ والعدوانِ.

الحالةُ الرَّابعةُ:

أن يكونَ التَّصويرُ لما لا رُوحَ فيه، وهذا على نوعين:

النَّوعُ الأوَّلُ:

أن يكونَ ممَّا يَصْنَعُهُ الآدميُّ فهذا لا بأسَ به بالاتِّفاقِ؛

لأنَّه إذا جازَ الأصلُ جازَت الصُّورةُ، مثلَ أن يُصَوِّرَ الإنسانُ سيَّارتَهُ فهذا يجوزُ؛ لأنَّ صنعَ الأصلِ جائزٌ فالصُّورةُ الَّتي هي فرعٌ من بابِ أولى.

النَّوعُ الثَّاني:

ما لا يَصْنَعُهُ الآدميُّ وإنَّما يخلقُهُ اللهُ، فهذا نوعان:

-نوعٌ نامٍ.

-ونوعٌ غيرُ نامٍ.

فغيرُ النَّامِي:

كالجبالِ، والأوديةِ، والبحارِ، والأنهارِ، فهذا لا بأسَ بتصويرِهَا بالاتّفاقِ.

أمَّا النَّوعُ الَّذي ينمو:

فاختلفَ في ذلك أهلُ العلمِ، فجمهورُ أهلِ العلمِ على جوازِ تصويرِهِ؛ لما سيأتي في الأحاديثِ.

وذهب بعضُ أهلِ العلمِ من السَّلفِ والخلفِ إلى منعِ تصويرِهِ،

واستدلَّ بأنَّ هذا من خلقِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- والحديثُ عامٌّ: (( وَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقي ) )ولأنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- تَحَدَّى هؤلاء بأن يَخْلُقوا حبَّةً أو يَخْلُقوا شعيرةً، والحبَّةُ والشَّعيرةُ ليس فيها روحٌ، لكن لا شكَّ أنَّها ناميةٌ، وعلى هذا فيكونُ تصويرُهَا حرامًا، وقد ذهَبَ إلى هذا مجاهدٌ -رحمَهُ اللهُ- أعلمُ التَّابعين بالتَّفسيرِ، وقالَ: (إنَّه يَحْرُمُ على الإنسانِ أن يُصَوِّرَ الأشجارَ) لكنَّ جمهورَ أهلِ العلمِ على الجوازِ.

وهذا الحديثُ هل يُؤَيِّدُ رأيَ الجمهورِ، أو يُؤَيِّدُ رأيَ مجاهدٍ، ومَنْ قال بقولِهِ؟

الجوابُ: يُؤَيِّدُ رأيَ مجاهدٍ ومن قال بقولِهِ لأمرين:

أوّلاً:

العمومُ في قولِهِ: (( وَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقي ) ).

ثانيًا: قولُهُ: (( أَوْ لِيخْلُقُوا حَبَّةً أوْ لِيَخْلُقوا شَعيرةً ) ).

وهذه ليست ذاتَ رُوحٍ، فظاهرُ الحديثِ هذا مع مجاهدٍ، ومَن يرى رأيَه.

ولكنَّ الجمهورَ أجابوا عنه بالأحاديثِ التَّاليةِ:

وهي: أنَّ قولَهُ: (( أَحْيُوا مَا خَلَقْتُم ) )وقولَهُ: (( كُلِّفَ أن يَنفُخَ فيها الرُّوحَ ) ).

يدلُّ على أنَّ المرادَ تصويرُ ما فيه رُوحٌ.

وأما قولُه: (( أَوْ لِيخْلُقُوا حَبَّةً أوْ لِيَخْلُقوا شَعيرةً ) )فذُكِرَ على سبيلِ التَّحدِّي، أيْ: أنَّ أولئك المصوِّرين عاجزون حتَّى عن خلقِ ما لا رُوحَ فيه.

قولُهُ: (أشدُّ) كلمةُ (أشدّ) اسمُ تفضيلٍ بمعنى: أعظمُ وأقوى.

قولُهُ: (النَّاسِ) للعمومِ.

وقولُهُ: (عَذَابًا) تَخُصُّ النَّاسَ، يعني: أشدُّ النَّاسِ الذين يُعَذَّبون عذابًا.

قولُهُ: (يَوْمَ القِيامَةِ) هو اليومُ الَّذي يُبعَثُ فيه النَّاسُ، وسبقَ وجهُ تسميتِهِ بذلك.

وقولُهُ: (أَشَدُّ) مبتدأٌ، و (الَّذينَ يُضاهِئُونَ) خبرُهُ، ومعنى يُضَاهِئُون: أي: يُشَابِهُون.

(( بخلقِ اللهِ ) )

أي: بمخلوقاتِ اللهِ -سبحانَهُ وتعالى- والَّذين يُضاهِئون بخلقِ اللهِ هم المُصَوِّرونَ، فهم يُضَاهِئُون بخلقِ اللهِ، سواءٌ كانت هذه المضاهاةُ جسميَّةً أو وصفيَّةً، فالجسميَّةُ أن يَصْنَعَ صورةً بجسمِهَا، والوصفيَّةُ أن يَصْنَعَ صورةً ملوَّنةً؛ لأنَّ التّلوينَ والتَّخطيطَ باليدِ وصفٌ للخلقِ، وإن كانَ الإنسانُ ما خلقَ الورقةَ ولا صنعَهَا، لكن وضعَ فيها هذا التّلوينَ الَّذي يكونُ وصفًا لخلقِ اللهِ عزَّ وجلَّ.

هذا الحديثُ يدلُّ على أنَّ المصوِّرين يُعذَّبون، وأنَّهم أشدُّ النَّاسِ عذابًا، وأنَّ الحكمةَ من ذلك مُضَاهاتُهُم خلقَ اللهِ عزَّ وجلَّ، وليست الحكمةُ كما يَدَّعيهِ كثيرٌ من النَّاسِ أنَّهم يَصْنَعُونها لتُعْبَدَ من دونِ اللهِ، فذلك شيءٌ آخرُ، فمَنْ صنعَ شيئًا ليُعْبَدَ من دونِ اللهِ فإنَّه حتَّى ولو لم يصوّرْ كما لو أَتَى بخشبةٍ، وقال: اعْبُدوها، دخَلَ في التَّحريمِ؛ لقولِهِ تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} لأنَّه أعانَ على الإثمِ والعدوانِ.

وقولُهُ: (( يُضاهِئون ) )هل الفعلُ يُشْعِرُ بالنِّيَّةِ؛ بمعنى أنه لا بدَّ أن يَقْصِدَ المُضاهاةَ، أو نقولُ: المضاهاةُ حاصلةٌ سواءٌ كانت بنيَّةٍ أو بغيرِ نيَّةٍ؟

الجوابُ: الثَّاني:

لأنَّ المضاهاةَ حَصَلَت سواءٌ نَوَى أم لم يَنْوِ؛

لأنَّ العلَّةَ هي المشابهةُ، وليست العلَّةُ قصدَ المشابهةِ.

فيُستفادُ من الحديثِ فيما يتعلق بالباب مسألتان جليلتان:

الأولى:

تحريمُ التَّصويرِ، وأنَّه من الكبائرِ؛ لثبوتِ الوعيدِ عليه، وأنَّ الحكمةَ منه المضاهاةُ بخلقِ اللهِ عزَّ وجلَّ.

الثانية: وجوبُ احترامِ جانبِ الرُّبوبيَّةِ، وأن لا يَطْمَعَ أحدٌ في أن يخلقَ كخلقِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لقولِهِ: (( يُضَاهِئُونَ بخَلْقِ الله ) ).

ومن أجلِ هذا حُرِّم الكِبْرُ؛ لأنَّ فيه منازعةً للرَّبِّ -عزَّ وجلَّ- وحُرِّم التَّعَاظُمُ على الخلقِ؛ لأنَّ فيه منازعةً للرّبِّ سبحانَهُ وتعالى، وكذلك هذا الَّذي يَصْنَعُ ما يَصْنَعُ ليُضاهِيَ خلقَ اللهِ، فيه منازعةٌ للهِ -عزَّ وجلَّ- في ربوبيّتِهِ في أفعالِهِ ومخلوقاتِهِ ومصنوعاتِهِ، فيُستفادُ من هذا الحديثِ وجوبُ احترامِ جانبِ الرّبوبيَّةِ.

قولُهُ:

(( أشَدُّ النَّاسِ عَذابًا ) )فيه إشكالٌ؛ لأنَّ فيهم من هو أشدُّ من المصوِّرين ذنبًا كالمشركين والكفَّارِ، فيَلْزَمُ أن يكونوا أشدَّ عذابًا، وقد أُجيبَ عن ذلك بوجوهٍ:

الأوَّلُ:

أنَّ الحديثَ على تقديرِ (مِنْ) أيْ: من أشدِّ النَّاسِ عذابًا، بدليلِ أنَّه قد جاءَ ما يؤيِّدُهُ بلفظِ: (( إِنَّ مِنْ أشدِّ النّاسِ عَذَابًا ) ).

الثَّاني: أنَّ الأشدّيَّةَ لا تعني أنَّ غيرَهُم لا يُشَارِكُهُم، بل يشاركُهُم غيرُهُم، قالَ تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ولكن يُشْكِلُ على هذا أنَّ المصوِّرَ فاعلُ كبيرةٍ فقط، فكيف يُسَوَّى مع من هو خارجٌ عن الإسلامِ ومُسْتَكْبِرٌ؟

الثّالثُ: أنَّ الأشدِّيَّةَ نسبيَّةٌ؛

يعني أنَّ الَّذين يصنعون الأشياءَ ويُبْدِعونها، أشدُّهُم عذابًا الَّذين يُضاهِئون بخلقِ اللهِ، وهذا أقربُ.

الرَّابعُ: أنَّ هذا من بابِ الوعيدِ الَّذي يُطلَقُ لتنفيرِ النّفوسِ عنه، ولم أرَ مَن قال بهذا، ولو قيل بهذا لسلِمْنَا من هذه الإيراداتِ، وعلى كلِّ حالٍ ليس لنا أن نقولَ إلا كما قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ: (( أشَدُّ النّاسِ عَذَابًا يَومَ القِيامةِ الّذينَ يُضَاهِئُونَ بخَلْقِ اللهِ ) ).

(4) قولُهُ: (( كُلُّ مُصَوِّرٍ في النّارِ ) (كلُّ) من أعظمِ ألفاظِ العمومِ، وأصلُهَا من الإكليلِ، وهو ما يحيطُ بالشَّيءِ، ومنه الكَلالةُ في الميراثِ للحواشي الَّتي تحيطُ بالإنسانِ، فيَشْمَلُ من صَوَّرَ الإنسانَ أو الحيوانَ أو الأشجارَ أو البحارَ.

لكنَّ قولَه: (( يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورةٍ صَوَّرَها نَفْسٌ ) )يدُلُّ على أن المرادَ صورةُ ذواتِ النفوسِ، أي: ما فيه رُوحٌ.

قولُهُ: (( يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورةٍ صَوَّرَها نَفْسٌ ) )الحديثُ في (مسلمٍ) وليس في الصحيحين، لكنه بلفظِ: (( يَجْعَلُ ) )بالبناءِ للفاعلِ، وعلى هذا تكونُ (( نفسًا ) )بالنَّصبِ.

قولُهُ: (( يعَذَّبُ بها ) )كيفيَّةُ التَّعذيبِ ستأتي في الحديثِ الَّذي بعدَه أنَّه يُكلَّفُ أن ينفُخَ فيها الرُّوحَ وليس بنافخٍ.

وقولُهُ: (( كُلُّ مصوِّرٍ في النَّارِ ) )هذه الكَيْنونةُ عندَ المعتزلةِ والخوارجِ كينونةُ خلودٍ؛ لأنَّ فاعلَ الكبيرةِ عندَهم مخلَّدٌ في النَّارِ، وعندَ المرجئةِ أنَّ المرادَ بالمصوِّرِ الكافرُ؛ لأنَّ المؤمنَ عندَهم لا يَدْخُلُ النَّارَ أبدًا، وعندَ أهلِ السُّنّةِ والجماعةِ أنَّه مستحقٌّ لدخولِ النَّارِ وقد يدخُلُها وقد لا يدخُلُها، وإن دخلها لم يُخَلَّدْ فيها.

وقولُهُ: (( بكلِّ صورةٍ صَوَّرَها ) )يقتضي أنَّه لو صوَّرَ في اليومِ عشرَ صورٍ ولو من نسخةٍ واحدةٍ، فإنَّه يُجعَلُ له في النَّارِ عشرُ صورٍ يُقالُ له: انفخْ فيها الرُّوحَ.

وظاهِرُ الحديثِ أنَّه يَبْقَى في النَّارِ معذَّبًا حتَّى تنتهيَ هذه الصُّوَرُ.

قولُهُ: (( كُلِّفَ ) )أي: أُلزِم، والمكلِّفُ له هو اللهُ عزَّ وجلَّ.

قولُهُ: (( ولَيْسَ بنافِخٍ ) )أي: كُلِّف بأمرٍ لا يتمكَّنُ منه؛ زيادةً في تعذيبِهِ، وعُذِّبَ بهذا الفعلِ ليذوقَ جزاءَ ما عمل، وبهذا تزدادُ حسرتُهُ وأسفُهُ حيثُ إنَّه عُذِّب بما كانَ في الدُّنيا يراه راحةً له؛ إمَّا باكتسابٍ أو إرضاءِ صاحبٍ أو إبداعِ صنعةٍ.

قولُهُ: (عنْ أبي الهَيَّاجِ) هو من التَّابعين.

قولُهُ: (قالَ لي عليٌّ) هو عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه.

قولُهُ: (أَلا أبْعَثُكَ) البعثُ: الإرسالُ بأمرٍ مُهِمٍّ كالدّعوةِ إلى اللهِ، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً} .

قولُهُ: (صورةً) نكرةٌ في سياقِ النَّفيِ فتَعُمُّ.

وجمهورُ أهلِ العلمِ:

أنَّ المحرَّمَ هو تصويرُ الحيوانِ فقط؛ لما ورَدَ في (السننِ) من حديثِ جبريلَ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم قالَ: (( فمُرْ بِرَأْسِ التِّمثالِ فليُقْطَعْ حتى يَكونَ كَهيئَةِ الشَّجَرةِ ) )وسبقَ بيانُ ذلك قريبًا.

قولُهُ: (إلا طمَسْتَها) إن كانت ملوَّنةً فطمسُهَا بوضعِ لونٍ آخرَ يُزِيلُ مَعَالمَهَا، وإن كانت تمثالاً فإنَّه يَقْطَعُ رأسَهُ كما في حديثِ جبريلَ السَّابقِ، وإن كانت محفورةً فيَحْفِرُ على وجهِهِ حتَّى لا تتبيَّنَ معالمُهُ، فالطَّمسُ يختلفُ، وظاهرُ الحديثِ سواءٌ كانت تُعْبَدُ من دونِ اللهِ أو لا.

قولُهُ: (ولا قَبْرًا مُشْرِفًا) أي: عاليًا.

قولُهُ: (إلا سَوَّيْتَهُ) .

له معنيان:

الأوَّلُ: أي: سوَّيْتَهُ بما حولَهُ من القبورِ.

الثَّاني: جَعَلْتَهُ حسنًا على ما تقتضيه الشَّريعةُ، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} أي: سوَّى خلْقَهُ أحسنَ ما يكونُ، وهذا أحسنُ، والمعنيان متقاربان.

والإشرافُ له وجوهٌ:

الأوَّلُ: أن يكونَ مُشْرِفًا بكبرِ الأعلامِ الَّتي تُوضَعُ عليه،

وتُسمَّى عندَ النَّاسِ (نصائلَ) أو (نصائبَ) ونصائبُ أصحُّ لغةً من نصائلَ.

الثَّاني: أن يُبْنَى عليه وهذا من كبائرِ الذّنوبِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: (( لَعَن المتَّخِذينَ عَليها الْمَساجِدَ والسُّرُجَ ) ).

الثَّالثُ: أن تُشْرَفَ بالتَّلوينِ، وذلك بأن يُوضَعَ على أعلامِهَا ألوانٌ مزخرفةٌ.

الرابعُ: أن يُرْفَعَ ترابُ القبرِ عمَّا حولَه فيكونَ بيِّنًا ظاهرًا.

فكلُّ شيءٍ مُشْرِفٍ ـ أي: ظاهرٍ على غيرِهِ متميِّزٍ عن غيرِهِ ـ يَجِبُ أنْ يُسَوَّى بغيرِهِ؛ لئلا يؤدِّيَ ذلك إلى الغلوِّ في القبورِ والشِّركِ.

ومناسبةُ ذكرِ القبرِ المشرفِ مع الصُّوَرِ:

أنَّ كلاًّ منهما قد يُتَّخَذُ وسيلةً إلى الشّركِ،

فإنَّ أصلَ الشّركِ في قومِ نوحٍ أنَّهم صوَّروا صُورَ رجالٍ صالحين، فلمَّا طال عليهم الأمدُ عبدوها، وكذلك القبورُ المُشْرِفةُ قد يَزْدَادُ فيها الغلوُّ حتَّى تُجْعَلَ أوثانًا تُعْبَدُ من دونِ اللهِ، وهذا ما وقعَ في بعضِ البلادِ الإسلاميَّةِ.

وقد دلَّت هذهِ الأحاديث على أنَّ عقوبةُ المصوِّرِ تكون بخمسة أمور:

الأول: أنَّه أشدُّ النَّاسِ عذابًا أو مِن أشدِّهِم عذابًا.

الثاني: أن اللهَ يَجْعَلُ له في كلِّ صورةٍ نفسًا يُعَذَّبُ بها في نارِ جهنَّمَ.

الثالث: أنه يُكَلَّفُ أن يَنْفُخَ فيها الرُّوحَ وليس بنافخٍ.

الرابع: أنَّه في النَّارِ.

الخامس: أنَّه ملعونٌ كما في حديثِ أبي جُحَيْفةَ في (البخاريِّ) وغيرِه.

فائدتان:

الأولى: (( كُلِّف أنْ ينفُخَ فيها الرُّوحَ ولَيْسَ بنافِخٍ ) )

يقتضي أنَّ المرادَ بالتَّصويرِ تصويرُ الجسمِ كاملاً، وعلى هذا فلو صوَّرَ الرَّأسَ وحده بلا جسمٍ أو الجسمَ وحدَه بلا رأسٍ، فالظَّاهرُ الجوازُ، ويُؤَيِّدُهُ ما سبق في الحديثِ: (( مُرْ بِرأْسِ التِّمْثالِ فَليُقْطَعْ ) )ولم يقلْ: فليُكسَرْ.

لكنَّ تصويرَ الرَّأسِ وحدَه عندي فيه تردُّدٌ، أمَّا بقيَّةُ الجسمِ بلا رأسٍ فهو كالشَّجرةِ لا تردُّدَ فيه عندي.

الثَّاني:

يؤخذُ من حديثِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْه، وهو قولُهُ: (( أنْ لا تَدَعَ صُورَةً إِلا طَمَسْتَها ) ).

أنَّه لا يجوزُ اقتناءُ الصُّوَرِ، وهذا محلُّ تفصيلٍ، فإنَّ اقتناءَ الصُّوَرِ على أقسامٍ:

القسمُ الأوَّلُ:

أن يَقْتَنِيَهَا لتعظيمِ المُصَوَّرِ،

لكونِه ذا سُلطانٍ، أو جاهٍ، أو علمٍ، أو عبادةٍ، أو أُبوَّةٍ، أو نحوِ ذلك؛ فهذا حرامٌ بلا شكٍّ، ولا تدخلُ الملائكةُ بيتًا فيه هذه الصّورةُ؛ لأنَّ تعظيمَ ذَوِي السُّلطةِ باقتناءِ صورِهِم ثَلْمٌ في جانبِ الرّبوبيَّةِ، وتعظيمَ ذَوِي العبادةِ باقتناءِ صورِهِم ثَلْمٌ في جانبِ الألوهيَّةِ.

القسمُ الثَّاني:

اقتناءُ الصّورِ للتّمتُّعِ بالنَّظرِ إليها أو التّلذُّذِ بها،

فهذا حرامٌ أيضًا؛ لما فيه من الفتنةِ المؤدّيةِ إلى سَفاسِفِ الأخلاقِ.

القسمُ الثَّالثُ:

أن يقتنيَها للذّكرى حنانًا أو تلطُّفًا كالَّذين يُصَوِّرون صِغارَ أولادِهِم لتَذَكُّرِهِم حالَ الكِبَرِ،

فهذا أيضا حرامٌ؛ لِلُحوقِ الوعيدِ به في قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: (( إنَّ الْمَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورةٌ ) ).

القسمُ الرَّابعُ:

أن يَقْتَنِيَ الصُّورَ لا لرغبةٍ فيها إطلاقًا،

ولكنَّها تأتي تَبَعًا لغيرِهَا كالَّتي تكونُ في المجلاتِ والصُّحفِ ولا يَقْصِدُها المُقْتَنِي، وإنَّما يَقْصِدُ ما في هذه المجلاتِ والصُّحفِ من الأخبارِ والبحوثِ العلميَّةِ ونحوِ ذلك، فالظَّاهرُ أنَّ هذا لا بأسَ به؛ لأنَّ الصّورَ فيها غيرُ مقصودةٍ، لكن إن أمكنَ طمسُهَا بلا حرجٍ ولا مشقّةٍ فهو أَوْلَى.

القسمُ الخامسُ:

أن يَقْتَنِيَ الصُّوَرَ على وجهٍ تكونُ فيه مُهانةً مُلْقَاةً في الزِّبْلِ،

أو مُفْتَرَشةً، أو موطوءةً؛ فهذا لا بأسَ به عند جمهورِ العلماءِ، وهل يلحقُ بذلك لباسُ ما فيه صورةٌ؛ لأنَّ في ذلك امتهانًا للصُّورةِ، ولا سيَّما إن كانت الملابسُ داخليَّةً؟

الجوابُ:

نقولُ، لا يَلْحَقُ بذلك،

بل لباسُ ما فيه الصُّوَرُ محرَّمٌ على الصِّغارِ والكبارِ، ولا يلحَقُ بالمفروشِ ونحوِهِ؛ لظهورِ الفرقِ بينَهما، وقد صرَّح الفقهاءُ رحمَهُم اللهُ بتحريمِ لباسِ ما فيه صورةٌ، سواءٌ كانَ قميصًا أم سَرَاويلَ أم عِمامةً أم غيرَهَا، وقد ظهَرَ أخيرًا ما يُسَمَّى بالحَفائِظِ، وهي خِرْقةٌ تُلَفُّ على الفرجين للأطفالِ والحائضِ؛ لئلاَّ يَتَسَرَّبَ النجسُ إلى الجسمِ أو الملابسِ، فهل تُلحَقُ بما يُلْبَسُ أو بما يُمتَهَنُ؟

هي إلى الثاني أقربُ، لكن لما كانَ امتهانًا خفيَّاً وليسَ كالمُفْتَرَشِ والموطوءِ صارَ استحبابُ التحرُّزِ منها أَوْلَى.

القسمُ السَّادسُ:

أنْ يُلْجَأَ إلى اقتنائِهَا إلجاءً،

كالصُّورِ الَّتي تكونُ في بطاقةِ إثباتِ الشَّخصيَّةِ والشَّهاداتِ والدَّراهمِ، فلا إثمَ فيه، لعدمِ إمكانِ التّحرُّزِ منه، وقد قالَ اللهُ تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} .

فيهِ مسائلُ:

الأولى: (التَّغليظُ الشّديدُ في الْمُصَوِّرينَ) تؤخذُ من قولِه: (( أَشَدُّ النّاسِ عَذابًا ) )الحديثَ.

الثانيةُ: (التَّنبيهُ على العِلَّةِ وهي تَرْكُ الأَدبِ مع اللهِ) تؤخذُ من قَوْلِهِ: (( وَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقي ) )فمَن ذهَبَ يَخْلُقُ كخَلْقِ اللهِ فهو مُسِيءٌ للأدبِ مع اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لمحاولتِه أن يَخْلُقَ مثلَ خلقِ اللهِ تعالى، كما أنَّ مَن ضادَّه في شرعِهِ فقد أساءَ الأدبَ معه.

الثالِثةُ: (التَّنبيهُ على قدرتِهِ وعجزِهِم) لقولِهِ: (( فليَخلُقوا حَبّةً أوْ لِيَخْلُقوا شَعِيرةً ) )لأنَّ اللهَ خلقَ أكبرَ من ذلك وهم عجَزوا عن خلْقِ الذرَّةِ أو الشّعيرةِ.

الرَّابعةُ: (التَّصريحُ بأنّهُم أشدُّ النّاسِ عذابًا) لقولِهِ: (( أَشَدُّ النَّاسِ عَذابًا ) )الحديثَ.

الخامِسَةُ: (أنّ اللهَ يخلُقُ بعددِ كلِّ صورةٍ نفسًا يُعذِّبُ بها الْمُصَوِّرَ في جهنَّمَ) لقولِهِ: (( يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَها نَفْسٌ يُعَذَّبُ بِها فِي جَهَنَّمَ ) ).

السَّادِسةُ: (أَنّهُ يُكلَّفُ أنْ يَنْفُخَ فيها الروحَ) لقوله: (( كُلِّفَ أنْ ينْفُخَ فيها الروحَ ولَيْسَ بنافِخٍ ) )وهذا نوعٌ من التعذيبِ من أشقِّ العقوباتِ.

السّابِعةُ: (الأمرُ بطمْسِها إذا وُجِدَتْ) لقولِه: (( أنْ لا تَدَعَ صورةً إلا طمَسْتَها ) ).

ويُؤْخَذُ مِن حديثِ البابِ أيضًا الجَمْعُ بينَ فِتْنَةِ التَّمَاثِيلِ وفِتْنَةِ القُبُورِ؛ لقَوْلِهِ:

(( أنْ لاَ تَدَعَ صُورَةً إِلاَّ طَمَسْتَها، ولا قَبْرًا مُشْرِفًا إلا سَوَّيْتَهُ ) )لأنَّ في كلٍّ منهما وسيلةً إلى الشّركِ.

ويؤخذُ منه أيضًا: إثباتُ العذابِ يومَ القيامةِ، وأنَّ الجزاءَ من جنسِ العملِ؛ لأنَّه يُجْعَلُ له بكلِّ صورةٍ صوَّرَها نفسٌ يعذَّبُ بها في جهنَّمَ، ويُؤْخَذُ منه وقوعُ التكليفِ في الآخرةِ بما لا يُطاقُ على وجهِ العقوبةِ.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام