فهرس الكتاب
الصفحة 68 من 93

بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البْقَرَةُ:22]

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الآيَةِ:(الأَنْدَادُ: هُوَ الشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى صَفَاةٍ سَوْدَاءَ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ.

وَهُوَ أَنْ تَقُولَ: وَاللهِ وَحَيَاتِكِ يَا فُلاَنَةُ.

وَحَيَاتِي.

وَتَقُولَ: لَوْلاَ كُلَيْبَةُ هَذَا لأََتَانَا اللُّصُوصُ.

وَلَوْلاَ الْبَطُّ فِي الدَّارِ لأََتَى اللُّصُوصُ.

وَقَوْلُ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ.

وَقَوْلُ الرَّجُلِ: لَوْلاَ اللهُ وَفُلاَنٌ، لاَ تَجْعَلْ فِيهَا فُلاَنًا، هَذَا كُلُّهُ بِهِ شِرْكٌ)رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ ) )رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (لأََنْ أَحْلِفَ بِاللهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا) .

وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( لاَ تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلاَنٌ، وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ فُلاَنٌ ) )رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ يَكْرَهُ: أَعُوذُ بِاللهِ وَبِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: بِاللهِ ثُمَّ بِكَ.

قَالَ: وَيَقُولُ: لَوْلاَ اللهُ ثُمَّ فُلاَنٌ، وَلاَ تَقُولُوا: لَوْلاَ اللهُ وَفُلاَنٌ).

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى:

تَفْسِيرُ آيَةِ الْبَقَرَةِ فِي الأَنْدَادِ.

الثَّانِيَةُ:

أَنَّ الصَّحَابَةَ يُفَسِّرُونَ الآيَةَ النَّازِلَةَ فِي الشِّرْكِ الأَكْبَرِ أَنَّهَا تَعُمُّ الأَصْغَرَ.

الثَّالِثَةُ:

أَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللهِ شِرْكٌ.

الرَّابِعَةُ:

أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ صَادِقًا فَهُوَ أَكْبَرُ مِنَ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ.

الْخَامِسَةُ:

الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاوِ وَثُمَّ فِي اللَّفْظِ.

قولُهُ: {فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} لمَّا ذكرَ سبحانَهُ ما يُقِرُّ بهِ هؤلاءِ مِنْ أفعالِهِ التي لم يفعلْهَا غيرُهُ: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ} فكلُّ مَنْ أقرَّ بذلكَ لزِمَهُ أنْ لا يَعْبُدَ إلاَّ المُقَرَّ لهُ؛ لأنَّهُ لا يستحقُّ العبادةَ مَنْ لا يفعلُ ذلكَ، ولا ينبغي أنْ يُعبدَ إلاَّ منْ فعلَ ذلكَ، ولذلكَ أتَى بالفاءِ الدالَّةِ علَى التفريعِ والسببيَّةِ؛ أيْ: فبسببِ ذلكَ لا تجعلُوا للهِ أندادًا.

و {لا} هذه ناهيَةٌ، فلا تجعلُوا لَهُ أندادًا في العبادةِ، كما أنَّكمْ لم تجعلُوا لهُ أندادًا في الربوبيَّةِ، وأيضًا لا تجعلُوا لَهُ أندادًا في أسمائِهِ وصفاتِهِ؛ لأنَّهم قدْ يَصِفونَ غيرَ اللهِ بأوصافِ اللهِ عزَّ وجلَّ: كاشتقاقِ العزَّى منَ العزيزِ، وتسميتِهِم رحمنَ اليمامةِ.

قولُهُ: {أندادًا} جمعُ: ندٍّ، وهوَ الشبيهُ والنظيُر، والمرادُ هنا: أندادًا في العبادةِ.

قولُهُ: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الجملةُ في موضعِ نصبٍ حالٌ مِنْ فاعلِ {تجعلون} أيْ: والحالُ أنَّكم تعلمونَ، والمعنَى: وأنتمْ تعلمونَ أنَّهُ لا أندادَ لَهُ، يعني في الربوبيَّةِ؛ لأنَّ هذا محطُّ التقبيحِ مِنْ هؤلاءِ أنَّهم يجعلونَ لهُ أندادًا، وهمْ يعلمونَ أنَّهُ لا أندادَ لَهُ في الربوبيَّةِ، أمَّا في الألوهيَّةِ فيجعلونَ لهُ أندادًا.

قالُوا للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} .

ويقولونَ في تلبيتِهِمْ: (لبيكَ لا شريكَ لكَ إلاَّ شريكًا هوَ لكَ، تَمْلِكُهُ وما ملَكَ) وهذا مِنْ سَفَهِهِمْ، فإنَّهُ إذا صارَ مملوكًا، فكيفَ يكونُ شريكًا؟

ولهذا أنكر اللهُ عليهم في قولِهِ: {فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} إذ الأندادُ بالمعنَى العامِّ - بقطعِ النظرِ عنْ كونِهِ يُخاطِبُ أقوامًا يُقِرِّونَ بالربوبيَّةِ - يشملُ الأندادَ في الربوبيَّةِ، والألوهيَّةِ، والأسماءِ والصفاتِ.

قال في (فتح المجيد) ص489: (وفي هذه الآية دليل على توحيد الله تعالى بالعبادة وحده لا شريك له، وقد استدل بها كثير من المفسرين على وجود الصانع، وهي دالة على ذلك بطريق الأولى، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرةٌ جداً) .

قولُهُ: (وقالَ ابنُ عباسٍ في الآيَةِ) أيْ: في تفسيرِها.

قولُهُ: (هُوَ الشِّرْكُ) هذا تفسيرٌ بالمرادِ؛

لأنَّ التفسيرَ تفسيرانِ:

أحدهما:

تفسيرٌ بالمرادِ، وهوَ المقصودُ بسياقِ الجملةِ بقطعِ النظرِ عنْ مفرداتِها.

والآخر:

تفسيرٌ بالمعنَى، وهوَ الذي يُسمَّى: تفسيرَ الكلماتِ.

فإذا قُلْنَا: الأندادُ: الأشباهُوالنُّظَراءُ، فهوَ تفسيرٌ بالمعنَى، وإذا قُلْنَا الأندادُ: الشركاءُ أو الشِّرْكُ، فهوَ تفسيرٌ بالمرادِ، والمعنَى يقولُ رضيَ اللهُ عنه: (( الأندادُ هوَ الشركُ ) )فإذًا النِدُّ: الشَّريكُ المشارِكُ للهِ سبحانهُ وتعالَى فيمَا يَخْتَصُّ بهِ.

وقولُهُ: (دَبيبِ) أيْ: أثرِ دبيبِ النملِ، وليسَ فِعلَ النملِ.

وقولُهُ: (علَى صَفاةٍ) هيَ الصخرةُ المَلْساءُ.

وقولُهُ: (سَوْداء) وليسَ علَى بيضاءَ، إذ لوْ كانَ علَى بيضاءِ لبانَ أثرُ السيرِ أكثرَ.

وقولُهُ: (فِي ظُلْمَةِ الليلِ) وهذا أبلغُ ما يكونُ في الخفاءِ.

فإذا كانَ الشِّرْكُ في قلوبِ بني

آدمَ أخْفَى مِنْ هذا، فنسألُ اللهَ أنْ يُعِينَ علَى التخلُّصِ منْهُ.

ولهذا قالَ بعضُ السلفِ: (ما عالَجْتُ نفسِي معالجتَهَا علَى الإخلاصِ) .

ويُرْوَى عَنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّهُ لَمَّا قالَ مثلَ هذا قيلَ لَهُ: كيفَ نَتَخَلَّصُ منهُ؟

قالَ: (( قُولوا: اللهُمَّ إِنَّا نعوذُ بِكَ أنْ نُشْرِكَ بِكَ شيئًا نَعْلَمُهُ، ونَسْتَغْفِركَ لِمَا لاَ نَعْلَمُ ) ).

قولُهُ: (واللهِ وَحياتِكَ)

فيها نوعانِ مِنَ الشركِ:

الأولُ:

الحلفُ بغيرِ اللهِ.

الثاني:

الإشراكُ معَ اللهِ بقولِهِ: واللهِ وحياتِكَ،

فضمُّها إلَى اللهِ بالواوِ المقتضيَةِ للتسويَةِ فيها نوعٌ مِنَ الشركِ، والقسَمُ بغيرِ اللهِ إن اعتقدَ الحالفُ أنَّ المُقْسَمَ بهِ بمنزلةِ اللهِ في العَظَمةِ فهوَ شِركٌ أكبرُ، وإلاَّ فهوَ شِركٌ أصغرُ.

وقولُهُ: (وحَياتِي) فيهِ حِلْفٌ بغيرِ اللهِ فهوَ شِركٌ.

وقولُهُ: (لولا كُليبةُ هذا لأتانا اللُّصوصُ) (كُليبةٌ) تصغيرُ كلبٍ، والكلبُ يُنتفَعُ بهِ للصيدِ وحراسةِ الماشيَةِ والحَرْثِ.

وقولُهُ: (لولا كُليبةُ هذا) يكونُ فيهِ شركٌ إذا نُظِرَ إلَى السببِ دونَ المسبِّبِ وهوَ اللهُ عزَّ وجلَّ، أمَّا الاعتمادُ علَى السببِ الشرعيِّ أو الحسيِّ المعلومِ فقدْ تقدَّمَ أنَّهُ لا بأسَ بهِ، وأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: (( لَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) )لكنْ قَدْ يقعُ في قلبِ الإنسانِ - إذا قالَ: لولا كذا لحصلَ كذا، أوْ ما كانَ كذا - قدْ يقعُ في قلبِهِ شيءٌ مِن الشركِ بالاعتمادِ علَى السببِ بدونِ نظرٍ إلَى المسبِّبِ وهوَ اللهُ عزَّ وجلَّ.

وقولُهُ: (ولولا البطُّ في الدَّارِ لأتَى اللُّصوصُ) البَطُّ طائرٌ معروفٌ، وإذا دخلَ اللصُّ البيتَ وفيهِ بَطٌّ، فإنَّهُ يَصْرَخُ، فينتبِهَ أهلُ البيتِ ثمَّ يَجْتَنِبَهُ اللصوصُ.

وقولُهُ: (( وقوْلُ الرَّجُلِ لصاحبِهِ: ما شاءَ اللهُ وشئْتَ ) )فيهِ: شِرْكٌ؛ لأنَّهُ شَرَكَ غيرَ اللهِ معَ اللهِ بالواوِ، فإن اعتقدَ أنَّهُ يُساوِي اللهَ عزَّ وجلَّ في التدبيرِ والمشيئةِ فهوَ شِرْكٌ أكبرُ، وإنْ لم يعتقدْ ذلكَ واعتقدَ أنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالَى فوقَ كلِّ شيءٍ فهوَ شِرْكٌ أصغرُ، وكذلكَ قولُهُ: (لولا اللهُ وفلانٌ) .

وقولُهُ: (هَذا كلُّهُ بهِ شِرْكٌ) المشارُ إليهِ ما سبقَ، وهوَ شِرْكٌ أكبرُ أوْ أصغرُ حسْبَ ما يكونُ في قلبِ الشخصِ مِنْ نوعِ هذا التشريكِ.

قولُهُ: (وعَنْ عُمَرَ) صوابُهُ عن ابنِ عمرَ، نبَّهُ عليهِ في (تيسيرِ العزيزِ الحميدِ) .

قولُهُ في حديثِ ابنِ عُمرَ رضِيَ اللهُ عنهُمَا: (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ) (مَنْ) شرطيَّةٌ، فتكونُ للعمومِ.

قولُهُ: (أَوْ أشرَكَ) شكٌّ مِنَ الراوي، والظاهرُ أنَّ صوابَ الحديثِ (أشركَ) .

وقولُهُ: (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ) يشملُ كلَّ محلوفٍ بهِ سوَى اللهِ، سواءٌ: بالكعبة، أو الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، أو السماءِ، أوْ غيرِ ذلكَ، ولا يشملُ الحلفَ بصفاتِ اللهِ؛ لأنَّ الصفةَ تابعةٌ للموصوفِ، وعلَى هذا فيجوزُ أنْ تقولَ: وعزَّةِ اللهِ لأفْعَلَنَّ كذا.

وقولُهُ: (بِغَيْرِ اللهِ) ليسَ المرادُ بغيرِ هذا الاسمِ، بل المرادُ بغيرِ المُسَمَّى بهذا الاسمِ، فإذا حلَفَ باللهِ أوْ بالرحمنِ أوْ بالسميعِ فهوَ حَلِفٌ باللهِ.

والحلِفُ: تأكيدُ الشيءِ بذكرِ معظَّمٍ بصيغةٍ مخصوصةٍ، بالباءِ أو التاءِ أو الواوِ.

وحروفُ القسمِ ثلاثةٌ: الباءُ، والتاءُ، والواوُ.

والباءُ أعمُّها؛

لأنَّها تدخلُ علَى الظاهرِ والمُضْمَرِ، وعلَى اسمِ اللهِ وغيرِهِ، ويُذكَرُ معهَا فعلُ القسمِ ويُحْذَفُ، فيذكرُ معهَا فعلُ القسَمِ كقولِهِ تعالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} ويُحذَفُ مثلَ قولِكَ: باللهِ لأفعلنَّ، وتدخلُ علَى المضمَرِ مثلَ قولِكَ: (اللهُ عظيمٌ أحلفُ بهِ لأفعلنَّ) وعلَى الظاهرِ كما في الآيَةِ، وعلَى غيرِ لفظِ الجلالةِ مثلَ قولِكَ: (بالسميعِ لأفعلنَّ) وأمَّا الواوُ فإنَّهُ لا يُذكرُ معهَا فعلُ القسَمِ، ولا تدخلُ علَى الضميرِ ويُحْلَفُ بها معَ كلِّ اسمٍ، وأمَّا التاءُ فإنَّهُ لا يُذكرُ معهَا فعلُ القسمِ، وتختصُّ باللهِ وربِّ.

والحلفُ بغيرِ اللهِ شركٌ أكبرُ إن اعتقدَ أنَّ المحلوفَ بهِ مساوٍ للهِ تعالَى في التعظيمِ والعظمةِ، وإلاَّ فهوَ شركٌ أصغرُ.

وأمَّا قولُهُ تعالَى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} .

-وقولُهُ: {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} .

-وقولُهُ: {وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} .

وما أشبهَ ذلكَ مِن المخلوقاتِ التي أقسمَ اللهُ بها، فالجوابُ عنه مِنْ وجهينِ:

الأوَّلُ: أنَّ هذا مِنْ فعلِ اللهِ، واللهُ لا يُسألُ عمَّا يفعلُ، ولَهُ أنْ يُقْسِمَ سبحانَهُ بما شاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وهوَ سائلٌ غيرُ مسؤولٍ، وحاكمٌ غيرُ محكومٍ عليهِ.

الثاني:

أنَّ قَسَمَ اللهِ بهذهِ الآياتِ دليلٌ علَى عظمتِهِ وكمالِ قدرتِهِ وحكمتِهِ،

فيكونُ القسَمُ بها الدالُّ علَى تعظيمِهَا ورفعِ شأنِهَا متضمِّنًا للثناءِ علَى اللهِ عزَّ وجلَّ بما تقتضيهِ مِنَ الدلالةِ علَى عظمتِهِ.

وأمَّا نحنُ فلا نُقسمُ بغيرِ اللهِ أوْ صفاتِه؛ لأنَّنا منهيُّونَ عنْ ذلكَ.

وأمَّا ما ثبتَ في (صحيحِ مسلمٍ) مِنْ قولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( أفْلَحَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ ) )فالجوابُ عنه مِنْ وجوهٍ:

الأولُ:

أنَّ بعضَ العلماءِ أنكرَ هذهِ اللفظةَ، وقالَ: إنَّها لم تَثْبُتْ في الحديثِ؛ لأنَّها مُناقِضةٌ للتوحيدِ، وما كانَ كذلكَ فلا تصحُّ نسبتُهُ إلَى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ؛ فيكونُ باطلاً.

الثاني:

أنَّها تصحيفٌ مِنَ الرواةِ ، والأصلُ: (( أفْلَحَ واللهِ إِنْ صَدَقَ ) )وكانوا في السابقِ لا يُشَكِّلُونَ الكلماتِ و (أبيهِ) تُشْبِهُ (اللهُ) إذا حُذِفَت النُّقَطُ السُّفلَى.

الثالثُ: أنَّ هذا ممَّا يَجري علَى الألسنةِ بغيرِ قصدٍ، وقدْ قالَ تعالَى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ} وهذا لم ينوِ فلا يُؤاخذُ.

الرابعُ: أنَّهُ وقعَ مِنَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وهوَ أبعدُ الناسِ عَنِ الشركِ، فيكونُ مِنْ خصائِصِهِ، وأمَّا غيرُهُ فهمْ منهيُّونَ عنْهُ؛ لأنَّهم لا يُساوُونَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في الإخلاصِ والتوحيدِ.

الخامسُ: أنَّهُ علَى حذفِ مضافٍ، والتقديرُ (أفْلَحَ وربِّ أبيهِ) .

السادسُ: أنَّ هذا منسوخٌ، وأنَّ النهيَ هوَ الناقلُ مِنَ الأصلِ، وهذا أقربُ الوجوهِ.

ولوْ قالَ قائلٌ: (نحنُ نُقَلِّبُ عليكم الأمرَ) ونقولُ: إنَّ المنسوخَ هوَ النهيُ؛ لأنَّهم لمَّا كانوا حديثِي عهدٍ بشركٍ نُهوا أنْ يُشرِكُوا بهِ كما نُهيَ الناسُ حينَ كانوا حديثِي عهدٍ بشركٍ عنْ زيارةِ القبورِ ثُمَّ أُذِنَ لهمْ فيها؟

فالجوابُ عنهُ: أنَّ هذا اليمينَ كانَ جاريًا علَى ألسنِتِهِمْ فتُرِكُوا حتَّى استقرَّ الإيمانُ في نفوسِهِمْ ثُمَّ نُهوا عنهُ،

ونظيرهُ إقرارُهُمْ علَى شربِ الخمرِ أولاً، ثُمَّ أُمِروا باجتنابِهِ.

أمَّا بالنسبةِ للوجهِ الأولِ:

فضعيفٌ؛ لأنَّ الحديثَ ثابتٌ، وما دامَ يمكنُ حملُهُ علَى وجهٍ صحيحٍ فإنَّهُ لا يجوزُ إنكارُهُ.

وأمَّا الوجهُ الثاني: فبعيدٌ،

وإنْ أمكنَ فلا يمكنُ في قولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لما سُئِل: أيُّ الصدقةِ أفضلُ؟

فقالَ: (( أَمَا وَأَبِيكَ لَتُنَبِّأَنَّهُ ) ).

وأمَّا الوجهُ الثالثُ: فغيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ النهيَ وارِدٌ معَ أنَّهُ كانَ يجريْ علَى ألسنتِهِم كمَا جَرَى علَى لسانِ سعدٍ فنهاهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، ولوْ صحَّ هذا لصحَّ أنْ يُقالَ لمنْ فعلَ شِرْكًا اعتادَهُ: لا يُنهَى؛ لأنَّ هذا مِنْ عادتِهِ، وهذا باطلٌ.

وأمَّا الرابعُ:

فدعوَى الخصوصيَّةِ تحتاجُ إلَى دليلٍ، وإلاَّ فالأصلُ التأسِّي بهِ.

وأمَّا الخامسُ: فضعيفٌ؛

لأنَّ الأصلَ عدمُ الحذفِ؛ ولأنَّ الحذفَ هنا يستلزمُ فهمًا باطلاً، ولا يمكنُ أنْ يتكلمَ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بما يستلزمُ ذلكَ بدونِ بيانِ المرادِ.

وعلَى هذا يكونُ أقربَها الوجهُ السادسُ: (أنَّهُ منسوخٌ) ولا نَجْزِمُ بذلكَ لعدمِ العلمِ بالتاريخِ، ولهذا قلنا أقربُها واللهُ أعلمُ، وإنْ كانَ النوويُّ رحمَهُ اللهُ ارتَضَى أنَّ هذا ممَّا يجري علَى اللسانِ بدونِ قصدٍ، لكنَّ هذا ضعيفٌ لا يُمكنُ القولُ بهِ.

ثُمَّ رأيتُ بعضَهُم جزَمَ بشُذُوذِها؛ لانْفِرادِ مُسْلِمٍ بها عن البُخاريِّ معَ مخالفةِ راويها للثقاتِ، فاللهُ أعلَمُ.

قولُهُ في أثرِ ابنِ مسعودٍ: (( لأنْ أحلِفَ باللهِ كاذِبًا ) )اللامُ لامُ الابتداءِ، و (أنْ) مصدريَّةٌ فيكونُ قولُهُ: (أنْ أحلفَ) مُؤَوَّلاً بمصدرٍ مبتدأً تقديرُهُ لَحَلِفِي باللهِ.

قولُهُ: (( أَحَبُّ إليَّ ) )خبرُ المبتدأِ، ونظيرُ ذلكَ في القرآنِ قولُهُ تعالَى: {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} .

قولُهُ: (كاذِبًا) حالٌ مِنْ فاعلِ (أحلِفُ) .

قولُهُ: (أَحَبُّ إليَّ) هذا مِنْ بابِ التفضيلِ الذي ليسَ فيهِ شيءٌ مِنَ الجانبينِ، وهذا نادرٌ في الكلامِ؛ لأنَّ التفضيلَ في الأصلِ يكونُ فيهِ المعنَى ثابتًا في المفضَّلِ وفي المفضَّلِ عليهِ، وأحيانًا في المفضَّلِ دونَ المفضَّلِ عليهِ، وأحيانًا لا يُوجدُ في الجانبينِ، فابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ لا يحبُّ لا هذا ولا هذا، ولكنَّ الحلفَ باللهِ كاذبًا أهونُ عليهِ مِنَ الحلفِ بغيرِهِ صادقًا.

فالحلفُ كاذبًا باللهِ محرَّمٌ مِنْ وجهينِ:

الأول: أنَّهُ كذبٌ، والكذبُ محرَّمٌ لذاتِهِ.

والثاني: أنَّ هذا الكذبَ قُرِنَ باليمينِ،

واليمينُ تعظيمٌ للهِ عزَّ وجلَّ، فإذا كانَ علَى كذبٍ صارَ فيهِ شيءٌ مِنْ تَنَقُّصٍ للهِ عزَّ وجلَّ، حيثُ جعلَ اسمَهُ مؤكَّدًا لأمرٍ كَذِبٍ، ولذلكَ كانَ الحلفُ باللهِ كاذبًا عندَ بعضِ أهلِ العلمِ مِنَ اليمينِ الغَمُوسِ التي تَغْمِسُ صاحبَهَا في الإثمِ ثمَّ في النارِ.

وأمَّا الحلفُ بغيرِ اللهِ صادقًا فهوَ محرَّمُ مِنْ وجهٍ واحدٍ وهوَ الشِّركُ،

لكنَّ سيئةَ الشركِ أعظمُ مِنْ سيئةِ الكذبِ، وأعظمُ مِنْ سيئةِ الحلفِ باللهِ كاذبًا، وأعظمُ مِنَ اليمينِ الغموسِ، إذا قلنا: إنَّ الحلفَ باللهِ كاذبًا مِنَ اليمينِ الغموسِ؛ لأنَّ الشركَ لا يُغْفَرُ، قالَ تعالَى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} وما أرسلَ اللهُ الرسلَ وأنزلَ الكتبَ إلاَّ لإبطالِ الشركِ، فهوَ أعظمُ الذنوبِ، قالَ تعالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .

وسُئلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أيُّ الذنبِ أعظمُ؟

قالَ: (( أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ ) )والشركُ متضمِّنٌ للكذبِ، فإنَّ الذي جعلَ غيرَ اللهِ شريكًا للهِ كاذبٌ، بلْ مِنْ أكذبِ الكاذبينَ؛ لأنَّ اللهَ لا شريكَ لَهُ.

قولُهُ في حديثِ حُذيفةَ رضِيَ اللهُ عنْهُ: (( لا تَقُولوا ) ) (لا) ناهيَةٌ؛ ولهذا جُزِمَ الفعلُ بعدَها بحذفِ النونِ.

قولُهُ: (( ما شاءَ اللهُ وشاءَ فلانٌ ) )والعلَّةُ في ذلكَ أنَّ الواوَ تقتضي تسويَةَ المعطوفِ بالمعطوفِ عليهِ، فيكونُ القائلُ: (ما شاءَ اللهُ وشئتَ) مسوِّيًا مشيئةَ اللهِ بمشيئةِ المخلوقِ، وهذا شركٌ، ثمَّ إن اعتقدَ أنَّ المخلوقَ أعظمُ مِنَ الخالقِ، أوْ أنَّهُ مساوٍ لهُ فهوَ شركٌ أكبرُ، وإن اعتقدَ أنَّهُ أقلُّ فهوَ شِركٌ أصغرُ.

قولُهُ: (( ولَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ فُلاَنٌ ) )لمَّا نَهَى عَنِ اللفظِ المحرَّمِ بيَّن اللفظَ المباحَ؛ لأنَّ (ثمَّ) للترتيبِ والتراخي، فتفيدُ أنَّ المعطوفَ أقلُّ مرتبةً مِنَ المعطوفِ عليهِ.

أمَّا بالنسبةِ لقولِهِ: (ما شاءَ اللهُ فشاء فُلان) فالحكمُ فيها أنَّها مرتبةٌ بينَ مرتبةِ (الواوِ) ومرتبةِ (ثُمَّ) ، فهيَ تختلفُ عَن (ثُمَّ) بأنَّ (ثمَّ) للتراخي والفاءَ للتعقيبِ، وتُوافِقُ (ثمَّ) بأنَّها للترتيبِ، فالظاهرُ أنَّها جائزةٌ، ولكنَّ التعبيرَ بـ (ثمَّ) أَوْلَى؛ لأنَّهُ اللفظُ الذي أرْشَدَ إليهِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، ولأنَّهُ أبينُ في إظهارِ الفرقِ بينَ الخالقِ والمخلوقِ.

هذا محرَّمٌ؛ لأنَّهُ جمعٌ بينَ اللهِ والمخلوقِ بحرفٍ يقتضي التسويَةَ، وهوَ (الواو) .

ويجوزُ (باللهِ ثُمَّ بِكَ) لأنَّ (ثمَّ) تدلُّ علَى الترتيبِ والتراخي.

فإنْ قيلَ: سبقَ أنَّ مِنَ الشركِ الاستعاذةَ بغيرِ اللهِ، وعلَى هذا يكونُ قولُهُ أعوذُ باللهِ ثُمَّ بِكَ محرَّمًا؟

أُجيبَ:

أنَّ الاستعاذةَ بمَنْ يَقْدِرُ علَى أنْ يُعِيذَكَ جائزةٌ؛

لقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم في (صحيحِ مسلمٍ) وغيرِه: (( مَنْ وَجَدَ مَلْجَأً فَلْيَعُذْ بِهِ ) ).

لكنْ لوْ قالَ: (أعوذُ باللهِ ثُمَّ بفلانٍ) وهوَ ميِّتٌ، فهذا شِركٌ أكبرُ؛ لأنَّهُ لا يقدِرُ علَى أنْ يُعيذَكَ، وأمَّا استدلالُ الإمامِ أحمدَ علَى أنَّ القرآنَ غيرُ مخلوقٍ بقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ) ).

ثمَّ قالَ رحمَهُ اللهُ: (والاستعاذةُ لا تكونُ بمخلوقٍ، فيُحملُ كلامُهُ علَى أنَّ الاستعاذةَ بكلامٍ لا تكونُ بكلامٍ مخلوقٍ، بلْ بكلامٍ غيرِ مخلوقٍ، وهوَ كلامُ اللهِ، والكلامُ تابعٌ للمتكلِّمِ بهِ، إنْ كانَ مخلوقًا فهوَ مخلوقٌ، وإنْ كانَ غيرَ مخلوقٍ فهوَ غيرُ مخلوقٍ) .

فيهِ مَسائِلُ:

الأولَى: (تفسيرُ آيَةِ البَقَرَةِ في الأندادِ) وقدْ سبقَ.

الثانيَةُ: (أنَّ الصحابَةَ يفسِّرونَ الآيَةَ النازِلَةَ في الشِّرْكِ الأكبرِ أَنَّها تَعُمُّ الأصغرَ)

لأنَّ قولَهُ تعالَى: {فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، نازلةٌ في الأكبرِ؛ لأنَّ المخاطَبَ بها هم المشركونَ، وابنُ عباسٍ فسَّرها بما يَقْتَضِي الشِّرْكَ الأصغرَ؛ لأنَّ النِّدَّ يشملُ النظيرَ المساويَ علَى سبيلِ الإطلاقِ، أوْ في بعضِ الأمورِ.

الثالثةُ: (أنَّ الحَلِفَ بغيرِ اللهُ شِرْكٌ) لحديثِ ابنِ عمرَ رضِي اللهُ عنهما.

الرابعةُ: (أنَّهُ إذا حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ صادِقًا فهُوَ أكبرُ مِنَ اليمينِ الغَموسِ)

واليمينُ الغموسُ عندَ الحنابلةِ أنْ يَحْلِفَ باللهِ كاذبًا، وقالَ بعضُ العلماءِ -وهوَ الصحيحُ- أنْ يحلفَ باللهُ كاذبًا ليَقْتَطِعَ بها مالَ امرئٍ مسلمٍ.

الخامسةُ: (الفرقُ بينَ(الواوِ) و (ثُمَّ) في اللفظِ)

لأنَّ (الواوَ) تقتضي المساواةَ فتكونُ شِرْكًا، و (ثمَّ) تقتضي الترتيبَ والتراخيَ فلا تكونُ شِرْكًا.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام