فهرس الكتاب
الصفحة 83 من 93

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عِمْرَانَ:154] .

وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عِمْرَانَ:16] .

فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجِزَنَّ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا لَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ) ).

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى:

تَفْسِيرُ الآيَتَيْنِ فِي آلِ عِمْرَانَ.

الثَّانِيَةُ:

النَّهْيُ الصَّرِيحُ عَنْ قَوْلِ: (لَوْ) إِذَا أَصَابَكَ شَيْءٌ.

الثَّالِثَةُ:

تَعْلِيلُ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ.

الرَّابِعَةُ:

الإِرْشَادُ إِلَى الْكَلاَمِ الْحَسَنِ.

الْخَامِسَةُ:

الأَمْرُ بِالْحِرْصِ عَلَى مَا يَنْفَعُ مَعَ الاِسْتِعَانَةِ بِاللهِ.

السَّادِسَةُ:

النَّهْيُ عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ وَهُوَ الْعَجْزُ.

قولُهُ: (في الـ(لو) دَخَلت (أل) علَى (لو) وهيَ لا تدخلُ إلاَّ علَى الأسماءِ).

لأنَّ المقصودَ بهذا اللفظُ، أي: بابُ ما جاء في هذا اللفظِ.

قال في (فتح المجيد) (ص:551) : (وأدخل المصنف ـ رحمه الله ـ أداة التعريف على(لو) وهذه في هذا المقام لا تفيد تعريفاً لنظائرها، لأن المراد هذا اللفظ كما قال الشاعر.

رأيت الوليد بن اليزيد مباركا شديداً بأعباء الخلافة كاهلُه).

والمؤلِّفُ رحمه اللهُ جعلَ التَّرجمةَ مفتوحةً ولم يَجْزِمْ بشيءٍ؛ لأنَّ (لو) تُستعمَلُ علَى عدَّةِ أوجهٍ:

الوجهُ الأوَّلُ:

أن تستعملَ في الاعتراضِ علَى الشَّرعِ، وهذا محرَّمٌ،

قال تعالَى: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} في غزوةِ أُحُدٍ حينَما تخلَّفَ أثناءَ الطَّريقِ عبدُ اللهِ بنُ أبيٍّ في نحوِ ثُلثِ الجيشِ، فلمَّا اسْتُشْهِدَ من المسلمينَ سبعونَ رجلاً اعترضَ المنافقونَ علَى تشريعِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم، وقالوا: لوْ أطاعونَا ورجعوا كما رجَعْنا ما قُتِلوا؛ فَرَأْيُنا خيرٌ منْ شرعِ محمَّدٍ، وهذا محرَّمٌ، وقدْ يصلُ إلَى الكفرِ.

الثَّاني:

أن تستعملَ في الاعتراضِ علَى القدَرِ، وهذا محرَّمٌ أيضًا، قال تعالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإَِّخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} أي: لوْ أنَّهم بَقُوا ما قُتِلُوا، فهم يَعْتَرِضُون علَى قدَرِ اللهِ.

الثَّالثُ:

أن تُستعملَ للنَّدمِ والتَّحسُّرِ، وهذا محرَّمٌ أيضًا؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ يَفْتَحُ النَّدمَ عليكَ فإنَّهُ منهيٌّ عنه؛ لأنَّ النَّدمَ يُكسِبُ النَّفسَ حزنًا وانقباضًا، واللهُ يريدُ منَّا أن نكونَ في انشراحٍ وانبساطٍ، قال صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: (( احْرِصْ عَلَى مَا ينْفَعُكَ، واستَعِنْ بِاللهِ وَلا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أنِّي فَعَلْتُ كَذَا لَكَانَ كَذَا، فَإِنَّ(لَوْ) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطانِ )).

مثالُ ذلك:

رجلٌ حرَصَ أن يشتريَ شيئًا يظنُّ أنَّ فيهِ ربحًا فخسِرَ، فقالَ: لوْ أنِّي ما اشتريتُهُ ما حصَلَ لي خَسارةٌ، فهذا نَدمٌ وتَحسُّرٌ، ويقعُ كثيرًا وقدْ نُهِي عنه.

الرابعُ:

أنْ تُسْتَعْمَلَ في الاحتجاجِ بالقدرِ علَى المعصيَةِ،

كقولِ المشركين: {لوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} وقولِهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} وهذا باطِلٌ.

الخامسُ:

أنْ تُستعْمَلَ في التَّمنِّي، وحكمُهُ حسَبَ المُتَمَنَّى: إنْ كانَ خيرًا فخيرٌ، وإنْ كانَ شرًّا فشرٌّ،

وفي (الصَّحيحِ) عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم في قصَّةِ النَّفرِ الأربعةِ قالَ أحدُهم: (( لَوْ أنَّ لي مَالاً لعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ ) ).

فهذا تمنَّى خيرًا.

وقالَ الثَّاني: (( لَوْ أنَّ لي مالاً لعَمِلْتُ بعَمَلِ فلاَنٍ ) )فهذا تمنَّى شرًّا.

فقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم في الأوَّلِ: (( فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فأجرُهما سَواءٌ ) ).

وقالَ في الثَّاني: (( فَهوَ بِنِيَّتِهِ، فوِزرُهما سواءٌ ) ).

السادسُ:

أن تُسْتَعْمَلَ في الخبرِ المحضِ، وهذا جائزٌ،

مثلُ: لوْ حضرْتَ الدَّرسَ لاستفدْتَ، ومنهُ قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: (( لَوِ استَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا استَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الهَدْيَ ولأَحْلَلْتُ مَعَكُم ) )فأخبرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ أنَّهُ لوْ علِمَ أنَّ هذا الأمرَ سيكونُ من الصَّحابةِ ما ساقَ الهدْيَ ولأَحَلَّ، وهذا هوَ الظَّاهرُ لي.

وبعضُهُم قال:

إنَّهُ منْ بابِ التَّمنِّي، كأنَّهُ قالَ: ليتنِي استقبلتُ منْ أمري ما استَدْبَرْتُ حتَّى لا أسوقَ الهدْيَ.

فالظَّاهرُ:

أنَّهُ أخبرَ لِمَا رَأَى مِنْ أصحَابِهِ، والنَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم لا يتمنَّى شيئًا قدَّرَ اللهُ خلافَهُ.

قولُهُ تعالَى: (( يَقُولُونَ ) )الضَّميرُ للمنافقينَ.

قولُهُ: (مَا قُتِلْنَا) أي: ما قُتل بعضُنا؛ لأنَّهُم لم يُقْتَلُوا كلُّهم؛ ولأنَّ المقتولَ لا يقولُ.

قولُهُ: (( لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ ) (لو) شرطيَّةٌ، وفعلُ الشَّرطِ (كانَ) ، وجوابُهُ (ما قُتِلْنا) ، ولم يَقْتَرِنِ الجوابُ باللامِ؛ لأنَّ الأفصحَ إذا كانَ الجوابُ منفيًّا عدمُ الاقترانِ، فقولُكَ: لوْ جاءَ زيدٌ ما جاءَ عمرٌو، أفصحُ منْ قولِكَ: لوْ جاءَ زيدٌ لَمَا جاءَ عمرٌو، وقدْ ورَدَ قليلاً اقترانُها معَ النفيِ كقولِ الشَّاعرِ:

وَلَوْ نُعْطَى الْخِيارَ لَمَا افْتَرَقْنا ولَكِنْ لا خِيارَ مَع اللَّيالِي

قولُهُ: (هَا هُنَا) أي: في أُحُدٍ.

قولُهُ: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} ، هذا ردٌّ عليهم، فلا يمكنُ أن يتخلَّفوا عمَّا أرادَ اللهُ بهم.

وقولُهُم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} هذا من الاعتراضِ علَى الشَّرعِ؛ لأنَّهم عتَبوا علَى الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم حيثُ خرجَ بدونِ موافقتِهِم، ويمكنُ أنْ يكونَ اعتراضًا علَى القدَرِ أيضًا، أي: لوْ كانَ لنا منْ حُسنِ التَّدبيرِ والرَّأيِ شيءٌ ما خَرَجْنا فنُقْتَلَ.

قولُهُ: (( وَقَعَدُوا ) )الواوُ إمَّا أن تكونَ عاطفةً، والجملةُ معطوفةً علَى (قالوا) ويكونُ وصَف هؤلاءِ بأمْريْنِ:

الأول: الاعتراضِ علَى القدرِ بقولِهِم: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} .

الثاني: الجُبنِ عنْ تنفيذِ الشَّرعِ (الجهادِ) بقولِهِم: {وَقَعَدُوا} أوْ تكونَ الواوُ للحالِ، والجملةُ حاليَّةً علَى تقديرِ (قدْ) أي: والحالُ أنَّهم قدْ قعَدوا، ففيهِ توبيخٌ لهم حيثُ قالوا معَ قعودِهِم، ولوْ كانَ فيهم خيرٌ لخَرَجوا معَ النَّاسِ، لكنْ فيهم الاعتراضُ علَى المؤمنين وعلَى قضاءِ اللهِ وقدرِهِ.

قولُهُ: (( لإِخْوَانِهِمْ ) )قيل: في النَّسبِ لا في الدِّينِ.

وقيل: في الدِّينِ ظاهرًا؛ لأنَّ المنافقينَ يَتَظاهَرُون بالإسلامِ.

ولوْ قيل: إنَّهُ شاملٌ للأمْرينِ لكان صحِيحًا.

قولُهُ: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} هذا غيرُ صحيحٍ، ولهذا ردَّ اللهُ عليهم بقولِهِ: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وإن كنتم قاعِدينَ فلا تَسْتَطِيعونَ أيضًا أنْ تَدْرءوا عنْ أنفسِكُم الموتَ.

فهذه الآيَةُ والَّتي قبلَها تدلُّ علَى أنَّ الإنسانَ محكومٌ بقدرِ اللهِ، كما أنَّهُ يجبُ أن يكونَ محكومًا بشرعِ اللهِ.

ومناسبةُ البابِ للتَّوحيدِ:

أنَّ منْ جملةِ أقسامِ (لو) الاعتراضَ علَى القدرِ،

ومَن اعترَضَ علَى القدرِ فإنَّهُ لم يَرْضَ باللهِ ربًّا، ومَنْ لم يَرْضَ باللهِ ربًّا، فإنَّهُ لم يحقِّق التَّوحيدَ توحيدَ الربوبيَّةِ.

والواجبُ أن تَرْضَى باللهِ ربًّا، ولا يمكنُ أن تستريحَ إلاَّ إذا رضِيتَ باللهِ ربًّا تَمامَ الرِّضا، كأنَّ لكَ أجنحةً تميلُ بها حيثُ مالَ القدرُ.

ولهذا قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: (( عَجَبًا لأِمْرِ الْمُؤمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذلكَ لأحدٍ إلاَّ للمؤمنِ: إِنْ أَصابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا لَهُ، وإنْ أصَابَتْهُ سرَّاءُ شَكَرَ فَكانَ خَيْرًا لَهُ ) )ومهْما كانَ، فالأمرُ سيكونُ علَى ما كانَ، فلوْ خرجْتَ مثلاً في سَفَرٍ ثمَّ أُصِبْتَ في حادثٍ، فلا تقلْ: لوْ أنِّي ما خرَجتُ في السَّفرِ ما أُصِبْتُ؛ لأنَّ هذا مُقَدَّرٌ لا بُدَّ منه.

قولُهُ: (وفي الصَّحيحِ) أيْ:

(صحيحِ مسلمٍ) والمؤلِّفُ -رحمه اللهُ- حذفَ منهُ جملةً، وأتَى بما هوَ مناسِبٌ للبابِ، والمحذوفُ قولُهُ: (( الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيرٌ وأَحَبُّ إلَى اللهِ مِنَ الْمُؤمِنِ الضَّعيفِ وفي كلٍّ خيرٌ ) ).

قولُهُ: (احْرِصْ عَلَى ما يَنْفَعُكَ) الحرصُ: بذلُ الجهدِ لنيلِ ما ينفعُ منْ أمرِ الدِّينِ أو الدُّنيا.

وأفعالُ العبادِ - بحسَبِ السَّبْرِ والتَّقسيمِ - لا تَخْلُو منْ أربعِ حالاتٍ:

الأولى:

نافعةٌ، وهذه مأمورٌ بها.

الثانية: ضارَّةٌ، وهذه مُحَذَّرٌ منها.

الثالثة: فيها نفعٌ وضررٌ.

الرابعة: لا نفْعَ فيها ولا ضررَ، وهذه لا يتعلَّقُ بها أمرٌ ولا نهيٌ، لكنَّ الغالبَ أنْ لا تقعَ إلاَّ وسيلةً إلَى ما فيهِ أمرٌ أوْ نهيٌ، فَتَأْخُذُ حكمَ الغايَةِ؛ لأنَّ الوسائلَ لها أحكامُ المقاصدِ.

فالأمرُ لا يخلُو منْ نفعٍ أوْ ضررٍ، إمَّا لذاتِهِ أوْ لغيرِهِ، فحديثُنا العامُّ قدْ لا يكونُ فيهِ نفعٌ ولا ضررٌ، لكن قدْ يتكلَّمُ الإنسانُ ويتحدَّثُ لأجلِ إدخالِ السُّرورِ علَى غيرِهِ فيكونُ نفعًا، ولا يمكنُ أن تجدَ شيئًا من الأمورِ والحوادثِ ليسَ فيها نفعٌ ولا ضررٌ، إمَّا ذاتيٌّ أوْ عارضٌ، إنَّما ذَكَرْنَاهُ لأجلِ تمامِ السَّبْرِ والتَّقسيمِ.

والعاقلُ يَشِحُّ بوقتِهِ أنْ يصرفَهُ فيما لا نفعَ فيهِ ولا ضررَ، قال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: (( مَنْ كانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ ) ).

واتِّصالُ هذه الجملةِ بما قبلَها ظاهرٌ جدًّا؛ لأنَّ من القوَّةِ الحرصَ علَى ما ينفعُ.

و (ما) اسمٌ موصولٌ بفعلِ (ينفع) والاسمُ الموصولُ يُحَوَّلُ بصلتِهِ إلَى اسمِ فاعلٍ كأنَّهُ قالَ: احْرِصْ علَى النَّافعِ، وإنَّما قلْتُ ذلكَ لأجلِ أنْ أقولَ: إنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم أَمَرَنا بالحرصِ علَى النَّافعِ، ومعناهُ أن نقدِّمَ الأنفعَ علَى النَّافعِ؛ لأنَّ الأنفعَ مشتملٌ علَى أصلِ النَّفعِ وعلَى الزِّيادةِ، وهذه الزِّيادةُ لا بدَّ أن نحرصَ عليها؛ لأنَّ الحكمَ إذا عُلِّقَ بوصفٍ كانَ تأكُّدُ ذلكَ الحكمِ بحسبِ ما يشتملُ عليهِ تأكُّدُ ذلكَ الوصفِ، فإذا قلتَ: (أَنَا أَكْرَهُ الفاسِقِينَ) كانَ كلُّ مَنْ كانَ أشدَّ في الفسقِ إليكَ أكرَهَ؛

فنقدِّمُ الأنفعَ علَى النَّافعِ لوجهينِ:

أحدهما: أنَّهُ مشتملٌ علَى النَّفعِ وزيادةٍ.

والآخر: أنَّ الحكمَ إذا عُلِّقَ بوصفٍ كانَ تَأكُّدُ ذلكَ الحكمِ بحسَبِ تَأكُّدِ ذلكَ الوصفِ وقوَّتِهِ.

ويُؤخَذُ من الحديثِ:

وجوبُ الابتعادِ عن الضَّارِّ؛ لأنَّ الابتعادَ عنه انتفاعٌ وسلامةٌ لقولِهِ: (( احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ ) ).

قولُهُ: (( واسْتَعِنْ باللهِ ) )الواوُ تَقْتَضِي الجمعَ، ولم يقلْ: استعنْ لتكونَ الاستعانةُ مقرونةً بالحرصِ، والحرصُ سابقٌ علَى الفعلِ، فلا بدَّ أن تكونَ الاستعانةُ مقارِنةً للفعلِ منْ أوَّلِه.

والاستعانةُ: طلبُ العونِ بلسانِ المقالِ، كقولِكَ: (اللهمَّ أعِنِّي) أوْ: (لا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ باللهِ) عندَ شروعِكَ بالفعلِ.

أوْ بلسانِ الحالِ وهيَ أن تشعرَ بقلبِكَ أنَّكَ محتاجٌ إلَى ربِّكَ -عزَّ وجلَّ- أن يُعِينَكَ علَى هذا الفعلِ، وأنَّهُ إنْ وَكَلَكَ إلَى نفسِكَ وكلَكَ إلَى ضعفٍ وعجزٍ وعورةٍ، أوْ طلبُ العونِ بهما جميعًا، والغالبُ أنَّ مَن استعانَ بلسانِ المقالِ فقد استعانَ بلسانِ الحالِ.

ولو احتاجَ الإنسانُ إلَى الاستعانةِ بالمخلوقِ -كحملِ صندوقٍ مثلاً- فهذا جائزٌ، ولكن لا تُشعِرْ نفسَكَ أنَّها كاستعانتِكَ بالخالقِ، وإنَّما عليكَ أن تشعرَ أنَّها كمعونةِ بعضِ أعضائِكَ لبعضٍ، كما لوْ عجَزْتَ عنْ حملِ شيءٍ بيدٍ واحدةٍ فإنَّكَ تستعينُ علَى حملِهِ باليدِ الأخرَى، وعلَى هذا فالاستعانةُ بالمخلوقِ فيما يقدرُ عليهِ كالاستعانةِ ببعضِ أعضائِكَ، فلا تُنافِي قولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: (( اسْتَعِنْ باللهِ ) ).

قولُهُ: (( ولا تَعْجَزَنْ ) )فعلٌ مضارعٌ مبنيٌّ علَى الفتحِ؛ لاتِّصالِهِ بنونِ التَّوكيدِ الخفيفةِ، و (لا) ناهيَةٌ، والمعنَى: لا تفعلْ فعلَ العاجزِ من التَّكاسُلِ وعدمِ الحزمِ والعزيمةِ، وليسَ المعنَى: لا يصيبُكَ عجزٌ؛ لأنَّ العجزَ عن الشَّيءِ غيرُ التَّعاجُزِ، فالعجزُ بغيرِ اختيارِ الإنسانِ؛ لأنَّ ذلكَ لا طاقةَ لهُ بهِ فلا يتوجَّهُ عليهِ نهيٌ، ولهذا قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: (( صلِّ قَائِمًا، فإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعلَى جَنْبٍ ) ).

فإذا اجتمعَ الحرصُ وعدمُ التَّكاسُلِ، اجتمعَ في هذا صدقُ النِّيَّةِ بالحرصِ والعزيمةِ بعدمِ التَّكاسلِ؛ لأنَّ بعضَ النَّاسِ يَحْرِصُ علَى ما يَنْفَعُهُ ويَشْرَعُ فيه، ثمَّ يَتَعاجَزُ ويَتَكاسَلُ ويَدَعُهُ، وهذا خلافُ ما أمرَ بهِ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم، فما دمْتَ عرفتَ أنَّ هذا نافعٌ فلا تدعْهُ؛ لأنَّكَ إذا عجَزَتْ نفسُكَ خسِرْتَ العملَ الَّذي عمِلْتَ ثمَّ عوَّدْتَ نفسَكَ التَّكاسلَ والتَّدنيَ منْ حالةِ النَّشاطِ والقوَّةِ إلَى حالةِ العجزِ والكسلِ، وكم منْ إنسانٍ بدأ العملَ -ولا سيَّما النَّافعُ- ثمَّ أتَى الشَّيطانُ فثبَّطَهُ، لكن إذا ظهَرَ في أثناءِ العملِ أنَّهُ ضارٌّ فيجبُ عليهِ الرُّجوعُ عنه؛ لأنَّ الرُّجوعَ إلَى الحقِّ خيرٌ من التَّمادي في الباطلِ.

قولُهُ:

(( وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلتُ كَذا لَكانَ كَذا وكَذا ) )هذه هيَ المرتبةُ الرابعةُ ممَّا ذُكِرَ في هذا الحديثِ العظيمِ إذا حصلَ خلافُ المقصودِ.

فالمرتبةُ الأولَى: الحرصُ.

والمرتبةُ الثَّانيَةُ: الاستعانةُ باللهِ.

والمرتبةُ الثالثةُ: المُضِيُّ في الأمرِ والاستمرارُ فيه، وهاتانِ المرتبتانِ إليكَ.

والمرتبةُ الرابعةُ: إذا حصَل خلافُ المقصودِ فهذه ليستْ إليك، ولهذا قالَ: (( وَإنْ أَصابَكَ شَيءٌ.. ) ).

قولُهُ: (( وَإنْ أَصابَكَ شَيءٌ ) )أي: ممَّا لا تحبُّهُ ولا تريدُهُ، وممَّا يعوقُكَ عن الوصولِ إلَى مَرامِكَ فيما شرعْتَ فيهِ منْ نفعٍ.

فمَنْ خالفَهُ القدرُ ولم يأتِ علَى مطلوبِهِ لا يخلُو منْ حالينِ:

الأولَى:

أنْ يقولَ: لوْ لم أَفْعَلْ ما حصَلَ كذا.

الثَّانيَةُ:

أنْ يقولَ: لوْ فعلْتُ كذا - لأمرٍ لم يفعلْهُ - لكانَ كذَا.

مثالُ الأوَّلِ:

قولُ القائلِ: لوْ لمْ أسافرْ ما فاتنِي الرِّبحُ.

ومثالُ الثَّانِي:

أنْ يقولَ لوْ سافرتُ لربِحْتُ.

وذكَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم الثَّانيَ دونَ الأوَّلِ؛ لأنَّ هذا الإنسانَ عاملٌ فاعلٌ، فهوَ يقولُ: لوْ أنِّي فعلتُ الفعلَ الفلانيَّ دونَ هذا الفعلِ لَحَصَّلْتُ مطلوبِي، بخلافِ الإنسانِ الَّذي لم يفعلْ وكانَ موقفُهُ سلبيًّا من الأعمالِ.

قولُهُ: (( كذا ) )كنايَةٌ عنْ مُبْهَمٍ، وهيَ مفعولٌ لفعلْتُ.

قولُهُ: (( لَكَانَ كَذَا ) )فاعلُ (كانَ) ، والجملةُ جوابُ (لو) .

قولُهُ: (( قَدَرُ اللهِ ) )خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، أي: هذا قدرُ اللهِ.

و (( قدرُ ) )بمعنَى: مقدور؛ لأنَّ قدرَ اللهِ يُطلَقُ علَى التَّقديرِ الَّذي هوَ فعلُ اللهِ، ويُطلَقُ علَى المقدورِ الَّذي وقعَ بتقديرِ اللهِ، وهوَ المرادُ هنا؛ لأنَّ القائلَ يتحدَّثُ عنْ شيءٍ وقعَ عليهِ، فقدرُ اللهِ أيْ: مقدورُهُ، ولا مُقَدَّرَ إلاَّ بتقديرٍ؛ لأنَّ المفعولَ نتيجةُ الفعلِ.

والمعنَى أنَّ هذا الَّذي وقعَ قَدَرُ اللهِ وليسَ إِليَّ، أمَّا الَّذي إليَّ فقدْ بذَلْتُ ما أراهُ نافعًا كما أُمِرْتُ، وهذا فيهِ التَّسليمُ التَّامُّ لقضاءِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- وأنَّ الإنسانَ إذا فعَلَ ما أُمرَ بهِ علَى الوجهِ الشَّرعيِّ فإنَّهُ لا يُلامُ علَى شيءٍ، ويفوِّضُ الأمرَ إلَى اللهِ.

قولُهُ: (( وَما شَاءَ فَعَلَ ) )جملةٌ مُصَدَّرةٌ بـ (ما) الشَّرطيَّةِ و (شاء) فعلُ الشَّرطِ، وجوابُهُ (فعل) أي: ما شاءَ اللهُ أن يفعلَهُ فعلَهُ؛ لأنَّ اللهَ لا رادَّ لقضائِهِ ولا مُعَقِّبَ لحكمِهِ، قالَ تعالَى: {لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .

وقدْ سبقَ ذِكْرُ قاعدةٍ، وهيَ: أنَّ كلَّ فعلٍ مُعَلَّقٍ بالمشيئةِ فإنَّهُ مقرونٌ بالحكمةِ، وليسَ هناكَ شيءٌ معلَّقٌ بالمشيئةِ المجرَّدةِ؛ لأنَّ اللهَ لا يَشْرَعُ ولا يَفْعَلُ إلاَّ لحكمةٍ.

وبهذا التَّقريرِ نفهمُ أنَّ المشيئةَ يَلْزَمُ منها وقوعُ المُشَاءِ؛ ولهذا كانَ المسلمونَ يقولونَ: ما شاءَ اللهُ كانَ، وما لمْ يشأْ لمْ يكُنْ.

وأمَّا الإرادةُ ووُقُوعُ المرادِ ففيهِ تفصيلٌ:

فالإرادةُ الشَّرعيَّةُ لا يَلْزَمُ منها وُقُوعُ المرادِ، وهيَ الَّتي بمعنَى المحبَّةِ، قالَ تعالَى: {وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ، بمعنَى يُحِبُّ، ولوْ كانَتْ بمعنَى يَشَاءُ لتابَ اللهُ علَى جميعِ النَّاسِ.

أما الإرادةُ الكَوْنِيَّةُ فيَلْزَمُ منها وُقُوعُ المرادِ،

كما قالَ اللهُ تعالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} .

قولُهُ: (( فإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطانِ ) ) (لوْ) اسمُ (إِنَّ) قَصَدَ حكايتَهَا؛ أيْ: فإنَّ هذا اللفظَ يفتحُ عملَ الشَّيطانِ.

وعَمَلُهُ:

ما يُلْقِيهِ في قلبِ الإنسانِ من الحسرةِ والنَّدمِ والحزنِ؛ فإنَّ الشَّيطانَ يُحِبُّ ذلكَ، قالَ تعالَى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ} .

حتَّى في المنامِ يُرِيهِ أحلامًا مُخِيفةً ليُعَكِّرَ عليهِ صَفْوَهُ ويُشَوِّشَ فِكْرَهُ، وحينئذٍ لا يتفرَّغُ للعبادةِ علَى ما ينبغي.

ولهذا نهَى النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ عن الصَّلاةِ حالَ تشوُّشِ الفكرِ، فقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ: (( لاَ صَلاَةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلاَ وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ ) ).

فإذا رَضِيَ الإنسانُ باللهِ ربًّا وقالَ: هذا قضاءُ اللهِ وقَدَرُهُ، وأنَّهُ لا بُدَّ أنْ يَقَعَ؛ اطْمَأَنَّتْ نفسُهُ، وانْشَرَحَ صَدْرُهُ.

فيهِ مسائلُ:

الأولَى: (تفسيرُ الآيَتَيْنِ في آلِ عِمْرانَ)

وهُمَا: الأولَى: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} .

الثَّانيَةُ: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا} أيْ: ما أُخْرِجْنَا وما قُتِلْنا.

ولكنَّ اللهَ تعالَى أبْطَلَ ذلكَ بقولِهِ: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} .

والآيَةُ الأخرَى: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} فأَبْطَلَ اللهُ دَعْوَاهُمْ هذهِ بقولِهِ: {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أيْ: إنْ كُنْتُمْ صادقينَ في البقاءِ، وأنَّ عدمَ الخروجِ مانعٌ من القتلِ، فادْرَءُوا عنْ أنفسِكُم الموتَ؛ فإنَّهُم لنْ يَسْلَمُوا من الموتِ، بلْ لا بُدَّ أنْ يمُوتُوا، ولَكِنْ لوْ أطَاعُوهُم وترَكوا الجهادَ لكَانُوا علَى ضلالٍ مُبِينٍ.

الثَّانِيَةُ: (النَّهْيُ الصَّرِيحُ عنْ قَوْلِ:(لَوْ) ، إذا أَصَابَكَ شَيْءٌ) لقولِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ: (( وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا لَكَانَ كَذَا ) ).

الثَّالِثةُ: (تعليلُ الْمَسأَلةِ بأنَّ ذلِكَ يفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ) فالنَّهيُ عنْ قولِ: (لَوْ) ، عِلَّتُهَا أنَّها تفتحُ عملَ الشَّيطانِ، وهوَ الوسوسةُ، فَيَتَحسَّرُ الإنسانُ بذلكَ ويَنْدَمُ ويَحْزَنُ.

الرَّابِعَةُ: (الإرشادُ إلَى الكلامِ الحَسَنِ) يعني قَوْلَهُ: (( وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ ) ).

الخامِسَةُ: (الأمْرُ بالحِرْصِ عَلَى ما يَنْفَعُ معَ الاسْتِعانةِ باللهِ) لقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ: (( احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ ) ).

السَّادِسةُ: (النَّهيُ عنْ ضِدِّ ذلِكَ، وهُوَ العجزُ) لقولِهِ: (( وَلاَ تَعْجَزَنْ ) )

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام