بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأمَنْ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأَعْرَافُ:99] .
وَقَوْلِهِ: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [الْحِجْرُ:56] .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ فَقَالَ: (( الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ ) ).
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ) رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ الأَعْرَافِ.
الثَّانِيَةُ:
تَفْسِيرُ آيَةِ الْحِجْرِ.
الثَّالِثَةُ:
شِدَّةُ الْوَعِيدِ فِيمَنْ أَمِنَ مَكْرَ اللهِ.
الرَّابِعَةُ: شِدَّةُ الْوَعِيدِ فِي الْقُنُوطِ.
هذا البابُ يشتملُ على موضوعيْنِ:
الأوَّلُ:
الأمنُ منْ مكْرِ اللهِ.
والثاني:
القُنُوطُ منْ رحمةِ اللهِ، وكِلاهُما طَرَفَا نقيضٍ.
واستدلَّ المُؤَلِّفُ للأوَّلِ بقوْلِهِ تعالى:
{أَفَأَمِنُوا} الضميرُ يعودُ على أهلِ القُرى؛ لأنَّ ما قبلَها قولُهُ تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوْ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} فقولُهُ: {وَهُمْ نَائِمُونَ} يدلُّ على كمالِ الأمنِ؛ لأنَّهُمْ في بلادِهِمْ، وأنَّ الخائفَ لا ينَامُ.
وقولُهُ: {ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} يدلُّ أيضًا على كمالِ الأمنِ والرخاءِ وعدمِ الضيقِ؛ لأنَّهُ لوْ كانَ عندَهُم ضيقٌ في العيشِ لذَهَبُوا يطلبونَ الرزقَ والعيشَ، وما صارُوا في الضُّحَى، في رابعةِ النهارِ، يلْعَبُونَ.
والاستفهاماتُ هنا كلُّها للإنكارِ والتعَجُّبِ منْ حالِ هؤلاءِ، فهُمْ نائمونَ في رَغَدٍ، ومُقِيمونَ على معاصي اللهِ وعلى اللهْوِ، ذَاكِرُونَ لِتَرَفِهِمْ، غافلونَ عنْ ذِكْرِ خالقِهِم، فهُمْ في الليلِ نُوَّمٌ، وفي النهارِ لُعَّبٌ.
فبَيَّنَ اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّ هذا منْ مَكْرِهِ بهِمْ؛ ولهذا قالَ: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ} ثمَّ خَتَمَ الآيَةَ بقولِهِ: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} .
فالَّذِي يَمُنُّ اللهُ عليهِ بالنِّعَمِ والرَّغَدِ والتَّرَفِ، وهوَ مقيمٌ على معصيتِهِ يَظُنُّ أنهُ رابحٌ وهوَ في الحقيقةِ خاسرٌ.
فإذا أنعمَ اللهُ عليكَ منْ كلِّ ناحيَةٍ؛ أطعمَكَ مِنْ جوعٍ، وآمنَكَ منْ خوفٍ، وكساكَ منْ عُرْيٍ، فلا تظُنَّ أنَّكَ رابحٌ وأنتَ مقيمٌ على معصيِة اللهِ، بلْ أنتَ خاسرٌ؛ فإنَّ هذا منْ مكرِ اللهِ بكَ.
قولُهُ: {إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} الاستثناءُ للحصرِ؛ وذلكَ لأنَّ ما قَبْلَهُ مُفَرَّغٌ لَهُ، فالقومُ: فاعلٌ، والخاسرونَ: صِفَتُهُمْ.
وفي قولِهِ تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ} دليلٌ على أنَّ للهِ مكرًا.
والمكرُ هوَ:
التوصُّلُ إلى الإيقاعِ بالخصمِ مِنْ حيثُ لا يَشْعُرُ، ومنهُ ما جاءَ في الحديثِ: (( الْحَرْبُ خَدْعَةٌ ) ).
فإنْ قيلَ: كيفَ يُوصَفُ اللهُ بالمكرِ معَ أنَّ ظاهرَهُ مذمومٌ؟
قيلَ:
إنَّ المكرَ في مَحَلِّهِ محمودٌ يدُلُّ على قُوَّةِ الماكرِ،
وأنَّهُ غالبٌ على خَصْمِهِ؛ ولذلكَ لا يُوصَفُ اللهُ بهِ على الإطلاقِ، فلا يَجُوزُ أنْ تقولَ: إنَّ اللهَ مَاكِرٌ، وإنَّما تذْكُرُ هذهِ الصفةَ في مَقَامٍ تكونُ فيهِ مدْحًا، مثلِ قولِهِ تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ} .
وقالَ تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} .
ومثلِ قولِهِ تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ} ولا تُنْفَى عنهُ هذهِ الصفةُ على سبيلِ الإطلاقِ، بلْ إنَّها في المَقَامِ التي تكونُ مدْحًا يُوصَفُ بها، وفي المَقَامِ التي لا تكونُ مدحًا لا يُوصَفُ بها، وكذلكَ لا يُسَمَّى اللهُ بها، فلا يُقالُ: إنَّ منْ أسماءِ اللهِ الماكرَ.
وأمَّا الخِيَانَةُ: فلا يُوصَفُ اللهُ بها مُطْلَقًا؛
لأنَّها ذمٌّ بكلِّ حالٍ؛ إذْ إنَّها مَكْرٌ في موضِعِ الائْتِمَانِ، وهوَ مذمومٌ، قالَ تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} ولمْ يقُلْ فَخَانَهُم.
وأمَّا الخِدَاعُ:
فهوَ كالمَكْرِ يُوصَفُ اللهُ بهِ حيثُ يكونُ مدْحًا؛ لقوْلِهِ تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} والمكرُ من الصفاتِ الفعليَّةِ؛ لأنَّها تتعَلَّقُ بمشيئةِ اللهِ سبحانَهُ.
ويُستفادُ منْ هذهِ الآيَةِ فائدتان عظيمتان:
الأولى:
الحَذَرُ مِن النِّعَمِ التي يَجْلِبُها اللهُ للعبدِ؛
لِئَلاَّ تكونَ استِدْرَاجًا؛ لأنَّ كلَّ نعمةٍ فَلِلَّهِ عليكَ وظيفةُ شُكْرِهَا، وهيَ القيامُ بطاعةِ المُنْعِمِ، فإذا لمْ تَقُمْ بها معَ تَوَافُرِ النِّعَمِ فاعْلَمْ أنَّ هذا مِنْ مَكْرِ اللهِ.
الثانية:
تحريمُ الأمْنِ مِنْ مَكْرِ اللهِ، وذلكَ لِوَجْهَيْنِ:
الأوَّلُ:
أنَّ الجملةَ بصيغةِ الاستفهامِ
الدَّالِّ على الإنكارِ والتعجُّبِ.
الثاني:
قولُهُ تعالى: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} .
الموضوعُ الثاني:
الذي اشتملَ عليهِ هذا البابُ: القُنُوطُ منْ رحمةِ اللهِ، واستدلَّ المُؤَلِّفُ لهُ بقوْلِهِ تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ} .
قوله: {مَنْ} اسمُ استفهامٍ؛ لأنَّ الفعلَ بعدَها مرفوعٌ، ثمَّ إنَّها لمْ يكُنْ لها جوابٌ.
والقُنُوطُ: أَشَدُّ اليأسِ؛ لأنَّ الإنسانَ يَقْنَطُ ويُبْعِدُ الرجاءَ والأملَ بحيثُ يسْتَبْعِدُ حُصُولَ مطلوبِهِ، أوْ كَشْفَ مكروبِهِ.
قولُهُ: {مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ} هذهِ رحمةٌ مضافةٌ إلى الفاعلِ، ومفعولُها محذوفٌ، والتقديرُ: (مِنْ رحمةِ ربِّهِ إيَّاهُ) .
قولُهُ: {إِلاَّ الضَّالُّونَ} ، {إلاَّ} أداةُ حَصْرٍ؛ لأنَّ الاستفهامَ في قولِهِ: {وَمَنْ يَقْنَطُ} مُرادٌ بهِ النفي، و {الضَّالُّونَ} فاعلُ {يَقْنَطُ} والمعنى: لا يَقْنَطُ مِنْ رحمةِ اللهِ إلاَّ الضَّالُّونَ.
والضَّالُّ: هو فاقدُ الهدايَةِ التَّائِهُ الذي لا يدري ما يجبُ للهِ سبحانَهُ معَ أنَّهُ سُبْحَانَهُ قريبُ الغِيَرِ.
وأمَّا معنى الآيَةِ: فإنَّ
إبراهيمَ عليهِ السلامُ لمَّا بشَّرَتْهُ الملائكةُ بغُلامٍ عليمٍ، قالَ لهُم: {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} فالقُنُوطُ مِنْ رحمةِ اللهِ لا يجُوزُ؛ لأنَّهُ سُوءُ ظَنٍّ باللهِ عزَّ وجلَّ، وذلكَ مِنْ وجهَيْنِ:
الأوَّلُ:
أنَّهُ طَعْنٌ في قُدْرَتِهِ سبحانَهُ؛
لأنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ اللهَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ لمْ يَسْتَبْعِدْ شيئًا على قُدْرَةِ اللهِ.
الثاني:
أنَّهُ طَعْنٌ في رَحْمَتِهِ سبحانَهُ؛
لأنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ اللهَ رحيمٌ لا يَسْتَبْعِدُ أنْ يَرْحَمَهُ اللهُ سبحانَهُ؛ ولهذا كانَ القانِطُ مِنْ رحمةِ اللهِ ضَالاًّ.
ولا ينبغي للإنسانِ إذا وقعَ في كُرْبةٍ أنْ يستَبْعِدَ حصولَ مطلوبِهِ، أوْ كَشْفَ مكروبِهِ، وكمْ مِنْ إنسانٍ وقعَ في كُرْبَةٍ وظنَّ أنْ لا نجاةَ منها فَنَجَّاهُ اللهُ سبحانَهُ.
-إمَّا: بعملٍ صالحٍ سابقٍ، مِثْلَمَا وقعَ ليُونُسَ عليهِ السلامُ، قالَ تعالى: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} .
-أوْ بعملٍ لاحقٍ، وذلكَ كدُعاءِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يومَ بَدْرٍ وليلةَ الأحزابِ، وكذلكَ أصحابُ الغَارِ.
وتبيَّنَ ممَّا سبقَ أنَّ المُؤَلِّفَ رَحِمَهُ اللهُ أرادَ أنْ يجمعَ الإنسانُ في سَيْرِهِ إلى اللهِ تعالى بينَ الخوفِ فلا يَأْمَنُ مكرَ اللهِ، وبينَ الرجاءِ فلا يَقْنَطُ منْ رحمتِهِ.
فالأمنُ مِنْ مكرِ اللهِ ثَلْمٌ في جانبِ الخوفِ،
والقُنُوطُ منْ رحمتِهِ ثَلْمٌ في جانبِ الرجاءِ.
قال في (تيسير العزيز الحميد) ص514: (وكان السلف يستحبون أن يقوي في الصحة الخوف، وفي المرض الرجاء، وينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا كان الغالب عليه الرجاء فسد) .
قولُهُ في حديثِ
ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنْهُما: (( أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ سُئِلَ عن الكبائرِ ) )جمعُ كبيرةٍ، والمرادُ بها: كبائرُ الذنوبِ، وهذا السؤالُ يدُلُّ على أنَّ الذنوبَ تنْقَسِمُ إلى: صغائرَ، وكبائرَ، وقدْ دَلَّ على ذلكَ القرآنُ، قالَ تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} .
-وقالَ تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} والكبائرُ ليْسَتْ على درجةٍ واحدةٍ، فبعضُها أكبرُ مِنْ بعضٍ.
واختلفَ العلماءُ هلْ هيَ معدودةٌ أوْ محدودةٌ؟
فقالَ بعضُ أهلِ العلمِ:
إنَّها معدودةٌ، وصارَ يُعَدِّدُها وَيَتَتَبَّعُ النصوصَ الواردةَ في ذلكَ.
وقيلَ: إنَّها محدودةٌ،
وقدْ حدَّها شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ فقالَ: (كُلُّ ما رُتِّبَ عليهِ عقوبةٌ خاصَّةٌ، سواءٌ كانتْ في الدُّنيا أو الآخِرَةِ، وسواءٌ كانتْ بِفَوَاتِ مجلوبٍ، أوْ بحُصُولِ مكروهٍ) وهذا واسعٌ جدًّا يشملُ ذنوبًا كثيرةً.
ووَجْهُ ما قالَهُ: أنَّ المعاصيَ قسمانِ:
-قسمٌ نُهِيَ عنْهُ فقطْ:
ولمْ يُذْكَرْ عليهِ وعيدٌ، فعقوبةُ هذا تأتي بالمعنى العامِّ للعقوباتِ.
وهذهِ المعصيَةُ مُكَفَّرَةٌ بفعلِ الطاعاتِ، كقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ ) ).
وكذلكَ ما وَرَدَ في العُمْرَةِ إلى العُمرةِ والوُضوءِ منْ تكفيِر الخطايا، فهذهِ من الصغائرِ.
-وقِسْمٌ رُتِّبَ عليهِ عقوبةٌ خاصَّةٌ:
-كاللَّعْنِ.
-أو الْغَضَبِ.
-أو التبَرُّئِ منْ فاعلِهِ.
-أو الحدِّ في الدُّنيا.
-أوْ نَفْيِ الإيمانِ.
-وما أشبَهَ ذلكَ، فهذهِ كبيرةٌ تختلفُ في مراتِبِها.
والسائلُ في هذا الحديثِ إنَّما قَصْدُهُ معرفةُ الكبائرِ لِيَجْتَنِبَهَا، خلافًا لحالِ كثيرٍ مِن الناسِ اليومَ؛ حيثُ يَسْأَلُ لِيَعْلَمَ فقطْ؛ ولذلكَ نَقَصَتْ بَرَكَةُ عِلْمِهِمْ.
قولُهُ:
(( الشِّرْكُ باللهِ ) )ظاهرُ الإطْلاقِ أنَّ المرادَ بهِ الشِّرْكُ الأصغرُ والأكبرُ، وهوَ الظاهرُ؛ لأنَّ الشركَ الأصغرَ أكبرُ مِن الكبائرِ.
قالَ ابنُ مسعودٍ: (أََنْ أَحْلِفَ بِاللهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا) وذلكَ لأنَّ سَيِّئَةَ الشركِ أعظمُ مِنْ سَيِّئَةِ الكَذِبِ، فدلَّ على أنَّ الشِّركَ من الكبائرِ مُطْلَقًا.
والشركُ باللهِ يتضَمَّنُ الشركَ برُبُوبِيَّتِهِ، أوْ بأُلُوهِيَّتِهِ، أوْ بأسمائِهِ وصفاتِهِ.
قولُهُ:
(( وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ ) )اليَأْسُ: فَقْدُ الرجاءِ،والرَّوْحُ: قَرِيبٌ مِنْ معنى الرحمةِ، وهوَ الفَرَجُ والتنفيسُ، واليَأْسُ منْ رَوْحِ اللهِ مِنْ كبائرِ الذنوبِ؛ لنتائجِهِ السَّيِّئَةِ.
قولُهُ: (( وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ ) )بأنْ يعصيَ اللهَ معَ اسْتِدْرَاجِهِ بالنِّعمِ، قالَ تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} .
وظاهرُ هذا الحديثِ الحصرُ، وليسَ كذلكَ؛ لأنَّ هناكَ كبائرَ غيرَ هذهِ، ولكنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُجِيبُ كلَّ سائلٍ بما يُنَاسِبُ حالَهُ، فلعلَّهُ رأى هذا السائلَ عندَهُ شيءٌ مِن الأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللهِ، أو اليَأْسِ منْ رَوْحِ اللهِ، فأرادَ أن يُبَيِّنَ لَهُ ذلكَ، وهذهِ مسألةٌ ينبغي أنْ يَفْطِنَ لها الإنسانُ فيما يأتي مِن النصوصِ الشرعيَّةِ ممَّا ظاهرُهُ التعارضُ، فيحملُ كلَّ واحدٍ منْها على الحالِ المناسبةِ؛ ليَحْصُلَ التآلُفُ بينَ النصوصِ الشرعيَّةِ.
قولُهُ في أثرِ ابنِ مسعودٍ: (( الإِشْرَاكُ بِاللهِ ) )هذا أكبرُ الكبائرِ؛ لأنَّهُ انتهاكٌ لأعظمِ الحقوقِ، وهوَ حقُّ اللهِ تعالى الذي أوْجَدَكَ وأعدَّكَ وأمدَّكَ، فلا أحدَ أكبرُ عليكَ نعمةً من اللهِ تعالى.
قولُهُ: (وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ) سبقَ شرْحُهُ.
قولُهُ: (الْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ) المرادُ بالقُنُوطِ: أنْ يستبعدَ رحمةَ اللهِ، ويستبعدَ حُصُولَ المطلوبِ.
والمرادُ باليأسِ هنا: أنْ يستبعدَ الإنسانُ زوالَ المكروهِ، وإنَّما قُلْنَا ذلكَ لِئَلاَّ يحْصُلَ تكرارٌ في كلامِ ابنِ مسعودٍ.
والخُلاصةُ: أنَّ السائرَ إلى اللهِ يَعْتَرِيهِ شيْئَانِ يَعُوقَانِهِ عنْ رَبِّهِ،
وهُما:
-الأمنُ مِنْ مكرِ اللهِ.
-والقنوطُ منْ رحمةِ اللهِ.
فإذا أُصيبَ بالضَرَّاءِ، أوْ فاتَ عليهِ ما يُحِبُّ، تَجِدُهُ -إنْ لمْ يتَدَارَكْهُ رَبُّهُ- يسْتَوْلِي عليهِ القنوطُ، ويَسْتَبْعِدُ الفرجَ، ولا يسعى لأسبابِهِ. وأمَّا الأمنُ مِنْ مكرِ اللهِ: فتجدُ الإنسانَ مقيمًا على المعاصي معَ توافُرِ النِّعَمِ عليهِ، ويرى أنَّهُ على حَقٍّ، فيستمرُّ في باطِلِهِ، فلا شكَّ أنَّ هذا اسْتِدْرَاجٌ.
فيهِ مَسائِلُ:
الأولى:
(تَفْسيرُ آيَةِ الأعرافِ)
وهيَ قولُهُ تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} وقدْ سبَقَ تفسيرُها.
الثانيَةُ: (تفسيرُ آيَةِ الْحِجْرِ) وهيَ قوْلُهُ تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} ، وقدْ سبقَ تفسيرُها.
الثالثةُ: (شِدَّةُ الوعيدِ فِيمَنْ أَمِنَ مكْرَ اللهِ) وذلكَ بأنَّهُ مِنْ أكبرِ الكبائرِ، كما في الآيَةِ والحديثِ، وتُؤْخَذُ من الآيَةِ الأولى والحديثيْنِ.
(8) الرابعةُ: (شِدَّةُ الوعيدِ في القُنوطِ) قُتِلَ صَبْرًا؛ أيْ: محبوسًا مَأْسُورًا.