فهرس الكتاب
الصفحة 62 من 93

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعَبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الْكَهْفُ:110] .

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: (( قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ ) )رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: (( أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟ ) )

قَالُوا: (بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ) .

قَالَ: (( الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلاَتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ ) )رَوَاهُ أَحْمَدُ.

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى:

تَفْسِيرُ آيَةِ الْكَهْفِ.

الثَّانِيَةُ:

الأَمْرُ الْعَظِيمُ فِي رَدِّ الْعَمَلِ الصَّالِحِ إِذَا دَخَلَهُ شَيْءٌ لِغَيْرِ اللهِ.

الثَّالِثَةُ:

ذِكْرُ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِذَلِكَ وَهُوَ كَمَالُ الْغِنَى.

الرَّابِعَةُ:

أَنَّ مِنَ الأَسْبَابِ: أَنَّهُ خَيْرُ الشُّرَكَاءِ.

الْخَامِسَةُ:

خَوْفُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَصْحَابِهِ مِنَ الرِّيَاءِ.

السَّادِسَةُ: أَنَّهُ فَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنْ يُصَلِّيَ الْمَرْءُ للهِ لَكِنْ يُزَيِّنُهَا لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ إِلَيْهِ.

(1) أطْلَقَ المُؤَلِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- الترجمةَ فَلَمْ يُفْصِحْ عن حُكْمِهِ؛ لأجْلِ أنْ يَحْكُمَ الإنسانُ بنفسِهِ على الرِّياءِ على ما جاءَ فيهِ.

وتعريفُ الرِّيَاءِ: مَصْدَرُ رَاءَى يُرَائِي؛ أيْ: عَمِلَ عَمَلاً لِيَرَاهُ الناسُ، ويُقَالُ: مُرَاءَاةً، كمَا يُقالُ: جَاهدَ جِهادًا ومُجَاهدةً.

قال الفيروز آبادي في (البصائر) : (ومعناه في اللغة: هو إظهار الشيء للغير ليراه) ويَدْخُلُ في ذلكَ: مَنْ عَمِلَ العَمَلَ لِيَسْمَعَهُ الناسُ، وَيُقَالُ لَهُ: (مُسَمِّعٌ) .

وفي الحديثِ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّهُ قالَ: (( مَنْ رَاءَى رَاءَى اللهُ بِهِ، ومَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ ) ).

قال ابن حجر: (هو إظهار الطاعة للغير ليراه الناس وليحمدوه) .

والرِّياءُ خُلُقٌ ذميمٌ، وَهُوَ مِنْ صفاتِ المنافقينَ، قالَ تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً} .

والرياءُ يُبْحَثُ عنه في مَقَامَيْنِ:

المَقَامُ الأوَّلُ: في حُكْمِهِ.

فنقولُ:

الرياءُ من الشِّرْكِ الأصغرِ؛ لأنَّ الإنسانَ قَصَدَ بعبادَتِهِ غيرَ اللهِ، وقدَ يَصِلُ إلى الأكبرِ، وقدْ مثَّلَ ابنُ القيِّمِ للشِّرْكِ الأصغرِ فَقَالَ: (مِثْلُ يسيرِ الرِّياءِ) ، وهذا يدلُّ على أنَّ الرياءَ كثيرُهُ قدْ يصلُ إلى الأكبرِ.

المقامُ الثاني: في حُكْمِ العبادةِ إذا خالطَها الرياءُ، وهوَ على ثلاثةِ أَوْجُهٍ:

الأوَّلُ: أنْ يكونَ الباعثَ على العبادةِ مُرَاءَاةُ الناسِ مِن الأصلِ، كمَنْ قامَ يُصَلِّي مِنْ أجلِ مُرَاءَاةِ الناسِ ولمْ يَقْصِدْ وجهَ اللهِ. فهذا شركٌ، والعبادةُ باطلةٌ.

الثاني: أنْ يكونَ مشاركًا للعبادةِ في أثنائِها، بمعنى أنْ يكونَ الحاملَ لَهُ في أوَّلِ أمْرِهِ الإخلاصُ للهِ، ثمَّ يَطْرَأُ الرياءُ في أثناءِ العبادةِ، فإنْ كانت العبادةُ لا ينْبَنِي آخرُها على أوَّلِهَا فأوَّلُها صحيحٌ بكلِّ حالٍ، والباطلُ آخرُها.

مثالُ ذلكَ: (رجلٌ عندَهُ مِائَةُ ريالٍ قدْ أعدَّها للصدَقةِ، فتصدَّقَ بخمسينَ ورَاءى في الخمسينَ الباقيَةِ) فالأُولَى حُكْمُها صحيحٌ، والثانيَةُ باطلةٌ.

أمَّا إذا كانت العبادةُ يَنْبَنِي آخرُها على أوَّلِها، فهيَ على حاليْنِ:

الأولى: أنْ يُدَافِعَ الرياءَ ولا يسْكُنَ إليهِ، بلْ يُعرِضُ عنْهُ ويَكْرَهُهُ، فإنَّهُ لا يُؤَثِّرُ عليهِ شيئًا؛ لقولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ ) ).

مثالُ ذلكَ:

(رجلٌ قامَ يُصَلِّي ركعتيْنِ مُخْلِصًا للهِ) وفي الركعةِ الثانيَةِ أحسَّ بالرياءِ، فصارَ يُدَافِعُهُ، فإنَّ ذلكَ لا يَضرُّهُ ولا يُؤَثِّرُ على صلاتِهِ شيئًا.

الثانية: أنْ يَطْمَئِنَّ إلى هذا الرياءِ ولا يُدَافِعُهُ، فحينئذٍ تَبْطُلُ جميعُ العبادةِ؛ لأنَّ آخِرَها مَبْنِيٌّ على أوَّلِها ومُرْتَبِطٌ بِهِ.

قال ابن رجب: (لا أعلم خلافاً عن السلف في كون هذه العبادة فاسدة) .

مثالُ ذلكَ: رجلٌ قامَ يُصَلِّي ركعتيْنِ مخلصًا للهِ وفي الركعةِ الثانيَةِ طرأَ عليهِ الرياءُ؛ لإحساسِهِ بشخصٍ يَنْظُرُ إليهِ، فاطمأنَّ لذلكَ ونزعَ إليهِ، فتبْطُلُ صلاتُهُ كلُّها؛ لارتباطِ بعضِها ببعضٍ.

الثالثُ:

ما يطرأُ بعدَ انتهاءِ العبادةِ،

فإنَّهُ لا يُؤَثِّرُ عليها شيئًا، اللهُمَّ إلاَّ أنْ يكونَ فيهِ عُدْوَانٌ كالمَنِّ والأذى بالصدقةِ، فإنَّ هذا العدوانَ يكونُ إثمُهُ مُقَابلاً لأجرِ الصدقةِ فيُبْطِلُها؛ لقولِهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} .

وليسَ مِن الرياءِ أنْ يفرحَ الإنسانُ بِعِلْمِ الناسِ بعبادتِهِ؛

لأنَّ هذا إنَّما طرأَ بعدَ الفراغِ مِن العبادةِ.

وليسَ مِن الرياءِ أيضًا أنْ يُسَرَّ الإنسانُ بفعلِ الطاعةِ في نفسِهِ، بلْ ذلكَ دليلٌ على إيمانِهِ؛ قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَاتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَاتُهُ فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ ) )وقَدْ سُئِلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ عنْ ذلكَ، فقالَ: (( تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ ) ).

(2) قولُهُ تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} يَأْمُرُ اللهُ نبيَّهُ أنْ يقولَ للناسِ: إنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. وهُوَ قَصْرُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ على البشريَّةِ، وأنَّهُ ليسَ رَبًّا ولا مَلَكًا.

وأكَّدَ هذهِ البشريَّةَ بقولِهِ: {مِثْلُكُمْ} ؛ فَذِكْرُ المِثْلِ منْ بابِ تحقيقِ البشرِيَّةِ.

قولُهُ: {يُوحَى إِلَيَّ} ، الوحيُ في اللُّغَةِ:الإعلامُ بسُرْعَةٍ وخَفَاءٍ، ومنْهُ قولُهُ تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} .

وفي الشرعِ:

إعلامُ اللهِ بالشَّرْعِ.

والوحيُ هوَ الفَرْقُ بينَنا وبينَهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ،

فهوَ مُتَمَيِّزٌ بالوحيِ كغيرِهِ مِن الأنبياءِ والرُّسُلِ.

قولُهُ: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} هذهِ الجملةُ في تَأْوِيلِ مصدرٍ نائبِ فاعلِ {يُوحَى} وفيها حَصْرٌ طريقُهُ {أَنَّمَا} فيكونُ معناها: (ما إِلَهُكُمْ إلاَّ إلهٌ واحدٌ، وهُوَ اللهُ) فإذا ثبتَ ذلكَ فإنَّهُ لا يليقُ بكَ أنْ تُشْرِكَ مَعَهُ غيرَهُ في العبادةِ التي هيَ خالصُ حَقِّهِ؛ ولذلكَ قالَ تعالى بعدَ هذا: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} .

فقولُهُ تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} المرادُ بالرجاءِ: الطلبُ والأملُ؛ أيْ: مَنْ كانَ يُؤَمَّلُ أنْ يَلْقَى ربَّهُ.

والمرادُ باللُّقْيَا هنا: المُلاقاةُ الخاصَّةُ؛ لأنَّ اللُّقْيَا على نوعَيْنِ:

الأوَّلُ: عامَّةٌ لكلِّ إنسانٍ، قالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ} ولذلكَ قالَ مُفَرِّعًا على ذلكَ: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} ، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ...} الآيَةَ.

الثاني: الخاصَّةُ بالمؤمنينَ، وهوَ لِقَاءُ الرِّضَى والنعيمِ كما في هذهِ الآيَةِ، وتتَضَمَّنُ رُؤْيَتَهُ تباركَ وتعالى كما ذكرَ ذلكَ بعضُ أهلِ العلمِ.

قال شيخ الإسلام في (الفتاوى) (6/488 ـ 489) في معنى (اللقاء) : (طائفة من أهل السنة فسرت(اللقاء) في كتاب الله بالرؤية.

ومن أهل السنة من قال (اللقاء) إذا قرن بالتحية فهو من الرؤية، قال ابن بطة: (سمعت أبا عمر الزاهد اللُّغوي يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى يقول في قوله تعالى: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} أجمع أهل اللغة أن اللقاء ههنا لا يكون إلا معاينة ونظر بالأبصار) .

فقولُهُ: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا} الفاءُ رابطةٌ لجوابِ الشرطِ، والأمرُ للإرشادِ؛ أيْ: مَنْ كانَ يُرِيدُ أنْ يَلْقَى اللهَ على الوجهِ الذي يَرْضَاهُ سُبْحَانَهُ فليعملْ عملاً صالحًا.

والعملُ الصالحُ: ما كانَ خالصًا صَوَابًا، وهذا وجُهُ الشاهدِ من الآيَةِ.

فالْخَالِصُ: ما قُصِدَ بهِ وجهُ اللهِ، والدليلُ على ذلكَ قولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ) ).

والصوابُ: ما كانَ على شريعةِ اللهِ، والدليلُ على ذلكَ قولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ ) ).

ولهذا قَالَ العلماءُ: هذانِ الحديثانِ مِيزَانُ الأعمالِ.

فالأوَّلُ: ميزانُ الأعمالِ الباطنةِ.

والثاني:

ميزانُ الأعمالِ الظاهرةِ.

قولُهُ: {وَلاَ يُشْرِكْ} لا: ناهيَةٌ، والمرادُ بالنَّهْيِ الإرشادُ.

قولُهُ: {بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} خَصَّ العبادةَ؛ لأنَّها خالصُ حقِّ اللهِ، ولذلكَ أتى بكلمةِ (رَبٍّ) إشارةً إلى العلَّةِ، فكمَا أنَّ رَبَّكَ خلقَكَ، ولا يُشَارِكُهُ أحدٌ في خلقِكَ، فيجبُ أنْ تكونَ العبادةُ لهُ وحدَهُ؛ ولذلكَ لمْ يَقُلْ: (لا يُشْرِكْ بعبادةِ اللهِ) فذكرَ الربَّ منْ بابِ التعليلِ، كقوْلِهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} .

وقولُهُ: {أَحَدًا} نَكِرَةٌ في سياقِ النهيِ، فتكونُ عامَّةً لكلِّ أحدٍ.

والشاهدُ من الآيَةِ:

أنَّ الرياءَ من الشركِ، فيكونُ داخلاً في النهيِ عنهُ.

وفي هذهِ الآيَةِ دليلٌ على مُلاقَاةِ اللهِ تعالى، وقَد استدلَّ بها بعضُ أهلِ العلمِ على ثُبُوتِ رُؤْيَةِ اللهِ؛ لأنَّ الملاقاةَ معناها المُوَاجَهَةُ.

وفيها دليلٌ على أنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بَشَرٌ لا يَسْتَحِقُّ أنْ يُعْبَدَ؛ لأنَّهُ حَصَرَ حالَهُ بالبشريَّةِ، كما حصَرَ الأُلُوهِيَّةَ باللهِ.

(3) قولُهُ في حديثِ أبي هريرةَ: (( قَالَ اللهُ تَعَالَى ) )هذا الحديثُ يَرْوِيهِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عنْ ربِّهِ، ويُسَمَّى هذا النوعُ بالحديثِ القُدْسِيِّ.

قولُهُ: (( أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ ) ).

قولُهُ: (( أَغْنَى ) )اسمُ تفضيلٍ، وليستْ فعلاً ماضيًا، ولهذا أُضِيفَت إلى الشركاءِ.

يعني: إذا كانَ بعضُ الشركاءِ يستغني عنْ شَرِكَتِهِ معَ غيرِهِ، فاللهُ أغنى الشركاءِ عن المشاركةِ. فاللهُ لا يَقْبَلُ عملاً لهُ فيهِ شِرْكٌ أبدًا، ولا يقبلُ إلاَّ العملَ الخالصَ لهُ وحدَهُ.

فكمَا أنَّهُ الخالقُ وحدَهُ فكيفَ تَصْرِفُ شيئًا منْ حقِّهِ إلى غيرِهِ؟!

فهذا ليسَ عدْلاً؛ ولهذا قالَ اللهُ عنْ لُقْمَانَ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .

فاللهُ الذي خلقَكَ وأعدَّكَ إعدادًا كاملاً بكلِّ مَصَالِحِكَ، وأمدَّكَ بما تحتاجُ إليهِ، ثمَّ تذهبُ وتَصْرِفُ شيئًا منْ حقِّهِ إلى غيرِهِ، فلا شكَّ أنَّ هذا مِنْ أظْلَمِ الظلمِ.

قولُهُ: (( عَمَلاً ) )نكرةٌ في سياقِ الشرطِ، فَتَعُمُّ أيَّ عَمَلٍ منْ صلاةٍ أوْ صيامٍ أوْ حجٍّ أوْ جهادٍ أوْ غيرِهِ.

قولُهُ: (( تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ ) )أيْ: لمْ أُثِبْهُ على عملِهِ الذي أشْرَكَ فيهِ. وقدْ يصلُ هذا الشركُ إلى حدِّ الكفرِ، فيتركُ اللهُ جميعَ أعمالِهِ؛ لأنَّ الشركَ يُحْبِطُ الأعمالَ إذا ماتَ عليهِ.

والمرادُ بـ (( شِرْكَهُ ) )عمَلَهُ الذي أشرَكَ فيهِ. وليسَ المرادُ شريكَهُ؛ لأنَّ الشريكَ الذي أشركَ بهِ معَ اللهِ قدْ لا يتْرُكُهُ، كمَنْ أشركَ نبيًّا أوْ وَلِيًّا؛ فإنَّ اللهَ لا يَتْرُكُ ذلكَ النبيَّ والوليَّ.

(4) قولُهُ في حديثِ أبي سعيدٍ: (( أَلاَ ) )، أداةُ عَرْضٍ، والغرضُ منها تنبيهُ المُخَاطَبِ، فهوَ أبْلَغُ مِنْ عدمِ الإتيانِ بها.

قولُهُ: (( بِمَا هُوَ ) ) (ما) اسمٌ موصولٌ بمعنى (الذي) .

قولُهُ: (( أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي ) )أيْ: عندَ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ؛ لأنَّهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مِنْ رحمتِهِ بالمؤمنينَ يَخَافُ عليهمْ كُلَّ الفتنِ. وأعظمُ فتنةٍ في الأرضِ هيَ فتنةُ المسيحِ الدَّجَّالِ، لكنَّ خَوْفَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ منْ فتنةِ هذا الشركِ الخفيِّ أشدُّ مِنْ خوفِهِ منْ فتنةِ المسيحِ الدَّجَّالِ، وإنَّما كانَ كذلكَ؛ لأنَّ التَّخَلُّصَ منْهُ صَعْبٌ جدًّا؛ ولذلكَ قالَ بعضُ السلفِ: (ما جاهَدْتُ نفس على شيءٍ مُجَاهدَتَها على الإخلاصِ) .

وقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ ) )، ولا يَكْفِي مُجَرَّدُ اللفظِ بها، بلْ لا بُدَّ مِنْ إخلاصٍ وأعْمَالٍ يَتَعَبَّدُ بها الإنسانُ للهِ عزَّ وجلَّ.

قولُهُ: (( الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ) )المسيحُ أيْ: ممسوحُ العينِ اليُمْنَى، فذكرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عَيْبَيْنِ في المسيحِ:

أحدُهُما:

حِسِّيٌّ، وهوَ أنَّ الدَّجَّالَ أعورُ العينِ اليُمْنَى، كمَا قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( إِنَّ اللهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْكُمْ، إِنَّهُ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَإِنَّ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى ) ).

والثاني: معنوِيٌّ، وهوَ الدَّجَّالُ ، فهوَ صيغةُ مبالغةٍ، أوْ يُقَالُ بأنَّهُ نِسْبَةٌ إلى وَصْفِهِ الملازمِ لَهُ، وهُوَ الدَّجَلُ والكَذِبُ والتَّمْوِيهُ.

وهوَ رجلٌ مِنْ بني آدمَ، ولكنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وتعالى بحكمتِهِ يُخْرِجُهُ لِيَفْتِنَ الناسَ بهِ، وفتْنَتُهُ عظيمةٌ إذْ مَا في الدُّنْيَا منذُ خَلْقِ آدمَ إلى أنْ تقومَ الساعةُ فِتْنَةٌ أشدَّ منْ فتنةِ الدَّجَّالِ.

والمسيحُ الدَّجَّالُ ثَبَتَتْ بهِ الأحاديثُ واشْتُهِرَتْ، حتَّى كانَ من المعلومِ بالضرورةِ؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أَمَرَ أُمَّتَهُ أنْ يتَعَوَّذُوا باللهِ منْهُ في كلِّ صلاةٍ.

قولُهُ: (( الشِّرْكُ الْخَفِيُّ ) )الشركُ قسمانِ: خَفِيٌّ، وجَلِيٌّ.

فالجَلِيُّ: ما كانَ بالقولِ، مثلُ الحَلِفِ بغيرِ اللهِ، أوْ قولِ: ما شاءَ اللهُ وشِئْتَ.

أوْ بالفعلِ: مثلُ الانحناءِ لغيرِ اللهِ تعظيمًا.

والخفيُّ: ما كانَ في القلبِ مثلُ الرياءِ؛

لأنَّهُ لا يَبِينُ، إذْ لا يعلَمُ ما في القلوبِ إلاَّ اللهُ. ويُسمَّى أيضًا: شِركَ السَّرَائِرِ.

وهذا هوَ الذي بيَّنَهُ اللهُ بقولِهِ: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} لأنَّ الحسابَ يومَ القيامةِ على السرائرِ، قالَ تعالى: {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} .

وفي الحديثِ الصحيحِ فِيمَنْ كانَ يَأْمُرُ بالمعروفِ ولا يفْعَلُهُ، وينهَى عن المنكَرِ ويفعلُهُ، أنَّهُ يُلْقَى في النارِ حتَّى تَنْدَلِقَ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فيدورُ عليها كما يدُورُ الحمارُ بِرَحَاهُ، فيجتمعُ عليهِ أهلُ النَّارِ فيسألونَهُ، فيُخْبِرُهُم أنَّهُ كانَ يأْمُرُ بالمعروفِ ولا يفعلُهُ، وينهى عَن المُنْكَرِ ويفعلُهُ.

قولُهُ: (( يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلاَتَهُ ) )يتساوى في ذلكَ الرجلُ والمرأةُ، والتخصيصُ هنا يُسَمَّى مفهومَ اللَّقَبِ، أيْ أنَّ الحُكْمَ يُعَلَّقُ بما هوَ أشرفُ، لا لِقَصْدِ التخصيصِ، ولكنْ لضَرْبِ المَثَلِ.

وقولُهُ: (( فَيُزَيِّنُ صَلاَتَهُ ) )أيْ: يُحَسِّنُهَا بالطُّمَأْنِينَةِ، ورَفْعِ اليدَيْنِ عندَ التكْبيرِ، ونحوِ ذلكَ.

قولُهُ: (( لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ ) ) (ما) مَوْصُولةٌ، وحُذِفَ العائدُ؛ أيْ: للَّذِي يَرَاهُ مِنْ نظرِ رَجُلٍ.

وهذهِ هيَ العِلَّةُ لتحْسِينِ الصلاةِ، فقدْ زَيَّنَ صَلاتَهُ ليراهُ هذا الرجلُ، فيَمْدَحُهُ بلسانِهِ، أوْ يُعَظِّمُهُ بقلْبِهِ، وهذا شركٌ.

(5) فيهِ مَسائِلُ:

الأُولَى:

(تَفسيرُ آيَةِ الكَهْفِ) وسبقَ الكلامُ عليهَا.

(6) الثانيَةُ: (الأمرُ العظيمُ فِي ردِّ العَمَلِ الصَّالحِ إذا دَخَلَهُ شَيْءٌ لِغَيْرِ اللهِ) وذلكَ لقولِهِ: (( تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ ) )وصارَ عظيمًا؛ لأنَّهُ ضاعَ على العاملِ خَسَارًا. وفَحْوَى الحديثِ تدلُّ على غَضَبِ اللهِ عزَّ وجلَّ مِنْ ذلكَ.

(7) الثالثةُ: (ذِكْرُ السببِ الْمُوجِبِ لذلِكَ، وهُوَ كَمالُ الغِنى) يعني: المُوجِبُ للرَدِّ هوَ كمالُ غنى اللهِ عزَّ وجلَّ عنْ كلِّ عملٍ فيهِ شِرْكٌ، وهوَ غَنِيٌّ عنْ كلِّ عملٍ، لكنَّ العملَ الصالحَ يَقْبَلُهُ ويُثِيبُ عليهِ.

(8) الرَّابعةُ: (أنَّ مِن الأسْبابِ أَنَّهُ تعالى خَيْرُ الشُّرَكاءِ) أيْ: مِنْ أسبابِ ردِّ العملِ إذا أَشْرَكَ فيهِ العاملُ معَ اللهِ أحدًا أنَّ اللهَ خيرُ الشركاءِ، فلا يُنَازِعُ مَنْ جُعِلَ شريكًا لَهُ فيهِ.

(9) الخامسةُ: (خَوْفُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ علَى أَصْحابهِ مِن الرِّيَاءِ) وذلكَ لقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ) ).

وإذا كانَ يخافُ ذلكَ على أصحابِهِ فالخَوْفُ على مَنْ بعدَهُمْ مِنْ ذلكَ مِنْ بابِ أَوْلَى.

السادِسةُ: (أَنَّهُ فَسَّرَ ذلِكَ بأنَّ المرءَ يُصَلِّي للهِ، لَكِنْ يُزَيِّنُها لِمَا يَرى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ إِلَيْهِ) وهذا التفسيرُ ينطبقُ تمامًا على الرياءِ، فيكونُ أخوفَ علينَا عندَ رسولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مِن المسيحِ الدَّجَّالِ.

ولمْ يذْكُر المُؤَلِّفُ مسألةَ خوفِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ على أُمَّتِهِ مِن المسيحِ الدَّجَّالِ؛ لأنَّ المَقَامَ في الرِّيَاءِ، لا فيما يَخَافُهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ على أُمَّتِهِ.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام