في (الصَّحيحِ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال: (( لا يَقُولَنَّ أحَدُكُمْ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللهُمَّ ارْحَمنِي إِنْ شِئْتَ، لِيعْزِمِ الْمَسْأَلةَ فإنّ اللهَ لا مُكْرِهَ لَهُ ) ).
ولمسلمٍ: (( وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ؛ فَإِنَّ اللهَ لا يَتَعاظَمُهُ شَيْءٌ أعْطاهُ ) ).
فِيهِ مسائل:
الأولى:
النَّهْيُ عَنِ الاستِثْناءِ في الدُّعاءِ.
الثّانِيةُ:
بَيانُ العِلَّةِ في ذلِكَ.
الثّالِثةُ:
قولُه: (( لِيعْزِمِ الْمَسْأَلةَ ) ).
الرّابِعةُ:
إعْظامُ الرَّغْبَةِ.
الخامِسَةُ:
التعليلُ لهذا الأَمْر.
عَقَدَ المُؤَلِّفُ هذا البابَ لِمَا تَضَمَّنَهُ هذا الحديثُ منْ كَمالِ سُلطانِ اللهِ، وكمالِ جُودِهِ وفَضْلِهِ، وذلكَ منْ صفاتِ الكمالِ.
قال ابن قاسم في (حاشية كتاب التوحيد) ص: (أي: أنه لا يجوز ذلك، لأنه يدل على فتور الرغبة، وقلة الاهتمام بالمطلوب، وينبئ عن قلة اكتراثه بذنوبه ورحمة ربه، وذلك مضاد للتوحيد) .
قولُهُ: (اغْفِرْ لِي) المغفرةُ سَتْرُ الذَّنبِ معَ التَّجاوُزِ عنهُ؛ لأنَّها مُشْتَقَّةٌ من المِغْفَرِ، وهوَ ما يُسْتَرُ بهِ الرَّأسُ للوقايَةِ من السِّهامِ، وهذا لا يكونُ إلاَّ بشيءٍ ساترٍ واقٍ، ويدلُّ لهُ قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ للعبدِ المؤمنِ حينَما يَخْلُو بهِ ويُقَرِّرُهُ بذنوبِهِ: (( قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ ) ).
قولُهُ: (لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ) لا: ناهيَةٌ؛ بدليلِ جَزْمِ الفعلِ بعدَهَا.
قولُهُ: (اللهُمَّ اغْفِرْ لِي، اللهُمَّ ارْحَمْنِي) ففي الجملةِ
الأولى: (اغْفِرْ لِي) النَّجاةُ من المكروهِ.
وفي الثَّانيَةِ:
(ارْحَمْنِي) الوصولُ إلى المطلوبِ، فيكونُ هذا الدُّعَاءُ شاملاً لكلِّ ما فيهِ حصولُ المطلوبِ وزوالُ المكروهِ.
قولُهُ: (لِيَعْزِم الْمَسْأَلةَ) اللامُ لامُ الأمرِ، ومعنى عَزْمِ المسألةِ أنْ لا يكونَ في تَرَدُّدٍ، بلْ يَعْزِمُ بدونِ تردُّدٍ ولا تعليقٍ.
والمسألةُ: السُّؤَالُ؛ أيْ: لِيَعْزِمْ في سُؤَالِهِ، فلا يَجْعَلُهُ مُتَرَدِّدًا بقولِهِ: إنْ شِئْتَ.
قولُهُ: (فَإِنَّ اللهَ لاَ مُكْرِهَ لَهُ) تعليلٌ للنَّهيِ عنْ قولِ: (( اللهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللهُمَّ ارْحَمنِي إِنْ شِئْتَ ) )أيْ: لا أحدَ يُكْرِهُهُ على ما يُرِيدُ فيَمْنَعُهُ منهُ، أوْ ما لا يُريدُ فَيُلْزِمُهُ بفعلِهِ؛ لأنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ وحدَهُ.
والمحظورُ في هذا التَّعليقِ منْ وُجُوهٍ ثلاثةٍ:
الأوَّلُ:
أنَّهُ يُشْعِرُ بأنَّ اللهَ لهُ مُكْرِهٌ على الشَّيءِ،
وأنَّ وراءَهُ مَنْ يَسْتَطِيعُ أنْ يَمْنَعَهُ، فَكَأَنَّ الدَّاعِيَ بهذهِ الكيفيَّةِ يقولُ: أنا لا أُكْرِهُكَ، إنْ شِئْتَ فاغفِرْ وإنْ شِئْتَ فلا تَغْفِرْ.
الثَّاني:
أنَّ قولَ القائلِ: (إِنْ شِئْتَ) كأنَّهُ يرى أنَّ هذا أمْرٌ عَظيمٌ على اللهِ، فقدْ لا يَشَاؤُهُ لكونِهِ عظيمًا عندَهُ.
ونظيرُ ذلكَ أنْ تقولَ لشخصٍ من النَّاسِ -والمثالُ للصُّورةِ بالصُّورةِ، لا للحقيقةِ بالحقيقةِ-: أَعْطِني مليونَ رِيالٍ إنْ شِئْتَ، فإنَّكَ إذا قُلْتَ لهُ ذلكَ رُبَّما يكونُ الشَّيءُ عظيمًا يَتَثَاقَلُهُ.
فقولُكَ: (إنْ شئْتَ) لأجلِ أنْ تُهَوِّنَ عليهِ المسألةَ؛ فاللهُ عزَّ وجلَّ لا يحتاجُ أنْ تقولَ لهُ: (إنْ شئْتَ) لأنَّهُ سبحانَهُ وتعالى لا يَتَعاظَمُهُ شيءٌ أَعْطَاهُ، ولهذا قالَ عَليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (( وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ؛ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ ) ).
وَ (لْيُعَظِّم الرَّغْبَةَ) أيْ: لِيَسْأَلْ ما شاءَ منْ قليلٍ وكثيرٍ، ولا يَقُلْ: هذا كثيرٌ، لا أَسْأَلُ اللهَ إيَّاهُ.
ولهذا قالَ: (( فَإِنَّ اللهَ لاَ يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ ) )أيْ: لا يكُونُ الشَّيءُ عظيمًا عنْدَهُ حتَّى يَمْنَعَهُ ويَبْخَلَ بهِ سُبْحَانَهُ وتعالى.
كُلُّ شَيْءٍ يُعْطِيهِ فإنَّهُ ليسَ عظيمًا عندَهُ، فاللهُ عزَّ وجلَّ يَبْعَثُ الخلقَ بكلمةٍ واحدةٍ، وهذا أمْرٌ عظيمٌ، قالَ تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} وليسَ بعظيمٍ، فكلُّ ما يُعْطِيهِ اللهُ عزَّ وجلَّ لأحدٍ مِنْ خَلْقِهِ فليسَ بعظيمٍ يَتَعاظَمُهُ؛ أيْ: لا يكونُ الشَّيءُ عظيمًا عنْدَهُ حتَّى لا يُعْطِيَهُ، بلْ كُلُّ شيءٍ عندَهُ هيِّنٌ.
الثَّالثُ:
أنَّهُ يُشْعِرُ بأنَّ الطَّالبَ مُسْتَغْنٍ عن اللهِ،
كأنَّهُ يقولُ: إنْ شِئْتَ فافْعَلْ، وإنْ شئْتَ فلا تَفْعَلْ؛ فإنه لا يَهُمُّني، ولهذا قالَ: (( وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ ) )أيْ: يَسْأَلْ برغبةٍ عظيمةٍ، والتَّعليقُ يُنافي ذلكَ؛ لأنَّ المُعَلِّقَ للشَّيءِ المطلوبِ يُشْعِرُ أنَّهُ مُسْتَغْنٍ عنهُ، والإنسانُ يَنْبَغِي أنْ يَدْعوَ اللهَ تعالى وهوَ يَشْعُرُ أنَّهُ مُفْتَقِرٌ إليهِ غايَةَ الافتقارِ، وأنَّ اللهَ قادرٌ على أنْ يُعْطِيَهُ ما سألَ، وأنَّ اللهَ ليسَ يعْظُمُ عليهِ شيءٌ، بلْ هوَ هَيِّنٌ عليهِ.
إذًا منْ آدابِ الدُّعاءِ أنْ لا يدعوَ بهذهِ الصِّيغةِ،
بلْ يَجْزِمُ فيقولُ: (اللهُمَّ اغفِرْ لي، اللهُمَّ ارْحمْنِي، اللهُمَّ وَفِّقْني) وما أشبهَ ذلكَ.
فائدة:
قال في (فتح المجيد) (ص:534) :(حق من دعا الله بأسمائه الحسنى أن يسأل في كل مطلوب، ويتوسل بالاسم المقتضي لذلك المطلوب، المناسب لحصوله، حتى إن الداعي متشفع إلى الله تعالى، متوسلٌ إليه به.
فإذا قال: رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الغفور، فقد سأله أمرين وتوسل إليه باسمين من أسمائه مقتضيين لحصول مطلوبه..).
أما مناسبةُ البابِ للتَّوحيدِ فهيَ من وجهَيْنِ:
الأول:
منْ جهةِ الرُّبُوبيَّةِ،
فإنَّ مَنْ أتَى بما يُشْعِرُ بأنَّ اللهَ لهُ مُكْرِهٌ، لمْ يَقُمْ بتَمامِ رُبُوبيَّتِهِ تعالى؛ لأنَّ منْ تمامِ الرُّبُوبيَّةِ أنَّهُ لا مُكرِهَ لهُ، بلْ إنَّهُ لا يُسْأَلُ عمَّا يَفْعَلُ كما قالَ تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} وكذلكَ فيهِ نقصٌ منْ ناحيَةِ الرُّبُوبيَّةِ منْ جهةٍ أُخْرَى، وهوَ أنَّ اللهَ يَتَعاظَمُ الأشياءَ الَّتي يُعْطِيها، فكانَ فيهِ قَدْحٌ في جُودِهِ وكَرَمِهِ.
الثاني:
منْ جهةِ العبدِ، فإنَّهُ يُشْعِرُ باستغنائِهِ عنْ ربِّهِ، وهذا نقصٌ في توحيدِ الإنسانِ منْ جهةِ الألوهيَّةِ أو الرُّبُوبيَّةِ أو الأسماءِ والصِّفاتِ، ولهذا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ في البابِ الَّذي يتعلَّقُ بالأسماءِ والصِّفاتِ.
فِيهِ مسائلُ:
الأولى: (النَّهْيُ عَن الاستِثْناءِ في الدُّعاءِ)
والمرادُ بالاستثناءِ هنا الشَّرطُ؛ فإنَّ الشَّرْطَ يُسَمَّى استثناءً؛ بدليلِ قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ لِضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبيرِ: (( حُجِّي وَاشْتَرِطِي؛ فَإِنَّ لَكِ عَلَى رَبِّكِ مَا اسْتَثْنَيْتِ ) )ووجهُهُ أنَّكَ إذا قُلْتَ: (أَكْرِمْ زَيْدًا إنْ أَكْرَمَكَ) فهوَ كقولِكَ: (أَكْرِمْ زيدًا إلاَّ أَلاَّ يُكْرِمَكَ) فهوَ بمعنى الاستثناءِ في الحقيقةِ.
الثَّانِيَةُ: (بَيانُ العِلَّةِ في ذلِكَ) وقدْ سبَقَ أنَّها ثلاثُ عِلَلٍ:
الأولى: أنَّها تُشْعِرُ بأنَّ اللهَ لهُ مُكْرِهٌ، والأمرُ ليسَ كذلكَ.
الثانية: أنَّها تُشْعِرُ بأنَّ هذا عظيمٌ على اللهِ قدْ يَثْقُلُ عليهِ ويَعْجِزُ عنهُ، والأمرُ ليسَ كذلكَ.
الثالثة: أنَّها تُشْعِرُ باستغناءِ الإنسانِ عن اللهِ، وهذا غيرُ لائقٍ وليسَ من الأدبِ.
الثَّالِثةُ: قولُهُ: (( لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ ) )تُفِيدُ أنَّكَ إذا سَأَلْتَ فَاعْزِمْ ولا تَتَرَدَّدْ.
الرَّابِعةُ: (إِعْظَامُ الرَّغْبَة)
لقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ: (( وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ ) )أيْ: لِيَسَأَلْ ما بَدَا لهُ، فلا شيءَ عزيزٌ أوْ مُمْتَنِعٌ على اللهِ.
الخامِسَةُ: (التَّعليلُ لهذا الأَمْرِ)
بقولِهِ: (( لاَ يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ، أَوْ لاَ مُكْرِهَ لَهُ ) )وبقولِهِ: (( وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ ) )وفي هذا حُسْنُ تعليمِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ؛ إذا ذَكَرَ شيئًا قَرَنَهُ بعلَّتِهِ.