بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أنفُسِهِم مَا لا يُبدونَ لكَ يَقُولونَ لَو كانَ لنَا مِنَ الأمرِ شَيءٌ مَّا قُتِلنَا هَاهُنا قُل لَّو كُنتُمْ فِي بُيوتِكُم لَبَرزَ الَّذينَ كُتِبَ عليهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِم ولِيَبتليَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُم ولِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُم وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عِمْرَانَ:154] .
وَقَوْلِهِ: {الظَّآنِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وغَضِبَ اللهُ عَلَيهِم ولَعَنَهُم وأعدَّ لهم جَهنَّمَ وسَآءتْ مَصِيرًا} [الْفَتْحُ:6] .
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الآيَةِ الأُولَى:(فُسِّرَ هَذَا الظَّنُّ بَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لاَ يَنْصُرُ رَسُولَهُ وَأَنَّ أَمْرَهُ سَيَضْمَحِلُّ، وَفُسِّرَ بِأَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ بِقَدَرِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ، فَفُسِّرَ بِإِنْكَارِ الْحِكْمَةِ وَإِنْكَارِ الْقَدَرِ، وَإِنْكَارِ أَنْ يَتِمَّ أَمْرُ رَسُولِهِ، وَأَنْ يُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَهَذَا هُوَ ظَنُّ السَّوْءِ، الَّذِي ظَنَّ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا ظَنَّ السَّوْءِ؛ لأَِنَّهُ ظَنُّ غَيْرِ مَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَمَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ وَوَعْدِهِ الصَّادِقِ.
فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدِيلُ الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ إِدَالَةً مُسْتَقِرَّةً يَضْمَحِلُّ مَعَهَا الْحَقُّ، أَوْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مَا جَرَى بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، أَوْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ قَدَرُهُ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْحَمْدَ، بَلْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لِمَشِيئَةٍ مُجَرَّدَةٍ، فَذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَظُنُّونَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِمْ، وَفِيمَا يَفْعَلُهُ بِغَيْرِهِمْ، وَلاَ يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ مَنْ عَرَفَ اللهَ وَأَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَمُوجِبَ حِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ.
فَلْيَعْتَنِ اللَّبِيبُ النَّاصِحُ لِنَفْسِهِ بِهَذَا، وَلْيَتُبْ إِلَى اللهِ وَلْيَسْتَغْفِرْهُ مِنْ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَلَوْ فَتَّشْتَ مَنْ فَتَّشْتَ؛ لَرَأَيْتَ عِنْدَهُ تَعَنُّتًا عَلَى الْقَدَرِ وَمَلاَمَةً لَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا، فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ، وَفَتِّشْ نَفْسَكَ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ).
فَإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي عَظِيمَةٍ وَإِلاَّ فَإِنِّي لاَ إخَالُكَ نَاجِيًا
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى:
تَفْسِيرُ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ.
الثَّانِيَةُ:
تَفْسِيرُ آيَةِ الْفَتْحِ.
الثَّالِثَةُ:
الإِخْبَارُ بِأَنَّ ذَلِكَ أَنْوَاعٌ لاَ تُحْصَرُ.
الرَّابِعَةُ:
أَنَّهُ لاَ يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ مَنْ عَرَفَ الأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ وَعَرَفَ نَفْسَهُ.
قولُهُ تعالَى: {يَظُنُّونَ} الضَّميرُ يعودُ للمنافقينَ، والأصلُ في الظّنِّ: أنَّهُ الاحتمالُ الرَّاجحُ، وقدْ يُطلَقُ علَى اليقينِ، كما في قولِهِ تعالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ} أيْ: يَتَيَقَّنونَ، وضدُّ الرَّاجحِ الْمَرجُوحُ، ويُسمَّى وَهْمًا.
قولُهُ: {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} عطفُ بيانٍ لقولِهِ: {غَيْرَ الْحَقِّ} ، و {الْجَاهِلِيَّةِ} : الحالُ الجاهليَّةُ، والمعنَى: يظنُّونَ باللهِ ظنَّ الحالِ الجاهليَّةِ الَّتي لا يَعْرِفُ الظَّانُّ فيها قدْرَ اللهِ وعَظَمَتَهُ، فهوَ ظنٌّ باطلٌ مبنيٌّ علَى الجهلِ.
والظَّنُّ باللهِ عزَّ وجلَّ علَى نوعينِ:
الأوَّلُ: أنْ يَظُنَّ باللهِ خيرًا.
والثَّاني: أنْ يَظُنَّ باللهِ شرًّا.
فالأوَّلُ لهُ متعلِّقانِ:
أحدهما:
متعلِّقٌ بالنِّسبةِ لما يفعلُهُ في هذا الكونِ، فهذا يجبُ عليكَ أنْ تُحْسِنَ الظَّنَّ باللهِ عزَّ وجلَّ فيما يفعلُهُ سبحانَهُ وتعالَى في هذا الكونِ، وأنْ تعتقدَ أنَّ ما فعلَهُ إنَّما هوَ لحكمةٍ بالغةٍ قدْ تصلُ العقولُ إليها وقدْ لا تصلُ، وبهذا تَتَبَيَّنُ عظمةُ اللهِ وحكمتُهُ في تقديرِهِ، فلا يُظَنُّ أنَّ اللهَ إذا فعل شيئًا في الكونِ فعلَهُ لإرادةٍ سيِّئةٍ، حتَّى الحوادثَ والنَّكَباتِ لم يُحْدِْثها اللهُ لإرادةِ السُّوءِ المتعلِّقِ بفعلِهِ، أمَّا المتعلِّقُ بغيرِهِ بأنْ يُحْدِثَ ما يريدُ بهِ أنْ يَسُوءَ هذا الغيرَ، فهذا واقعٌ، كما قالَ تعالَى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} .
والآخر:
متعلِّقٌ بالنِّسبةِ لما يفعلُهُ بكَ، فهذا يجبُ أنْ تَظُنَّ باللهِ أحسنَ الظَّنِّ، لكن بشرطِ أن يُوجَدَ لديكَ السَّببُ الَّذي يُوجِبُ الظَّنَّ الحسنَ، وهوَ أن تعبدَ اللهَ علَى مقتضَى شريعتِهِ معَ الإخلاصِ، فإذا فَعَلْتَ ذلكَ فعليكَ أن تَظُنَّ أنَّ اللهَ يقبلُ منكَ ولا تُسِيءَ الظَّنَّ باللهِ بأنْ تعتقدَ أنَّهُ لن يَقْبَلَ منكَ، وكذلكَ إذا تابَ الإنسانُ من الذَّنبِ، فيُحْسِنُ الظَّنَّ باللهِ أنَّهُ يَقْبَلُ منهُ ولا يُسِيءُ الظَّنَّ باللهِ بأنْ يعتقدَ أنَّهُ لا يقبلُ منهُ.
وأمَّا إنْ كانَ الإنسانُ مُفَرِّطًا في الواجباتِ،
فاعلاً للمحرَّماتِ، وظنَّ باللهِ ظنًّا حسنًا، فهذا هوَ ظنُّ الْمُتَهَاوِنِ الْمُتَهالِكِ، بلْ هوَ منْ سوءِ الظَّنِّ باللهِ؛ إذ إنَّ حكمةَ اللهِ تَأْبَى مثلَ ذلكَ.
أما النَّوعُ الثَّاني:
فهوَ أن يَظُنَّ باللهِ شرًّا، مثلُ: أنْ يَظُنَّ في فعلِهِ سَفَهًا أوْ ظلمًا، أوْ نحوَ ذلكَ، فإنَّهُ منْ أعظمِ المحرَّماتِ وأقبحِ الذُّنوبِ، كما ظنَّ هؤلاء المنافقونَ وغيرُهم ممَّنْ يَظُنُّ باللهِ غيرَ الحقِّ.
قولُهُ: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} مُرادُهم بذلكَ أمرانِ:
الأوَّلُ: رفعُ اللومِ عنْ أنفسِهِم.
الثَّاني: الاعتراضُ علَى القدَرِ.
وقولُهُ: {لنا} خبرٌ مقدَّمٌ.
وقولُهُ: {منْ شيءٍ} مبتدأٌ مؤخَّرٌ مرفوعٌ بالضَّمَّةِ المقدَّرةِ علَى آخرِهِ، منَع منْ ظهورِهَا اشتِغالُ الْمَحَلِّ بحركةِ حرفِ الجرِّ الزَّائدِ.
قولُهُ: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ} أيْ: فإذا كانَ كذلكَ فلا وجهَ لاحتجاجِكُم علَى قضاءِ اللهِ وقدرِهِ، فاللهُ عزَّ وجلَّ يفعلُ ما يشاءُ من النَّصرِ والخِذْلانِ.
وقولُهُ: {إِنَّ الأَمْرَ} واحدُ الأمورِ، لا واحدُ الأوامرِ؛ أي: الشَّأنُ كلُّ الشَّأنِ الَّذي يتعلَّقُ بأفعالِ اللهِ وأفعالِ المخلوقين كلُّهُ للهِ سبحانَهُ، فهوَ الَّذي يُقَدِّرُ الذُّلَّ والعزَّ، والخيرَ والشَّرَّ، لكنَّ الشَّرَّ في مفعولاتِهِ لا في فعلِهِ.
قولُهُ: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ} فمِنْ شأنِ المنافقينَ عدمُ الصَّراحةِ والصِّدقِ، فَيُخْفِي في نفسِهِ ما لا يُبْدِيهِ لغيرِهِ؛ لأنَّهُ يرَى منْ جُبنِهِ وخوفِهِ أنَّهُ لوْ أخبرَ بالحقِّ لكانَ فيهِ هلاكُهُ، فهوَ يُخْفِي الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ.
قولُهُ: {مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا} أيْ: في أُحُدٍ، والمُرادُ بمَنْ قُتِلَ: مَن اسْتُشْهِدَ من المسلمينَ في أُحُدٍ؛ لأنَّ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ رَجَعَ بنحوِ ثُلُثِ الجيشِ في غزوةِ أُحُدٍ وقال: إنَّ محمَّدًا يَعصِينِي ويُطِيعُ الصِّغارَ والشُّبَّانَ.
قولُهُ: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} هذا الاحتجاجُ لا حقيقةَ لهُ؛ لأنَّهُ إذا كُتِبَ القتلُ علَى أحدٍ لمْ ينفعْهُ تَحَصُّنُهُ في بيتِهِ.
والكتابةُ قسمانِ:
الأول:
الكتابةُ الشرعيَّةُ: وهذه لا يَلْزَمُ منها وقوعُ المكتوبِ، مثلُ قولِهِ تعالَى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} وقولِهِ: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} .
الثاني:
الكتابةُ كونيَّةُ: وهذه يَلْزَمُ منها وقوعُ المكتوبِ، كما في هذه الآيَةِ، ومثلُ قولِهِ تعالَى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} ، وقولِهِ: {كَتَبَ اللهُ لأََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} ومثلُ هذه الآيَةِ قولُهُ: {وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} أيْ: يختبرَ ما في صدورِكُمْ من الإيمانِ بقضاءِ اللهِ وقدرِهِ، والإيمانِ بحكمتِهِ، فيختبرَ ما في قلبِ العبدِ بما يُقدِّرُهُ عليهِ من الأمورِ المكروهةِ حتَّى يتبيَّنَ مَن استَسْلمَ لقضاءِ اللهِ وقدرِهِ وحكمتِهِ، ممَّنْ لم يكنْ كذلكَ.
قولُهُ: {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} أيْ: إذا حصلَ الابتلاءُ فقوبِلَ بالصَّبرِ صارَ في ذلكَ تمحيصٌ لِمَا في القلبِ، أيْ: تطهيرٌ لهُ وإزالةٌ لِمَا يكونُ قدْ علِقَ بهِ منْ بعضِ الأمورِ الَّتي لا تنبغِي.
وقدْ حصلَ الابتلاءُ والتَّمحيصُ في قصَّةِ أُحُدٍ، بدليلِ أنَّ الصَّحابةَ لَمَّا ندبَهُم رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم حينَ قِيلَ لهُ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} خرَجوا إلَى حَمْراءَ الأَسَدِ ولم يَجِدوا غَزْوًا فرجَعُوا: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} .
قولُهُ: {وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} جملةٌ خبريَّةٌ فيها إثباتُ أنَّ اللهَ عليمٌ بذاتِ الصُّدورِ؛ أيْ: بصاحبةِ الصُّدورِ، والمُرادُ بها القلوبُ، كما قالَ تعالَى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} فاللهُ لا يَخْفَى عليهِ شيءٌ فيَعْلَمُ ما في قلبِ العبدِ وما ليسَ في قلبِهِ، متَى يكونُ، وكيفَ يكونُ؟
قولُهُ تعالَى: {الظَّانِّينَ} المُرادُ بهم: المنافقونَ والمشركونَ، قالَ تعالَى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ} أيْ: ظنَّ العيبِ، وهوَ كقولِهِ فيما سبقَ: {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} ومنهُ ما نقلَهُ المؤلِّفُ عن ابنِ القيِّمِ رحمَهُمَا اللهُ: أنَّهم يَظُنُّونَ أنَّ أمرَ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم سيَضْمَحِلُّ، وأنَّهُ لا يمكنُ أنْ يعودَ، وما أشبهَ ذلكَ.
قولُهُ: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} أيْ: أنَّ السَّوْءَ محيطٌ بهم جميعًا منْ كلِّ جانبٍ، كما تحيطُ الدَّائرةُ بما في جوفِهَا، وكذلكَ تدورُ عليهم دوائرُ السَّوْءِ، فهم - وإنْ ظنُّوا أنَّهُ تعالَى تخلَّى عنْ رسولِهِ، وأنَّ أمرَهُ سيضمحِلُّ - فإنَّ الواقعَ خلافُ ظنِّهِم، وأنَّ الدَّائرةَ راجعةٌ عليهم.
قولُهُ: {وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ} الغضبُ:منْ صفاتِ اللهِ الفعليَّةِ الَّتي تتعلَّقُ بمشيئتِهِ ويترتَّبُ عليهِ الانتقامُ، وأهلُ التَّعطيلِ قالوا: إنَّ اللهَ لا يغضبُ حقيقةً.
فمنهم مَنْ قالَ: المُرادُ الانتقامُ، ومنهم مَنْ قالَ: المُرادُ إرادةُ الانتقامِ، قالوا: لأنَّ الغضبَ غَلَيانُ القلبِ لطلبِ الانتقامِ، ولهذا قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: (( إِنَّهُ جَمْرَةٌ يُلْقِيهَا الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ ) ).
فيُجابُ عنْ ذلكَ: بأنَّ هذا هوَ غضبُ الإنسانِ، ولا يلزمُ من التَّوافقِ في اللفظِ التَّوافقُ في المثليَّةِ والكيفيَّةِ، قالَ تعالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ويدلُّ علَى أنَّ الغضبَ ليسَ هوَ الانتقامَ قولُهُ تعالَى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} فآسَفُونا: بمعنَى أغْضَبونا (غضباً شديداً) ، {انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} فجعلَ الانتقامَ مرتَّبًا علَى شدةِ الغضبِ، فدلَّ علَى أنَّهُ غيرُهُ.
وقولُهُ: {وَلَعَنَهُمْ} اللعنُ: الطَّردُ والإبعادُ عنْ رحمةِ اللهِ.
قولُهُ: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} أيْ: هيّأهَا لهم، وجعلَهَا سَكَنًا لهم.
قولُهُ: {وَسَاءَتْ مَصِيرًا} أيْ: مَرْجِعًا يُصارُ إليهِ، و {مصيرًا} تمييزٌ، والفاعلُ مستترٌ؛ أيْ: ساءَت النَّارُ مصيرًا يصيرونَ إليهِ.
قولُهُ: (قالَ ابنُ القَيِّمِ) : (هوَ محمَّدُ ابنُ قيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ، أحدُ تلاميذِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ الكبارِ الْمُلاَزِمينَ لهُ، رَحِمَهما اللهُ، وقدْ ذَكَرَهُ في(زادِ المعادِ) عَقِيبَ غزوةِ أُحُدٍ تحتَ بحثِ (الحكمِ والغاياتِ المحمودةِ التي كانَتْ فيها) .
قولُهُ: (في الآيَة الأولَى) يعني قولَهُ: {يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} فُسِّر بأنَّ اللهَ لا يَنْصُرُ رسولَهُ، وأنَّ أمرَهُ سيَضْمَحِلُّ أيْ: يزولُ، وفُسِّرَ بأنَّ ما أصابَهُ لم يكنْ بقدرِ اللهِ وحكمتِهِ، ويُؤْخَذُ هذا التَّفسيرُ منْ قولِهِم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا} ففُسِّرَ بإنكارِ الحكمةِ، وإنكارِ القدرِ، وإنكارِ أن يتمَّ أمرُ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم، وأنْ يُظهرَهُ اللهُ علَى الدِّينِ كلِّهِ، ففُسِّرَ بما يكونُ طعنًا في الرُّبوبيَّةِ، وطعنًا في الأسماءِ والصِّفاتِ، فالطَّعنُ في القدَرِ طعنٌ في ربوبيَّةِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ منْ تمامِ ربوبيَّتِهِ عزَّ وجلَّ أنْ نؤمنَ بأنَّ كلَّ مَا جَرَى في الكونِ فإنَّهُ بقضاءِ اللهِ وقدرِهِ، وطعنٌ في أفعالِهِ وحكمتِهِ، حيثُ ظُنَّ أنَّ اللهَ تعالَى لا ينصرُ رسولَهُ، وسوف يَضْمَحِلُّ أمرُهُ؛ لأنَّهُ إذا ظنَّ الإنسانُ هذا الظَّنَّ باللهِ فمعنَى ذلكَ أنَّ إرسالَ الرَّسولِ عَليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامْ عَبَثٌ وسَفَهٌ.
فما الفائدةُ منْ أن يُرسَلَ رسولٌ ويؤمَرَ بالقتالِ وإتلافِ الأموالِ والأنفسِ، ثمَّ تكونُ النَّتيجةُ أن يضمحلَّ أمرُهُ ويُنسَى، فهذا بعيدٌ، ولا سيَّما رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم الَّذي هوَ خاتَمُ النَّبيِّينَ، فإنَّ اللهَ تعالَى قدْ أذِنَ بأنَّ شريعتَهُ سوفَ تَبْقَى إلَى يومِ القيامةِ.
قالَ ابنُ القيِّمِ رحمَهُ اللهُ: (وهذا هوَ ظنُّ السَّوْءِ الَّذي ظنَّهُ المنافقونَ والمشركونَ في سورةِ الفتحِ) .
وخلاصةُ ما ذكرَ ابنُ القيِّمِ في تفسيرِ (ظنِّ السَّوْءِ) ثلاثةُ أمورٍ:
الأوَّلُ:
أنْ يُظَنَّ أنَّ اللهَ يُديلُ الباطلَ علَى الحقِّ إِدالَةً مُستقرَّةً يَضْمَحِلُّ معها الحقُّ،
فهذا هوَ ظنُّ المشركينَ والمنافقينَ في سورةِ الفتحِ، قالَ تعالَى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} .
الثَّاني:
أن يُنْكَرَ أنْ يكونَ ما جَرَى بقضاءِ اللهِ وقدرِهِ؛ لأنَّهُ يَتَضَمَّنُ أنْ يكونَ في مُلكِهِ سبحانه ما لا يريدُ، معَ أنَّ كلَّ ما يكونُ في مُلكِهِ فهوَ بإرادتِهِ.
الثَّالثُ:
أن يُنْكَرَ أنْ يكونَ قدَّرَهُ لحكمةٍ بالغةٍ يستحقُّ عليها الحمدَ؛ لأنَّ هذا يتضمَّنُ أنْ تكونَ تقديراتُهُ لعبًا وسفهًا، ونحن نعلمُ علمَ اليقينِ أنَّ اللهَ لا يُقدِّرُ شيئًا أوْ يُشرِّعُهُ إلاَّ لِحكمةٍ قدْ تكونُ معلومةً لنا وقدْ تَقْصُرُ عقولُنَا عنْ إدراكِهَا، ولهذا يختلفُ النَّاسُ في عللِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ اختلافًا كبيرًا بحسَبِ ما عندَهُم منْ معرفةِ حكمةِ اللهِ سبحانَهُ وتعالَى.
قولُهُ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} ويلٌ: مبتدأٌ، وساغَ الابتداءُ بالنَّكرةِ للتَّعظيمِ، وخبرُ المبتدأِ {لِلَّذِينَ كَفَرُوا} والجارُّ والمجرورُ {مِنَ النَّارِ} بيانٌ لويلٍ، وفي هذا دليلٌ علَى أنَّ كلمةَ (ويل) كلمةُ وعيدٍ، وليست كما قِيلَ: وادٍ في جهنَّمَ، ولهذا نقولُ: ويْلٌ لكَ من البردِ، ويلٌ لكَ منْ فلانٍ، ويقولُ المتوَجِّعُ: ويْلاهُ، وإنْ كانَ قدْ يوجدُ وادٍ في جهنَّمَ اسمُهُ (ويلٌ) لكنَّ (ويل) في مِثلِ هذه الآيَةِ كلمةُ وعيدٍ.
قولُهُ: (( وَأَكثَرُ النَّاسِ ) )أيْ: مِنْ بني آدمَ لا مِن المؤمنينَ، وقولُهُ: {يَظُنُّونَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ} أي: العيبِ فيما يختصُّ بهم، كما إذا دعَوا اللهَ علَى الوجهِ المشروعِ يظنُّونَ أنَّ اللهَ لا يجيبُهُم، أوْ إذا تعبَّدوا اللهَ بمقتضَى شريعتِهِ يظنُّونَ أنَّ اللهَ لا يقبلُ منهم وهذا ظنُّ السَّوءِ.
قولُهُ: (( فيما يفعلُهُ بغيرِهِم ) )كما إذا رأَوا أنَّ الكفَّارَ انْتَصَروا علَى المسلمينَ بمعركةٍ من المعاركِ ظنُّوا أنَّ اللهَ يُدِيلُ هؤلاءِ الكفَّارَ علَى المسلمينَ دائمًا، فالواجبُ علَى المسلمِ أنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ باللهِ؛ معَ وجودِ الأسبابِ الَّتي تقتضي ذلكَ.
قولُهُ: (( ولا يَسْلَمُ مِنْ ذلِكَ ) )أيْ: مِن الظَّنِّ السَّوْءِ.
قولُهُ: (( إِلا مَنْ عَرَفَ اللهَ وأسماءَهُ وصفاتِهِ، وموجَبَ حكْمَتهِ وحمْدِهِ ) )صدقَ رحمَهُ اللهُ، لا يَسْلَمُ مِنْ ظَنِّ السَّوْءِ إلاَّ منْ عَرَفَ اللهَ عزَّ وجلَّ، وما لهُ من الحِكَمِ والأسرارِ فيما يُقَدِّرُهُ ويُشَرِّعُهُ، وكذلكَ عرَفَ أسماءَهُ وصفاتِهِ معرفةً حَقَّةً لا معرفةَ تحريفٍ وتأويلٍ.
وعلَى هذا فالَّذي عرفَ أسماءَ اللهِ وصفاتِهِ معرفةً علَى ما جرَى عليهِ سلفُ هذه الأمَّةِ وأئمَّتُها، وعَرَفَ مُوجَبَ حكمةِ اللهِ، أيْ: مقتَضَى حكمةِ اللهِ لا يمكنُ أنْ يظنَّ باللهِ ظنَّ السَّوءِ.
وقولُهُ: (( مُوجَبَ ) )موجَبٌ بالفتحِ هوَ: الْمُسَبَّبُ النَّاتجُ عن السَّبَبِ بمعنَى المُقْتَضَى، وبالكسرِ السَّببُ الَّذي يَقتَضِي الشَّيءَ بمعنَى الْمُقتَضِي.
فالَّذي يعرفُ موجَبَ حكمةِ اللهِ وما تقتضيهِ الحكمةُ، فإنَّهُ لا يمكنُ أنْ يظنَّ باللهِ ظنَّ السَّوءِ أبدًا، ولاحِظِ الحكمةَ الَّتي حصَلَتْ للمسلمينَ في هزيمتِهِم في حُنينٍ وفي هزيمتِهِم في أُحُدٍ، فإنَّ في ذلكَ حِكَمًا عظيمةً ذكَرَها اللهُ في سورةِ آلِ عمرانَ والتوبةِ، فهذه الحِكَمُ إذا عرفَهَا الإنسانُ لا يمكنُ أنْ يظنَّ باللهِ ظنَّ السَّوءِ، وأنَّهُ أرادَ أنْ يَخْذُلَ رسولَهُ وحِزْبَهُ.
بلْ كلُّ ما يُجْرِيهِ اللهُ في الكونِ كمنعِ الإنباتِ والفقرِ فهوَ لحكمةٍ بالغةٍ قدْ لا نعلمُهَا، ولا يمكنُ أن يُظَنَّ أنَّ اللهَ بَخِلَ علَى عبادِهِ؛ لأنَّهُ عزَّ وجلَّ أكرمُ الأكرمينَ، وعلَى هذا فقِسْ.
قولُهُ: (( اللَّبِيبُ ) )علَى وزنِ (فعيلٍ) ومعناهُ: ذُو اللُّبِّ، وهوَ العقلُ.
قولُهُ: (( بهذا ) )المُشارُ إليهِ هوَ الظَّنُّ باللهِ عزَّ وجلَّ، ليعتنيَ بهذا حتَّى يظنَّ باللهِ ظنَّ الحقِّ، لا ظنَّ السَّوءِ وظنَّ الجاهليَّةِ.
قولُهُ: (( ولْيَتُبْ إلَى اللهِ ) )أيْ: يرجعُ إليهِ؛ لأنَّ التَّوبةَ الرُّجوعُ من المعصيَةِ إلَى الطَّاعةِ.
قولُهُ: (( وليَسْتغْفِرْهُ ) )أيْ: يطلبُ منهُ المغفرةَ، واللامُ في قولِهِ: (وَلْيَتُبْ) وقولِهِ: (وَليَسْتَغْفِرْهُ) للأمرِ.
قولُهُ: (( تَعنُّتًا علَى القَدَرِ وملامَةً لهُ ) )أيْ: إذا قدَّرَ اللهُ شيئًا تجدُهُ يقولُ: ينبغِي أنْ ننتصرَ، ينبغي أنْ يأتيَ المطرُ، ينبغي أنْ لا نُصابَ بالْجَوائِحِ، وأنْ يُوَسَّعَ لنا في هذا الرِّزقِ، وهكذا.
قولُهُ: (( فمُستَقِلٌّ ومُستَكْثِرٌ ) )مستقلٌّ: مبتدأٌ، خبرُهُ محذوفٌ، ومُسْتَكْثِرٌ: مبتدأٌ خبرُهُ محذوفٌ، والتَّقديرُ فَمِنَ النَّاسِ مُسْتَقِلٌّ، ومنهم مستكثرٌ، ونظيرُ ذلكَ قولُهُ تعالَى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} فسعيدٌ مبتدأٌ، خبرُهُ محذوفٌ تقديرُهُ: ومنهم سعيدٌ، ولا يُقالُ بأنَّ (سعيد) معطوفٌ علَى شقيٍّ لكونِهِ يلزمُ أنْ يكونَ الوصفانِ لموصوفٍ واحدٍ.
قولُهُ: (( وفتِّشْ نَفْسَكَ: هَلْ أَنْتَ سالِمٌ؟ ) )وهذا ينبغي أنْ يكونَ في جميعِ المسائلِ ممَّا أوجبَهُ اللهُ، فتِّشْ عنْ نفسِكَ: هلْ أنتَ سالمٌ من التَّقصيرِ فيهِ؟
وممَّا حرَّمهُ اللهُ عليكَ، هلْ أنت سالمٌ من الوقوعِ فيهِ؟
قولُهُ:
فَإِنْ تَنْجُ مِنْها تَنْجُ مِنْ ذِي عَظِيمَةٍ
(تَنْجُ) -الأوَّلُ- فعلُ الشَّرطِ مجزومٌ بحذفِ الواوِ، (تَنْجُ) - الثَّانيَةُ - جوابُهُ مجزومٌ بحذفِ الواوِ.
وقولُهُ:
(( مِنْ ذي عظيمةٍ ) )أيْ: منْ ذي بَلِيَّةٍ عظيمةٍ، أوْ نحوِهَا.
قولُهُ:
..... وإِلاَّ فَإِني لا إخَالُكَ نَاجِيًا
التَّقديرُ:
أيْ: وإلاَّ تنجُ منْ هذه البليَّةِ فإنِّي لا إخالُكَ ناجيًا.
فيهِ مسائلُ:
الأولَى: (تفسيرُ آيَةِ آلِ عِمرانَ) وهي قولُهُ تعالَى: {يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ..} وقدْ سبقَ، والضَّميرُ فيها للمنافقينَ.
الثانيَةُ: (تفسيرُ آيَةِ الفَتْحِ) وهي قولُهُ تعالَى: {الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ..} وقدْ سبقَ، والضَّميرُ فيها للمنافقينَ.
الثالثةُ: (الإخبارُ بأنَّ ذلِكَ أنواعٌ لا تُحْصَرُ) أيْ: ظنُّ السَّوْءِ، والَّذي أخبرَ بذلكَ ابنُ القيِّمِ رحمَهُ اللهُ، وضابطُ هذه الأنواعِ أن يُظَنَّ باللهِ ما لا يَلِيقُ بهِ.
الرابِعةُ: (أنَّه لا يَسْلَمُ مِنْ ذلِكَ إلاَّ مَنْ عَرَفَ الأسماءَ والصِّفاتِ، وعرَفَ نَفْسَهُ) أيْ: لا يَسْلَمُ مِنْ ظَنِّ السَّوْءِ باللهِ، إلاَّ مَنْ عَرَفَ اللهَ وأسماءَهُ وصفاتِهِ، وموجَبَ حكمتِهِ وحمدِهِ، وعَرَفَ نفسَهُ ففَتَّشَ عنها، والحقيقةُ أنَّ الإنسانَ هوَ محلُّ النَّقصِ والسَّوءِ، وأمَّا الرَّبُّ فهوَ محلُّ الكمالِ المطلَقِ الَّذي لا يَعْتَرِيهِ نقصٌ بوجهٍ من الوجوهِ:
ولا تَظْنُنْ بِربِّكَ ظَنَّ سَوْءٍ فإنَّ اللهَ أَوْلَى بالجَميلِ
ومناسبةُ البابِ للتَّوحيدِ:
أنَّ ظنَّ السَّوءِ ينافي كمالَ التَّوحيدِ، ويُنافِي الإيمانَ بالأسماءِ والصِّفاتِ؛ لأنَّ اللهَ قالَ في الأسماءِ: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ، فإذا ظُنَّ باللهِ ظنَّ السَّوءِ لم تَكُنِ الأسماءُ حُسْنَى، وقالَ في الصِّفاتِ: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} ، وإذا ظنَّ باللهِ ظنَّ السَّوءِ لم يكنْ لهُ المثلُ الأعلَى.