بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [ الأَعْرَافُ: 180] .
ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ { يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } : ( يُشْرِكُونَ) .
وَعَنْهُ: (سَمَّوُا اللاَّتَ مِنَ الإِلَهِ، وَالْعُزَّى مِنَ الْعَزِيزِ) .
وَعَنِ الأَعْمَشِ: (يُدْخِلُونَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا) .
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى:
إِثْبَاتُ الأَسْمَاءِ.
الثَّانِيَةُ:
كَوْنُهَا حُسْنَى.
الثَّالِثَةُ:
الأَمْرُ بِدُعَائِهِ بِهَا.
الرَّابِعَةُ:
تَرْكُ مَنْ عَارَضَ مِنَ الْجَاهِلِينَ الْمُلْحِدِينَ.
الْخَامِسَةُ:
تَفْسِيرُ الإِلْحَادِ فِيهَا.
السَّادِسَةُ:
الْوَعِيدُ لِمَنْ أَلْحَدَ.
هذا البابُ يَتَعَلَّقُ بتوحيدِ الأسماءِ والصِّفَاتِ؛ لأنَّ هذا الكتابَ جامعٌ لأنواعِ التَّوحيدِ الثَّلاثةِ: توحيدِ العبادةِ، وتوحيدِ الرُّبُوبيَّةِ، وتوحيدِ الأسماءِ والصِّفَاتِ.
وتَوْحِيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ: هوَ إفرادُ اللهِ عزَّ وجلَّ بما ثَبَتَ لهُ منْ صفاتِ الكمالِ على وجهِ الحقيقةِ، بلا تمثيلٍ ولا تَكْيِيفٍ ولا تَعْطِيلٍ؛ لأنَّكَ إذا عَطَّلْتَ لمْ تُثْبِتْ، وإنْ مَثَّلْتَ لمْ تُوَحِّدْ، والتَّوحيدُ مُرَكَّبٌ منْ إثباتٍ ونفيٍ؛ أيْ: إثباتِ الحكمِ للمُوَحَّدِ ونفيِهِ عمَّا عداهُ، فمثلاً إذا قُلْتَ: (زَيْدٌ قَائِمٌ) لمْ تُوَحِّدْهُ بالقيامِ، وإذا قُلْتَ: (زَيْدٌ غَيْرُ قائمٍ) لمْ تُثْبِتْ لهُ القيامَ، وإذا قُلْتَ: (لاَ قَائِمٌ إلاَّ زَيْدٌ) وحَّدْتَهُ بالقيامِ.
وإذا قُلْتَ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وَحَّدْتَهُ بالألوهيَّةِ، وإذا أَثْبَتَّ للهِ الأسماءَ والصِّفاتِ دونَ أنْ يُمَاثِلَهُ أحدٌ، فهذا هوَ توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ، وإنْ نَفَيْتَها عنهُ فهذا تعطيلٌ، وإنْ مَثَّلْتَ فهذا إشْرَاكٌ.
قولُهُ: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} طريقُ التَّوحيدِ هنا تقديمُ الخبرِ؛ لأنَّ تقديمَ ما حقُّهُ التَّأخيرُ يُفِيدُ الحصرَ، ففي الآيَةِ توحيدُ الأسماءِ للهِ.
قولُهُ: {الْحُسْنَى} مُؤَنَّثُ (أَحْسَنَ) فهيَ اسمُ تفضيلٍ.
ومعنى (الْحُسْنَى) أي: البالغةُ في الحسنِ أَكْمَلَهُ؛ لأنَّ اسمَ التَّفضيلِ يَدُلُّ على هذا. والتَّفضيلُ هنا مُطْلَقٌ؛ لأنَّ اسمَ التَّفضيلِ قدْ يكونُ مُطْلَقًا، مثلَ: (زَيْدٌ الأفضلُ) .
وقدْ يكونُ مُقَيَّدًا، مثلَ: (زَيْدٌ أفضلُ منْ عمرٍو) .
وهنا التَّفضيلُ مُطْلَقٌ؛ لأنَّهُ قالَ: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فأسماءُ اللهِ تعالى بالغةٌ في الحسنِ أكملَهُ منْ كُلِّ وجهٍ، ليسَ فيها نقصٌ؛ لا فَرْضًا ولا احْتِمَالاً.
وما يُخْبَرُ بهِ عن اللهِ أوْسَعُ مِمَّا يُسَمَّى بهِ اللهُ؛ لأنَّ اللهَ يُخْبَرُ عنهُ بالشَّيءِ، ويُخْبَرُ عنهُ بالْمُتكلِّمِ والمُرِيدِ، معَ أنَّ الشَّيءَ لا يَتَضَمَّنُ مدحًا، والمتكلِّمُ والمريدُ يتضمَّنانِ مدحًا منْ وجهٍ وغيرَ مدحٍ منْ وجهٍ، ولا يُسَمَّى اللهُ بذلكَ، فلا يُسَمَّى بالشَّيءِ ولا بالمُتَكَلِّمِ ولا بالمُرِيدِ، لكنْ يُخْبَرُ بذلكَ عنهُ.
قولُهُ: {فَادْعُوهُ بِهَا} الدُّعَاءُ هوَ السُّؤَالُ.
والدُّعاءُ قدْ يكونُ بلسانِ المقالِ، مثلِ: اللهُمَّ اغْفِرْ لي يا غفورُ، وهكذا. أوْ بلسانِ الحالِ، وذلكَ بالتعبُّدِ لهُ.
ولهذا قالَ العلماءُ:(إنَّ الدُّعَاءَ دعاءُ مَسأَلةٍ وعبادةٍ؛ لأنَّ حقيقةَ الأمرِ أنَّ الْمُتَعَبِّدَ يَرْجُو بلسانِ حالِهِ رحمةَ اللهِ ويَخَافُ عِقَابَهُ.
والأمرُ بدعاءِ اللهِ بها يَتَضَمَّنُ الأمرَ بمَعْرِفَتِهَا؛ لأنَّهُ لا يُمْكِنُ دعاءُ اللهِ بها إلاَّ بعدَ معرفتِهَا، والأمرُ للوُجُوبِ، ويَقْتَضِي وُجُوبَ عِلْمِنَا بأسماءِ اللهِ، ومعلومٌ أيضًا أنَّنا لا نَعْلَمُهَا أسماءً مُجَرَّدةً عن المعاني، بلْ لا بُدَّ أنَّ لها معانيَ فلا بُدَّ أن نَبْحَثَ فيها؛ لأنَّ عِلْمَهَا ألفاظًا مجرَّدةً لا فائدةَ فيهِ، وإنْ قُدِّرَ أنَّ فيهِ فائدةً بالتَّعَبُّدِ باللفظِ فإنَّهُ لا يَحْصُلُ بهِ كمالُ الفائدةِ).
وقولُهُ: {فَادْعُوهُ بِهَا} ، لهُ معنيانِ:
الأوَّلُ:
دعاءُ العبادةِ، وذلكَ بأنْ تتعبَّدَ للهِ بما تقتضيهِ تلكَ الأسماءُ.
ويُطلَقُ على الدُّعَاءِ عبادةٌ، قالَ تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} ولمْ يقُلْ عَنْ دُعَائِي، فَدَلَّ على أنَّ الدُّعَاءَ عبادةٌ، فَمَثَلاً: الرَّحيمُ يدُلُّ على الرَّحمةِ، وحينَئذٍ تَتَطَلَّعُ إلى أسبابِ الرَّحمةِ وتَفْعَلُهَا، والغفورُ يدلُّ على المغفرةِ، وحينئذٍ تتعرَّضُ لمغفرةِ اللهِ عزَّ وجلَّ بكثرةِ التَّوبةِ والاستغفارِ كذلكَ، وما أشْبَهَ ذلكَ.
والقريبُ: يَقْتَضِي أنْ تَتَعَرَّضَ إلى القُرْبِ منهُ بالصَّلاةِ وغيرِهَا، وأقْرَبُ ما يكونُ العبدُ منْ رَبِّهِ وهوَ ساجدٌ.
والسَّميعُ: يَقْتَضِي أنْ تتعبَّدَ للهِ بمقتضى السَّمعِ بحيثُ لا تُسْمِعُ اللهَ قولاً يُغْضِبُهُ ولا يَرْضَاهُ منكَ.
والبصيرُ: يَقْتَضِي أنْ تتعبَّدَ للهِ بمقتضى ذلكَ البصرِ بحيثُ لا يَرَى منكَ فعلاً يَكْرَهُهُ منكَ.
الثَّاني:
دُعَاءُ المسألةِ، وهوَ: أنْ تُقَدِّمَهَا بينَ يَدَيْ سُؤَالِكَ مُتوَسِّلاً بها إلى اللهِ تعالى.
مثلاً: يا حَيُّ، يا قيُّومُ اغْفِرْ لي وارْحَمْني.
وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: (( فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ).
والإنسانُ إذا دَعَا وَعَلَّلَ فَقَدْ أثْنَى على رَبِّهِ بهذا الاسمِ طالبًا أنْ يكونَ سببًا للإجابةِ، والتَّوَسُّلُ بصفةِ المَدْعُوِّ المرغوبةِ لهُ سببٌ للإجابةِ؛ فالثَّناءُ علَى اللهِ بأسمائِهِ منْ أسبابِ الإجابةِ.
قولُهُ: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ} ، {ذَرُوا} اتْرُكُوا، {الَّذينَ} مفعولٌ بهِ، وجُمْلَةُ {يُلْحِدُونَ} صلةُ الموصولِ.
ثمَّ تَوَعَّدَهُم بقولِهِ: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وهوَ الإلحادُ؛ أيْ: سيُجْزَوْنَ جَزَاءَهُ المُطابِقَ للعملِ تمامًا.
ولهذا يُعَبِّرُ اللهُ تعالى بالعملِ عن الجزاءِ إشارةً للعدلِ، وأنَّهُ لا يُجْزَى الإنسانُ إلاَّ بقَدْرِ عملِهِ.
والمعنى: ذَرُوهُمْ؛ أيْ: لا تَسْلُكوا مَسْلَكَهُم ولا طريقَهُم؛ فإنَّهُم على ضلالٍ وعُدْوانٍ. وليسَ المعنى عدمَ مُناصحتِهِم وبيانِ الحقِّ لهم؛ إذْ لا يُتْرَكُ الظَّالمُ على ظُلْمِهِ.
والإلحادُ:
مأخوذٌ من اللَّحْدِ، وهوَ الميلُ، لَحَدَ وأَلْحَدَ بمعنى مَالَ، ومنهُ سُمِّيَ الحفْرُ بالقبرِ لَحْدًا؛ لأنَّهُ مائلٌ إلى جهةِ القِبلةِ.
قال ابن فارس: ( في مادة اللام والحاء والدال: هي أصل يدل على ميل عن استقامة) .
والإلحادُ في أسماءِ الله ِ الميلُ بها عمَّا يَجِبُ فيها.
قال ابن القيم رحمه الله: (في الإلحاد في أسماء الله وصفاته، وحقيقة الإلحاد فيها الميلُ بالإشراك والتعطيل والكفران)
وهوَ أنواعٌ:
الأوَّلُ:
أنْ يُنْكِرَ شيئًا من الأسماءِ أوْ مِمَّا دلَّتْ عليهِ من الصِّفاتِ أو الأحكام، ووجْهُ كونِهِ إلحادًا:
أنَّهُ مالَ بها عمَّا يجبُ لها؛ إذ الواجبُ إثباتُهَا، وإثباتُ ما تَتَضَمَّنُهُ من الصفاتِ والأحكامِ.
الثَّاني:
أنْ يُثْبِتَ أسماءَ اللهِ ويَزِيدَ أسماءً لمْ يُسَمِّ اللهُ بها نفسَهُ؛
كقولِ الفلاسفةِ في اللهِ: إنَّهُ عِلَّةٌ فاعلةٌ في هذا الكونِ تَفْعَلُ، وهذا الكونُ مَعْلُولٌ لها، وليسَ هناكَ إِلَهٌ، وبعضُهُم يُسَمِّيهِ العقلَ الفعَّالَ، فالَّذي يُديرُ هذا الكونَ هوَ العقلُ الفعَّالُ، وكذلكَ النَّصارى يُسَمُّونَ اللهَ أبًا، وهذا إلحادٌ.
الثَّالثُ:
أنْ يجعلَهَا دالَّةً على التَّشبيهِ،
فيقولُ: اللهُ سميعٌ بصيرٌ قديرٌ، والإنسانُ سميعٌ بصيرٌ قديرٌ، اتَّفَقَتْ هذهِ الأسماءُ فيَلزَمُ أنْ تَتَّفِقَ المُسَمَّياتُ، ويكونُ اللهُ سُبْحَانَهُ وتعالى مُمَاثِلاً للخلقِ، فيَتَدَرَّجُ بتَوافُقِ الأسماءِ إلى التَّوَافُقِ بالصِّفاتِ.
ووجهُ الإلحادِ:
أنَّ أسماءَهُ دالَّةٌ على مَعَانٍ لائقةٍ باللهِ لا يُمْكِنُ أنْ تكونَ مُشابِهةً لِمَا تَدُلُّ عليهِ من المعاني في المخلوقِ.
الرَّابعُ:
أنْ يَشْتَقَّ منْ هذهِ الأسماءِ أسماءً للأصنامِ؛
كتسميَةِ اللاتِ من الإلهِ أوْ من اللهِ، والعُزَّى من العزيزِ، ومَنَاةَ مِن الْمَنَّانِ، حتَّى يُلْقُوا عليها شيئًا من الألوهيَّةِ؛ ليُبَرِّرُوا ما هُمْ عليهِ.
قولُهُ: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} لمْ يقُلْ: سيُجْزَوْنَ العقابَ؛ إشارةً إلى أنَّ الجزاءَ منْ جِنْسِ العملِ، وهذا وعيدٌ، وهوَ كقولِهِ تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ} وليسَ المعنى أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ مشغولٌ الآنَ وسيَلْحَقُهُ الفراغُ فيما بعدُ.
قولُهُ: {يَعْمَلُونَ} العملُ يُطلَقُ على القولِ والفعلِ، قالَ تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} وهذا يكونُ في الأفعالِ والأقوالِ.
قولُهُ: {يُشْرِكونَ} تفسيرٌ للإلحادِ يَتَضَمَّنُ الإشراكَ بها من جِهَتَيْنِ:
-بأنْ يَجْعَلُوهَا دالَّةً على المُمَاثَلَةِ.
-أوْ يَشْتَقُّوا منها أسماءً للأصنامِ.
فمَنْ جعَلَها دالَّةً على المماثلةِ فقدْ أشركَ؛ لأنَّهُ جعلَ للهِ مثيلاً، ومَنْ أخَذَ منها أسماءً لأصنامِهِ فقدْ أشْرَكَ؛ لأنَّهُ جعلَ مُسَمَّيَاتِ هذهِ الأسماءِ مُشارِكةً للهِ عزَّ وجلَّ.
وقولُهُ: (عنْهُ) ؛ أي: ابنِ عبَّاسٍ.
قولُهُ: (سَمَّوا اللاتَ مِن الإِلهِ...) وهذا أَحَدُ نَوْعَي الإشراكِ بها، أن يُشْتَقَّ منها أسماءٌ للأصنامِ.
قولُهُ: (عَن الأَعْمَشِ: يُدْخِلُونَ فيها ما لَيْسَ مِنها) هذا أحدُ أنواعِ الإلحادِ، وهوَ أنْ يُسَمَّى اللهُ بما لمْ يُسَمِّ بهِ نفسَهُ، ومَنْ زادَ فيها فقدْ ألحَدَ؛ لأنَّ الواجبَ فيها الوقوفُ على ما جاءَ بهِ السَّمعُ.
تَتِمَّةٌ:
جاءت النصوصُ بالوعيدِ على الإلحادِ في آياتِ اللهِ، كما في قولِهِ تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} فقولُهُ: {لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} فيها تهديدٌ؛ لأنَّ المعنى سنُعَاقِبُهُم. والجُمْلَةُ مُؤَكَّدةٌ بإنَّ.
وآياتُ اللهِ تَنْقَسِمُ إلى قسمَيْنِ:
الأول:
آياتٌ كَوْنِيَّةٌ وهيَ: كلُّ المخلوقاتِ من السَّماواتِ والأرضِ والنُّجُومِ والجبالِ والشَّجرِ وسائرِ الدَّوابِّ وغيرِ ذلكَ.
قالَ الشَّاعرُ:
فوَا عَجْبًا كيفَ يُعْصَى الإلهُ أمْ كيفَ يَجْحَدُهُ الجاحدُ
وفي كُلِّ شيءٍ لهُ آيَةٌ تَدلُّ على أنَّهُ واحدُ
والإلحادُ في الآياتِ الكونيَّةِ ثلاثةُ أنواعٍ:
أحدها:
اعتقادُ أنَّ أحدًا سِوَى اللهِ مُنْفَرِدٌ بها أوْ ببعضِهَا.
ثانيها:
اعتقادُ أنَّ أحدًا مُشارِكٌ للهِ فيها.
ثالثها:
اعتقادُ أنَّ للهِ فيها مُعِينًا في إيجادِهَا وخلقِهَا وتدبيرِهَا، والدَّليلُ قولُهُ تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} (ظَهِيرٌ) ؛ أيْ: مُعِينٌ.
وكُلُّ ما يُخِلُّ بتوحيدِ الرُّبُوبيَّةِ فإنَّهُ داخلٌ في الإلحادِ في الآياتِ الكونيَّةِ.
والقسم الثاني:
آياتٌ شرعيَّةٌ وهوَ: ما جاءَتْ بهِ الرُّسُلُ من الوحيِ كالقرآنِ، قالَ تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} .
والإلحادُ في الآياتِ الشَّرعيَّةِ ثلاثةُ أنواعٍ:
أحدها:
تَكْذِيبُهَا فيما يتَعَلَّقُ بالأخبارِ.
ثانيها:
مُخَالَفَتُهَا فيما يتعلَّقُ بالأحكامِ.
ثالثها:
التَّحْرِيفُ في الأخبارِ والأحكامِ.
والإلحادُ في الآياتِ الكونيَّةِ والشَّرعيَّةِ حرامٌ.
ومنهُ ما يكونُ كُفْرًا:
كَتَكْذِيبِهَا، فَمَنْ كذَّبَ شيئًا معَ اعتقادِهِ أنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ أخْبَرَا بهِ فهوَ كَافِرٌ.
ومنهُ ما يكونُ معصيَةً من الكبائرِ:
كقَتْلِ النَّفسِ والزِّنَا.
ومنهُ ما يكونُ معصيَةً من الصَّغائرِ:
كالنَّظَرِ لأَجْنَبِيَّةٍ بِشَهْوَةٍ.
قالَ اللهُ تعالى في الْحَرَمِ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} . فسمَّى اللهُ المعاصيَ والظُّلْمَ إلحادًا؛ لأنَّها مَيْلٌ عمَّا يجبُ أنْ يكونَ عليهِ الإنسانُ؛ إذ الواجبُ عليهِ السَّيْرُ على صِرَاطِ اللهِ تعالى، ومَنْ خالفَ فقدْ ألْحَدَ.
فيهِ مسائلُ:
الأولى:
(إثباتُ الأَسماءِ) وتُؤخَذُ منْ قولِهِ: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ} ، وهذا خبرٌ مُتَضَمِّنٌ لمَدْلُولِهِ منْ ثبوتِ الأسماءِ للهِ، وفي الجملةِ حصْرٌ لتقديمِ الخبرِ، والحصرُ باعتبارِ كَوْنِهَا حُسْنَى، لا باعْتِبَارِ الأسماءِ. وأنْكَرَ الأسماءَ الجهميَّةُ وغُلاةُ المعتزِلَةِ.
(12) الثَّانيَةُ: (كونُهَا حُسْنَى) أيْ: بلَغَتْ في الحسنِ أكمَلَهُ؛ لأنَّ (حُسْنَى) مُؤَنَّثُ أحسنَ، وهيَ: اسمُ تفضيلٍ.
(13) الثَّالثةُ: (الأمرُ بِدُعائِهِ بها) والدُّعَاءُ نوعانِ: دعاءُ مسألةٍ، ودعاءُ عبادةٍ. وكِلاهُمَا مأمورٌ فيهِ أنْ يُدْعَى اللهُ بهذهِ الأسماءِ الحسنى. وسبقَ تفصيلُ ذلكَ.
(14) الرَّابعةُ: (تَرْكُ مَنْ عارَضَ مِن الجَاهِلينَ الْمُلحِدينَ) أيْ: تَرْكُ سبيلِهِم. وليسَ المعنى أنْ لا نَدْعُوَهُم ولا نُبَيِّنَ لهم. والآيَةُ تتضمَّنُ أيضًا التَّهديدَ.
الخامسةُ: (تفسيرُ الإِلحادِ فيها) وقدْ سبقَ بيانُ أنواعِهِ.
السَّادِسَةُ: (وَعِيدُ مَنْ أَلْحَدَ) وتُؤْخَذُ منْ قولِهِ تعالى: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .