وقالَ ابنُ عُمرَ: (والَّذي نفسُ ابنِ عُمَرَ بيدِهِ، لوْ كانَ لأَحَدِهِم مثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، ثُمَّ أنْفَقَهُ في سَبيلِ اللهِ ما قَبِلَهُ اللهُ مِنْهُ، حتَّى يُؤمِنَ بالقَدَرِ، ثمَّ استَدلَّ بقوْلِ النّبيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:(( الإيمانُ أنْ تُؤْمِنَ باللهِ وملائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليَومِ الآخِرِ، وتُؤمِنَ بالقَدَرِ خيْرِهِ وشرِّهِ ) )) رواهُ مسلمٌ.
وعَنْ عُبادةَ بنِ الصَّامتِ أنّه قالَ لابنِهِ: (يا بُنيّ إنَكَ لَنْ تجِدَ طعمَ الإيمانِ حتَّى تعلَمَ أنّ ما أصابَكَ لَمْ يَكُنْ ليُخطِئَكَ وما أخْطأَكَ لَمْ يكُنْ لِيُصيبَكَ، سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يقولُ: (( إنّ أوّلَ ما خلَقَ اللهُ القَلَم فقال لَهُ: اكتُبْ، فقالَ: ربِّ وماذا أكْتُبُ؟
قال: اكتُبْ مقادِيرَ كلِّ شيءٍ حتَّى تقومَ السَّاعَةُ ))
يا بُنَيَّ سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يقولُ:
(( مَنْ ماتَ عَلَى غيْرِ هذا فَلَيْسَ مِنِّي ) ))
وفي روايَةٍ لأحْمَدَ: (( إنَّ أَوَّلَ ما خَلَقَ اللهُ تعالَى القَلَم فقالَ لَهُ: اكتُبْ فَجَرَى في تِلَكَ السَّاعةِ بِما هُوَ كائِنٌ إلَى يومِ القِيامَةِ ) ).
وفي رِوايَةٍ لابنِ وهْبٍ قالَ رسولُ اللهُ صلَى اللهُ عليهِ وسلم: (( فَمَنْ لَمْ يُؤمِنْ بالقَدَرِ خَيرِهِ وشرِّهِ أحْرَقَهُ اللهُ بالنَّارِ ) ).
وفي (الْمُسندِ) (والسّننِ) عنِ ابنِ الدّيلمِيِّ قال: (أتَيْتُ أُبيَّ بنَ كعْبٍ فقلتُ في نَفْسي شَيْءٌ مِنَ القَدَرِ فَحدِّثني بشيءٍ لعلَّ اللهُ يُذْهِبُهُ مِنْ قَلْبي فقال: (( لوْ أنفَقتَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما قبِلهُ اللهُ مِنكَ حتَّى تُؤمِنَ بالقَدَرِ وتعلَمَ أنَّ ما أصابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخطِئكَ، وما أخْطأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصيبكَ وَلوْ مِتَّ علَى غيرِ هذا لكنتَ مِنْ أهلِ النَّارِ.
قالَ: فأتيتُ عبدَاللهِ بنَ مسعودٍ وحُذَيفةَ بنَ اليمانِ وزيدَ بنَ ثابتٍ؛ فكُلُّهُم حدَّثني بمثلِ ذلِكَ عنِ النّبيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ )) حَدِيثٌ صَحيحٌ رَواهُ الحاكِمُ في (صَحيِحه) .
فيهِ مسائل:
الأولَى:
بيانُ فرضِ الإيمانِ بالقَدَرِ.
الثانيَةُ:
بيانُ كيفيَةِ الإيمانِ بهِ.
الثالثةُ:
إحباطُ عَمَل منْ لَمْ يُؤمِنْ بهِ.
الرابِعةُ:
الإخبارُ أنّ أحدًا لا يجِدُ طعْمَ الإيمانِ حتَّى يُؤمِنَ بهِ.
الخامِسَةُ:
ذكرُ أوَّل ما خَلَقَ اللهُ.
السَّادِسَةُ:
أنّه جَرَى بالْمَقادِيرِ في تِلْكَ السَّاعةِ إلَى قِيامِ السَّاعةِ.
السَّابِعةُ:
بَراءَتُهُ صلَى اللهُ عليهِ وسلم مِمَّنْ لَمْ يُؤمِنْ بهِ.
الثَّامِنةُ:
عادةُ السَّلَفِ في إِزالةِ الشُّبْهةِ بسؤالِ العلماءِ.
التَّاسِعةُ:
أنّ العلماءَ أجابُوهُ بما يزيلُ شُبْهَتَهُ وذلِكَ أنّهُم نَسَبوا الكلامَ إلَى رسولِ اللهِ صلَى اللهُ عليهِ وسلم فقطْ.
قولُهُ: (( مُنْكِرِي ) )أصلُهُ مُنْكِرِينَ، جَمْعُ مُذَكَّرٍ سالمٌ، فحُذِفَت النُّونُ للإضافةِ، كما يُحْذَفُ التَّنْوِينُ أيضًا، قالَ الشَّاعرُ:
كَأَنِّي تَنْوِينٌ وأَنْتَ إِضَافَةٌ فَأَيْنَ تَرَانِي لا تَحُلُّ جِوَارِيَ
وقيلَ: (مكَانِيَ) بدلَ (جِوَارِيَ) .
قولُهُ: (( القدرِ ) )هوَ: تقديرُ اللهِ عزَّ وجلَّ للكائناتِ، وهوَ سِرٌّ مكتومٌ لا يعلمُهُ إلاَّ اللهُ، أوْ مَنْ شاءَ مِنْ خلْقِهِ.
قالَ بعضُ أهلِ العلمِ: (القدَرُ سِرُّ اللهِ عزَّ وجلَّ في خلْقِهِ، ولا نعلمُهُ إلاَّ بعدَ وُقُوعِهِ، سواءٌ كانَ خيرًا أمْ شَرًّا) .
والقَدَرُ يُطْلَقُ على معْنَيَيْنِ:
الأوَّلُ: التَّقديرُ؛ أيْ: إرادةُ اللهِ الشيْءَ عزَّ وجلَّ.
الثَّاني: الْمُقدَّرُ؛ أيْ: ما قَدَّرَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ.
والتَّقديرُ يكونُ مُصاحِبًا للفعلِ وسابقًا لهُ، فالمُصَاحِبُ للفعلِ هوَ: الَّذي يكونُ بهِ الفعلُ. والسَّابقُ هوَ: الَّذي قدَّرَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ في الأزَلِ.
مثالُ ذلكَ:
(خَلْقُ الجنينِ في بَطْنِ الأمِّ) فيهِ تقديرٌ سابقٌ عِلْمِيٌّ قبلَ خَلْقِ السَّمَاواتِ والأرضِ بخمسينَ ألفَ سنةٍ، وفيهِ تقديرٌ مُقَارِنٌ للخلقِ والتَّكوينِ، وهذا الَّذي تَتَعَلَّقُ بهِ القدرةُ؛ أيْ: تقديرُ اللهِ لهذا الشَّيءِ عندَ خلقِهِ.
والإيمانُ بالقَدَرِ يتعلَّقُ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ خُصُوصًا،
ولهُ تَعَلُّقٌ بتوحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ؛ لأنَّهُ مِنْ صفاتِ كمالِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
قولُهُ: (( والَّذي نفْسُ ابنِ عُمَرَ بِيَدِهِ ) )الصِّيغةُ هنا قَسَم، جَوَابُهُ جُمْلَةُ (لَوْ كَانَ لأَحَدِهِم مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، ثُمَّ أنْفَقَهُ في سَبيلِ اللهِ، مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بالقَدَرِ) .
وابنُ عمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وعنْ أبيهِ ذَكَرَ حُكْمَهُم بالنِّسْبَةِ لقبولِ عَمَلِهِم، ولمْ يقُلْ هُمْ كُفَّارٌ.
لكنَّ حكمَهُ بأنَّ إِنْفَاقَهُم في سبيلِ اللهِ لا يُقْبَلُ يَسْتَلْزِمُ الحُكْمَ بكُفْرِهِم.
وإنَّما قالَ ابنُ عُمَرَ ذلكَ جَوَابًا على ما نُقِلَ إليهِ مِنْ أنَّ أُنَاسًا من البَصْرَةِ يقولونَ: (إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لمْ يُقَدِّرْ فِعْلَ العبدِ وإنَّ الأمرَ أُنُفٌ، وإنَّهُ لا يعلمُ بأفعالِ العبدِ حتَّى يَعْمَلَهَا وتَقَعَ منْه) .
فَابْنُ عُمَرَ حَكَمَ بكُفْرِهِم اللاَّزمِ منْ قولِهِ: (ما قَبِلَهُ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بالقَدَر) .
والَّذي لا تُقْبَلُ منهُ النَّفقاتُ هوَ الكافرُ؛ لقولِهِ تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ} .
ثمَّ استدلَّ ابنُ عمرَ بقولِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ: (( الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ) ).
فَتُؤْمِنَ بالجميعِ، فإنْ كَفَرْتَ بواحدٍ منْ هذهِ السِّتَّةِ فأنتَ كافرٌ بالجميعِ؛ لأنَّ الإيمانَ كُلٌّ لا يَتَجَزَّأُ، كما قالَ تعالى:
{وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} .
ووجهُ استدلالِ ابنِ عمرَ:
أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ جعلَ الإيمانَ مَبْنِيًّا على هذهِ الأركانِ السِّتَّةِ، وإذا فاتَ رُكْنٌ من الأركانِ سقَطَ البُنْيَانُ، فإذا أنْكَرَ الإنسانُ شيئًا واحدًا منْ هذهِ الأركانِ السِّتَّةِ صارَ كافرًا، وإذا كانَ كافرًا فإنَّ اللهَ لا يَقْبَلُ منهُ.
قولُهُ: (( وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ) )هنا أعادَ الفعلَ ولمْ يكتفِ بواوِ العطفِ؛ لأنَّ الإيمانَ بالقدَرِ مُهِمٌّ، فكأنَّهُ مُسْتَقِلٌّ برأسِهِ.
والإيمانُ بالقدرِ: هوَ أنْ تُؤْمِنَ بتقديرِ اللهِ عزَّ وجلَّ للأشياءِ كُلِّهَا،
سواءٌ ما يَتَعَلَّقُ بفعلِهِ أوْ ما يَتَعَلَّقُ بفعلِ غيرِهِ، وأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قدَّرَها وكتبَهَا عندَهُ قبلَ أنْ يخْلُقَ السَّماواتِ والأرضَ بخمسينَ ألفَ سنةٍ، ومعلومٌ أنَّهُ لا كتابةَ إلاَّ بعدَ عِلْمٍ، فالعلمُ سابقٌ على الكتابةِ.
ثمَّ إنَّهُ ليسَ كُلُّ معلومٍ للهِ سُبْحَانَهُ وتعالى مكتوبًا؛ لأنَّ الَّذي كُتِبَ إلى يومِ القيامةِ، وهناكَ أشياءُ بعدَ يومِ القيامةِ كثيرةٌ أكثرُ مِمَّا في الدُّنيا هيَ معلومةٌ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ، ولكنَّهُ لم يَرِدْ في الكتابِ والسُّنَّةِ أنَّها مكتوبةٌ.
وهذا القدرُ قالَ بعضُ العلماءِ: (إنَّهُ سِرٌّ منْ أسرارِ اللهِ) وهوَ كذلكَ لم يُطْلِع اللهُ عليهِ أحدًا، لا مَلَكًا مُقَرَّبًا، ولا نَبِيًّا مُرْسَلاً، إلاَّ ما أَوْحَاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ إلى رُسلِهِ، أوْ وقَعَ فَعَلِمَهُ الناسُ، وإلاَّ فإنَّهُ سِرٌّ مكتومٌ، قالَ تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} وإذا قُلْنَا: إنَّهُ سرٌّ مكتومٌ، فإنَّ هذا القولَ يَقْطَعُ احتجاجَ العاصي بالقدرِ على معصيتِهِ؛ لأنَّنا نقولُ لهذا الَّذي عصَى اللهَ عزَّ وجلَّ وقالَ: هذا مُقَدَّرٌ عَلَيَّ: ما الَّذي أَعْلَمَكَ أنَّهُ مُقَدَّرٌ عليكَ حتَّى أقْدَمْتَ؟ أفلا كانَ الأجدرُ بكَ أنْ تُقَدِّرَ أنَّ اللهَ تعالى قدْ كَتَبَ لكَ السَّعادةَ وتَعْمَلَ بعملِ أهلِ السَّعادةِ؛ لأنَّكَ لا تستطيعُ أنْ تَعْلَمَ أنَّ اللهَ كتَبَ عليكَ الشَّقاءَ إلاَّ بعدَ وُقُوعِهِ منكَ؟ قالَ تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} .
فالقولُ بأنَّ القدرَ سرٌّ منْ أسرارِ اللهِ مكتومٌ لا يُطَّلَعُ عليهِ إلاَّ بعدَ وقوعِ المقدورِ تَطْمَئِنُّ لهُ النَّفسُ، ويَنْشَرِحُ لهُ الصَّدرُ، وتَنْقَطِعُ بهِ حُجَّةُ البطَّالينَ.
وقولُهُ: (( خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ) )الخيرُ: ما يُلائمُ العبدَ، والشَّرُّ: ما لا يُلائمُهُ.
ومعلومٌ أنَّ المَقْدُورَاتِ خيرٌ وشرٌّ؛ فالطَّاعاتُ خيرٌ والمعاصي شرٌّ، والغِنى خيرٌ والفقرُ شرٌّ، والصِّحَّةُ خيرٌ والمرضُ شرٌّ، وهكذا.
وإذا كانَ القدَرُ من اللهِ فكيفَ يُقالُ: الإيمانُ بالقدَرِ خيرِهِ وشرِّهِ، والشَّرُّ يُنسَبُ إلى اللهِ؟
الجوابُ: أنَّ الشَّرَّ لا يُنسَبُ إلى اللهِ،
قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ: (( وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ ) )فلا يُنسَبُ إليهِ الشَّرُّ لا فعلاً ولا تقديرًا ولا حُكْمًا، بل الشرُّ في مفعولاتِ اللهِ، لا في فعلِهِ كما سبقَ بيانهُ.
قولُهُ في حديثِ عُبَادَةَ: (( أنَّهُ قالَ لابنِهِ: يا بُنَيَّ ) )أفادَ عُبَادَةُ بنُ الصَّامتِ رضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ يَنْبَغِي للأبِ أنْ يُسْدِيَ النَّصائحَ لأبنائِهِ ولأهلِهِ، وأنْ يخْتَارَ العباراتِ الرَّقيقةَ الَّتي تُلَيِّنُ القلبَ؛ حيثُ قالَ: (يَا بُنَيَّ) وفي هذا التَّعبيرِ من اللَّطَافَةِ وجَذْبِ القلبِ ما هوَ ظاهرٌ.
قولُهُ: (( لَنْ تَجِدَ طعمَ الإيمانِ ) )هذا يُفِيدُ أنَّ للإيمانِ طعمًا كما جاءتْ بهِ السُّنَّةُ، وطعمُ الإيمانِ ليسَ كطعمِ الأشياءِ المحسوسةِ، فطعمُ الأشياءِ المحسوسةِ إذا أتَى بعدَهَا طَعَامٌ آخَرُ أزالَهَا، لكنَّ طعمَ الإيمانِ يَبْقَى مُدَّةً طويلةً، حتَّى إنَّ الإنسانَ أحيانًا يفعلُ عِبادةً في صفاءٍ وحُضُورِ قلبٍ وخُشُوعٍ للهِ عزَّ وجلَّ، فتجدُهُ يَتَطَعَّمُ بتلكَ العبادةِ مُدَّةً طويلةً، فالإيمانُ لهُ حلاوةٌ ولهُ طعمٌ لا يُدْرِكُهُ إلاَّ مَنْ أسْبَغَ اللهُ عليهِ نعمتَهُ بهذهِ الحلاوةِ وهذا الطَّعمِ.
قولُهُ: (( حَتَّى تعْلَمَ أنَّ ما أصابَكَ لَمْ يَكُنْ ليُخْطِئَكَ ) )قدْ تقولُ: ما أَصَابَنِي لمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَنِي، هذا تحصيلُ حاصلٍ؛ لأنَّ الَّذي أصابَ الإنسانَ أصابَهُ، فلا بُدَّ أنْ نعرفَ معنى هذهِ العبارةِ، فتُحْمَلُ هذهِ العبارةُ على أحدِ معنيَيْنِ، أوْ عَلَيْهِمَا جميعًا:
الأوَّلُ: أنَّ المعنى: ما أَصَابَكَ؛
أيْ: مَا قدَّرَ اللهُ أنْ يُصِيبَكَ، فعَبَّرَ عن التَّقديرِ بالإصابةِ؛ لأنَّ ما قَدَّرَ سوفَ يَقَعُ، فما قدَّرَ اللهُ أنْ يُصِيبَكَ لَمْ يكُنْ لِيُخْطِئَكَ مهما عَمِلْتَ منْ أسبابٍ.
الثَّاني: ما أصابَكَ فلا تُفَكِّرْ أنْ يكونَ مُخْطِئًا لكَ، فلا تَقُلْ: لوْ أنَّني فعَلْتُ كذا ما حصَلَ كذا؛ لأنَّ الَّذي أصابَكَ الآنَ لا يُمْكِنُ أنْ يُخْطِئَكَ، فكلُّ التَّقديراتِ الَّتي تُقَدِّرُهَا وتقولُ: لوْ أنِّي فعلتُ كذا ما حصَلَ كذا، هيَ تقديراتٌ يائسةٌ لا تُؤَثِّرُ شيئًا.
وأيًّا كانَ فالمعنى صحيحٌ على الوجهَيْنِ، فما قدَّرَهُ اللهُ أنْ يُصِيبَ العبدَ فلا بُدَّ أن يُصِيبَهُ، ولا يُمْكِنُ أنْ يُخْطِئَهُ، وما وقَعَ مُصِيبًا للإنسانِ فإنَّهُ لنْ يمْنَعَهُ ويَرْفَعَهُ شيءٌ، فإذا آمَنْتَ هذا الإيمانَ ذُقْتَ طعمَ الإيمانِ؛ لأنَّكَ تَطْمَئِنُّ وتَعْلَمُ أنَّ الأمرَ لا بُدَّ أنْ يَقَعَ على ما وقعَ عليهِ، ولا يُمْكِنُ أنْ يتَغَيَّرَ أبدًا.
مثالُ ذلكَ: (رَجُلٌ خرجَ بأولادِهِ للنُّزْهَةِ، فَدَبَّ بعضُ الأولادِ إلى بِرْكَةٍ عميقةٍ، فسقَطَ فغَرِقَ فماتَ)
فلا يقولُ: لوْ أنَّنِي ما خَرَجْتُ لَمَا ماتَ الولدُ، بلْ لا بُدَّ أنْ تَجْريَ الأمورُ على ما جَرَتْ عليهِ، ولا يُمْكِنُ أنْ تتغيَّرَ؛ فما أصابَكَ لمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ.
فحينَئِذٍ يَطْمَئِنُّ الإنسانُ ويَرْضَى ويَعْرِفُ أنَّهُ لا مَفَرَّ، وأنَّ كُلَّ التَّقديراتِ والتَّخَيُّلاتِ الَّتي تقعُ في ذهنِهِ كُلُّها من الشَّيطانِ، فلا تَقُلْ: لوْ أنِّي فعلتُ كذا لكانَ كذا؛ فإنَّ لَوْ تفتحُ عملَ الشَّيطانِ، وحينئذٍ يَرْضَى ويُسَلِّمُ.
وقدْ أشارَ اللهُ إلى هذا المعنى في قولِهِ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} .
فأنتَ إذا عَلِمْتَ هذا العلمَ وتَيَقَّنْتَهُ بقلبِكَ ذُقْتَ حلاوةَ الإيمانِ واطْمَأْنَنْتَ، واستقرَّ قلبُكَ، وعرفْتَ أنَّ الأمرَ جارٍ على ما هوَ عليهِ لا يُمْكِنُ أنْ يتغيَّرَ؛ ولهذا كثيرًا ما يجدُ الإنسانُ أنَّ الأمورَ سارَتْ لِيَصِلَ إلى هذهِ المصيبةِ، فتجدُهُ يعملُ أعمالاً لمْ يكُنْ منْ عادتِهِ أنْ يعملَهَا حتَّى يصلَ إلى ما أرادَ اللهُ عزَّ وجلَّ، ممَّا يَدُلُّ على أنَّ الأمورَ بقضاءِ اللهِ وقدرِهِ.
قولُهُ: (( ومَا أخْطأَكَ لَمْ يكُنْ لِيُصيبَكَ ) )نقولُ فيهِ مثلَ الأوَّلِ، يعني: ما قُدِّرَ أنْ يُخْطِئَكَ فلنْ يُصِيبَكَ، فلوْ أنَّ أحدًا سَمِعَ بمَوْسِمِ تجارةٍ في بلدٍ ما، وسافرَ بأموالِهِ لهذا الموسمِ، فَلَمَّا وصَلَ وجَدَ أنَّ الموسمَ قدْ فاتَ نقولُ لهُ: ما أَخْطَأَكَ منْ هذا الرِّبحِ الَّذي كُنْتَ تُعِدُّ لهُ لمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ مهما كانَ ومهما عَمِلْتَ، أوْ نقولُ: لم يكُنْ ليُصِيبَكَ؛ لأنَّ الأمرَ لا بُدَّ أن يَجْرِيَ على ما قضاهُ اللهُ وقدَّرَهُ، وأنتَ جَرِّبْ نفسَكَ تَجِدْ أنَّكَ إذا حصَلْتَ على هذا اليقينِ ذُقْتَ حلاوةَ الإيمانِ.
ثُمَّ استدلَّ لِمَا يقولُ بقولِهِ: (( سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ يَقُولُ: (( إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمُ ) )) (القلمُ) بالرَّفعِ والنَّصْبِ، وهيَ مَرْوِيَّةٌ بالوجهَيْنِ.
فعلى روايَةِ الرَّفعِ يكونُ (القلمُ) خبرَ (إنَّ) ويكونُ المعنى: أوَّلُ ما خلقَ اللهُ القلمُ.
لكنْ ليسَ منْ كُلِّ المخلوقاتِ كما سَنُبَيِّنُهُ إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
وأمَّا على رِوَايَةِ النَّصبِ فَـ (( إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ.
فَقالَ: رَبِّ، وَمَا أَكْتُبُ؟ ))
يكُونُ خَبَرُ (إِنَّ) محذوفًا، أوْ: (قَالَ لَهُ: اكْتُبْ) وتكونُ الفاءُ زائدةً، ويكونُ المعنى: أنَّ اللهَ أمرَ القلمَ أنْ يكتُبَ عندَ أوَّلِ خلقِهِ لهُ، يعني خَلَقَهُ، ثُمَّ أمَرَهُ أنْ يكْتُبَ، وعلى هذا المعنى لا إشكالَ فيهِ.
لكنْ على المعنى الأوَّلِ الَّذي هوَ الرَّفعُ،
هل المرادُ أَنَّ أوَّلَ المخلوقاتِ كُلِّها هوَ القلمُ؟
الجوابُ: لا؛
لأنَّنا لوْ قُلْنَا: إنَّ القلمَ أوَّلُ المخلوقاتِ، وأنَّهُ أُمِرَ بالكتابةِ عندَما خُلِقَ، لَكُنَّا نَعْلَمُ ابتداءَ خلْقِ اللهِ للأشياءِ، وأنَّ أوَّلَ بَدْءِ خَلْقِ اللهِ كانَ قبلَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرضِ بخمسينَ ألفَ سنةٍ، ونحنُ نَعْلَمُ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ خلقَ أشياءَ قبلَ هذهِ المُدَّةِ بأزمنةٍ لا يعلمُهَا إلاَّ اللهُ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لم يَزَلْ ولا يَزَالُ خالقًا، وعلى هذا؛ فيكونُ (( إِنَّ أَوَّلَ مَا خلَقَ اللهُ الْقَلَمُ ) )يحتاجُ إلى تأويلٍ؛ ليُطابِقَ ما عُلِمَ بالضَّرُورةِ مِنْ أنَّ اللهَ تعالى لهُ مخلوقاتٌ عظيمةٌ قبلَ هذا الزَّمنِ.
قالَ أهلُ العلمِ: (وتأويلُهُ أنَّ المعنى: إِنَّ أوَّلَ ما خلَقَ اللهُ القلمَ بالنسبةِ لِمَا نُشاهِدُهُ فقطْ من المخلوقاتِ؛ كالسَّماواتِ والأرضِ، فهيَ أَوَّلِيَّةٌ نِسْبِيَّةٌ؛ أيْ: بالنِّسبةِ) .
وقدْ قالَ ابنُ القيِّمِ في (نُونِيَّتِهِ) :
والنَّاسُ مُخْتلِفُونَ في القَلَمِ الَّذي كُتِبَ القَضاءُ بِهِ مِن الدَّيَّانِ
هَلْ كَانَ قَبْلَ العَرْشِ أَوْ هُوَ بَعْدَهُ قَوْلانِ عِنْدَ أَبِي الْعُلا الْهَمَدَانِي
والحقُّ أنَّ العرشَ قَبْلُ لأنَّهُ قَبْلَ الكتابَةِ كانَ ذا أرْكَانِ
قولُهُ:
(( فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ ) )القائلُ هوَ اللهُ عزَّ وجلَّ يُخَاطِبُ القلمَ، والقَلَمُ جمادٌ، لكنَّ كُلَّ جمادٍ أمامَ اللهِ مُدْرِكٌ عاقِلٌ ومُرِيدٌ.
والدَّليلُ على هذا قولُهُ تعالى في سُورَةِ فُصِّلَتْ: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (.1) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أيْ: لا بُدَّ أنْ تَنْقَادَا لأمرِ اللهِ طوعًا أوْ كَرْهًا.
فكانَ الجوابُ: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} .
إذًا خاطَبَ اللهُ السَّماواتِ والأرضَ وأَجَابَتَا، ودلَّ قولُهُ: {طَائِعِينَ} على أنَّ لها إرادةً وأنَّها تُطِيعُ، فكُلُّ شيءٍ أمامَ اللهِ فهوَ مُدْرِكٌ مُرِيدٌ ويُجِيبُ ويَمْتَثِلُ.
قولُهُ: (( قَالَ: اكْتُبْ، قَالَ: رَبِّ، وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ ) ) (مَاذا) : اسمُ استفهامٍ، مفعولٌ مُتَقَدِّمٌ، و (أَكْتُبُ) فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهرةِ، هذا إذا أُلْغِيَتْ (ذَا) .
أمَّا إذا لَمْ تُلغَ (ذا) ، فنقولُ: (ما) اسمُ استفهامٍ مبتدأٌ، و (ذا) خبرُهُ؛ أيْ: ما الَّذي أَكْتُبُ.
والعائدُ على الموصولِ محذوفٌ، تقديرُهُ: (ما الَّذي أَكْتبُهُ) .
وفي هذا دليلٌ على أنَّ الأمرَ المُجْمَلَ لا حَرَجَ على المأمورِ في طلبِ اسْتِبَانَتِهِ.
وعلى هذا؛ فإنَّنا نقولُ: إذا كانَ الأمرُ مُجْمَلاً فإنَّ طلبَ اسْتِبَانَتِهِ لا يكونُ معصيَةً، فالقلمُ لا شكَّ أنَّهُ مُمْتَثِلٌ لأمرِ اللهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، ومعَ ذلكَ قالَ: (( رَبِّ، وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ) )فكتَبَ المقاديرَ.
فإنْ قيلَ:
وهل القلمُ يَعْلَمُ الغيبَ؟
الجوابُ:
لا، لكنَّ اللهَ أمرَهُ، ولا بُدَّ أنْ يمتثلَ لأمرِ اللهِ. فَكَتَبَ هذا القلمُ الَّذي يُعتبرُ جمادًا بالنِّسبةِ لمفهومِنَا، كَتَبَ كلَّ شيءٍ أمرَهُ اللهُ أنْ يكْتُبَهُ؛ لأنَّ اللهَ إذا أرادَ شيئًا قالَ لهُ: كُنْ، فيكونُ على حَسَبِ مُرَادِ اللهِ.
و (كُلِّ) منْ صيغِ العُمُومِ فتعمُّ كلَّ شيءٍ ممَّا يتعلَّقُ بفعلِ اللهِ أوْ بفعلِ المخلوقينَ.
وقولُهُ: (( حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ) )السَّاعةُ هيَ القيامةُ، وأُطْلِقَ عليها لفظُ السَّاعةِ؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ عظيمٍ من الدَّواهي لهُ سَاعَةٌ، يعني السَّاعةَ المعهودةَ الَّتي تُذْهِلُ النَّاسَ وَتُحِيقُ بهم وتَغْشَاهم حينَ تَقومُ السَّاعةُ، وذلكَ عندَ النَّفخِ في الصُّورِ.
قولُهُ: (يَا بُنَيَّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ يقولُ:(( مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا ) )).
المشارُ إليهِ قولُهُ: (( إِنَّ اللهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ... ) ).
قولُهُ: (( فَلَيْسَ مِنِّي ) )تبرَّأَ منهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ؛ لأنَّهُ كَافِرٌ، والرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ بَرِيءٌ منْ كلِّ كافرٍ.
قولُهُ: (( وفي روايَةٍ لأحمَدَ: (( إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ... ) ))) .
هذهِ الروايَةُ تُفِيدُ أمْرًا زائدًا على ما سبقَ وهوَ قولُهُ:
(( فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ ) )فَإِنَّهُ صريحٌ في أنَّ القلمَ امْتَثَلَ.
والحديثُ الأوَّلُ ليسَ فيهِ أنَّهُ كتَبَ إلاَّ عنْ طريقِ اللُّزومِ بأنَّهُ سيكتُبُ امتثالاً لأمْرِ اللهِ تعالى.
فيُستفادُ منهُ ما سبقَ منْ كتابةِ اللهِ سبحانَهُ وتعالَى كلَّ شيءٍ إلى قيامِ السَّاعةِ.
وهذا مذكورٌ في القرآنِ الكريمِ في قولِهِ تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} .
وقالَ تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} أيْ: مِنْ قَبْلِ أنْ نَبْرَأَ الخليقةَ، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} .
قولُهُ: (( إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) )هوَ يومُ البعثِ، وسُمِّيَ يومَ القيامةِ؛ لقيامِ أُمُورٍ ثلاثةٍ فيهِ:
الأوَّلُ: قيامُ النَّاسِ منْ قبورِهِم لربِّ العالمينَ، كما قالَ تعالى: {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .
الثَّاني:
قيامُ الأشهادِ الَّذين يَشْهَدونَ للرُّسُلِ وعلى الأُمَمِ؛ لقولِهِ تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} .
الثَّالثُ:
قيامُ العدلِ؛ لقولِهِ تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} .
قولُهُ: (( وفي رِوَايَةٍ لابنِ وَهْبٍ ) )ظاهِرُهُ أنَّ هذا في حديثِ عُبَادَةَ، وابنُ وهْبٍ هو: عبد الله بن وهب المصري، أحدُ حُفَّاظِ الحديثِ.
قولُهُ: (( فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ أَحْرَقَهُ اللهُ بِالنَّارِ ) )في هذا دليلٌ على أنَّ الإيمانَ بالقدرِ واجبٌ ولا يتمُّ الإيمانُ إلاَّ بهِ، وأمَّا مَنْ لمْ يُؤْمِنْ بهِ فإنَّهُ يُحْرَقُ بالنَّارِ.
وقولُهُ: (( أَحْرَقَهُ اللهُ بِالنَّارِ ) )بعدَ قولِهِ: (( فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ ) )يَدُلُّ على أنَّ مَنْ أنْكَرَ أوْ شَكَّ فإنَّهُ يُحْرَقُ بالنَّارِ؛ لأنَّ لدَيْنَا ثلاثةَ مَقَامَاتٍ:
الأوَّلُ: الإيمانُ والجزمُ بالقدرِ بمراتبِهِ الأربعةِ.
الثَّاني: إنكارُ ذلكَ.
وهذانِ واضحانِ؛ لأنَّ الأوَّلَ إيمانٌ، والثَّانيَ كفرٌ.
الثَّالثُ: الشَّكُّ والتَّردُّدُ،
فهذا يُلْحَقُ بالكفرِ؛ ولهذا قالَ: (( فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ ) )ودَخَلَ في هذا النَّفيِ مَنْ أَنْكَرَ ومَنْ شَكَّ.
وفي قولِهِ: (( أَحْرَقَهُ اللهُ بِالنَّارِ ) )دليلٌ على أنَّ عذابَ النَّارِ مُحْرِقٌ، وأنَّ أهلَهَا ليسَ كمَا زعَمَ بعضُ أهلِ البِدَعِ يَتكَيَّفُونَ لها حتَّى لا يُحِسُّونَ لها بأَلَمٍ، بلْ هُمْ يُحِسُّونَ بألمٍ وتُحْرِقُ أجسامَهُم.
وقدْ ثبتَ في حديثِ الشَّفاعةِ أنَّ اللهَ يُخْرِجُ من النَّارِ مَنْ كانَ من المؤمنينَ حتَّى صَارُوا حُمَمًا؛ يعني فَحْمًا أَسْوَدَ.
وقدْ دلَّ عليهِ القرآنُ في قولِهِ تعالى: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} وفي قولِهِ تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} .
قولُهُ: (( فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِن القَدَرِ ) )لمْ يُفْصِحْ عنْ هذا الشَّيءِ، لكنْ لعلَّهُ لمَّا حَدَثَتْ بدْعَةُ القدرِ، وهيَ أوَّلُ البِدَعِ حدوثًا، صارَ النَّاسُ يَتَشَكَّكونَ فيها ويَتَكَلَّمونَ فيها، وإلاَّ فإنَّ النَّاسَ قبلَ حدوثِ هذهِ البدعةِ كانوا على الحقِّ، ولا سيَّما أنَّ الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ خرَجَ على أصحابِهِ ذاتَ يَوْمٍ وهُمْ يتكلَّمونَ في القدَرِ، فغَضِبَ النَّبيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامْ منْ ذلكَ وأَمَرَهُم بأنْ لا يتَنَازَعُوا وأنْ لا يختلِفُوا.
فكفَّ النَّاسُ عنْ هذا حتَّى قَامَتْ بدعةُ القدريَّةِ وحصَلَ ما حَصَلَ من الشُّبَهِ؛ فلهذا يقولُ ابنُ الدَّيْلَمِيِّ: (في نَفْسِي شَيْءٌ مِن القَدَرِ...) .
قولُهُ: (( فَحَدِّثْنِي بِشَيءٍ لَعَلَّ اللهَ أنْ يُذْهِبَهُ مِنْ قَلْبِي ) )أيْ: يُذْهِبَ هذا الشَّيءَ.
وهكذا يجبُ على الإنسانِ إذا أُصيبَ بمرضٍ أنْ يَذْهَبَ إلى أَطِبَّاءِ ذلكَ المرضِ، وأَطِبَّاءُ مرضِ القلوبِ هم العلماءُ، ولا سيَّما مثلَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهم؛ كَأُبَيِّ بنِ كعبٍ؛ فَلِكُلِّ داءٍ طَبِيبٌ.
قولُهُ: (( لَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالقَدَرِ ) )هذا يدلُّ على أنَّ مَنْ لمْ يُؤْمِنْ بالقدرِ فهوَ كافرٌ؛ لأنَّ الَّذي لا تُقْبَلُ منهُ النَّفقاتُ هم الكفَّارُ، وسَبَقَ نحْوُهُ عن ابنِ عمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما.
قولُهُ: (( حتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَتَعلَمَ أنَّ ما أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخطِئَكَ، وَمَا أَخْطأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصيبَكَ ) )وقدْ سبقَ الكلامُ على هذهِ الجُمْلَةِ.
قولُهُ: (( وَلوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذا لَكُنْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ) ) (مُتَّ) بالضمِّ؛ لأنَّها مِنْ ماتَ يَمُوتُ.
وفيهِ لُغَةٌ أُخْرَى بالكسرِ (مِتَّ) كما في قولِهِ تعالى: {وَلَئِنْ مِتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ} في إِحْدَى القراءتَيْنِ.
وهيَ على هذهِ القِراءةِ مِنْ (مَاتَ: يَمِيتُ) بالياءِ.
قولُهُ: (( عَلَى غَيْرِ هَذا لَكُنْتَ مِنْ أهلِ النَّارِ ) )جزمَ أُبيُّ بنُ كعبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (بأنَّهُ إذا ماتَ على غيرِ هذا كانَ منْ أهلِ النَّارِ) لأنَّ مَنْ أنْكَرَ القدرَ فهوَ كافرٌ، والكافرُ يكونُ منْ أهلِ النَّارِ الَّذينَ هُمْ أهْلُها المُخَلَّدونَ فيها.
وهلْ هذا الدَّوَاءُ يُفِيدُ؟
الجوابُ: نَعَمْ يُفِيدُ،
وكُلُّ مؤمنٍ باللهِ إذا عَلِمَ أنَّ مُنْتَهَى مَنْ لمْ يُؤْمِنْ بالقدرِ هوَ هذا، فلا بُدَّ أنْ يَرْتَدِعَ، ولا بُدَّ أنْ يُؤْمِنَ بالقدرِ على ما جاءَ في كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ.
وقولُهُ: (( فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ مَسْعُودٍ وحُذَيفةَ بنَ الْيَمَانِ وزيدَ بنَ ثابتٍ، فكُلُّهُم حَدَّثَنِي بمِثْلِ ذلِكَ ) )المُشَارُ إليهِ الإيمانُ بالقدرِ، وأنْ يَعْلَمَ الإنسانُ أنَّ ما أصابَهُ لمْ يكُنْ ليُخْطِئَهُ، وما أخْطَأهُ لمْ يَكُنْ ليُصِيبَهُ.
وكلُّ هؤلاءِ العلماءِ الأَجِلاَّءِ كُلُّهم منْ أهلِ القرآنِ، فَأُبَيُّ بنُ كَعْبٍ منْ أهلِ القرآنِ ومِنْ كَتَبةِ القرآنِ، حتَّى إنَّ الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ دَعَاهُ ذاتَ يَوْمٍ وقرَأَ عليهِ سورةَ {لَمْ يَكُنْ...} البيِّنةِ.
وقالَ: (( إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَهَا عَلَيْكَ ) )فقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، سَمَّانِي اللهُ لَكَ؟ قالَ: (( نَعَمْ ) ).
فَبَكَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بُكَاءَ فَرَحٍ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ سَمَّاهُ باسمِهِ لِنَبِيِّهِ، وأَمَرَ نَبِيَّهُ أنْ يَقْرَأَ عليهِ هذِهِ السُّورةَ.
وأمَّا عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ، فقدْ قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ: (( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ ) ).
وأمَّا زيدُ بنُ ثابتٍ، فهوَ أحدُ كُتَّابِ القرآنِ في عهدِ أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وحُذَيْفَةُ بنُ الْيَمَانِ، صاحِبُ السِّرِّ الَّذي أَسَرَّ إليهِ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ بأسماءِ المنافقينَ.
والحاصلُ أنَّ هذا البابَ يَدُلُّ على وجوبِ الإيمانِ بالقضاءِ والقدرِ بمَرَاتبِهِ الأربعِ.
مَسْأَلَةٌ: الإيمانُ بالقدرِ هَلْ هوَ مُتَعَلِّقٌ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ، أوْ بالألوهيَّةِ، أوْ بالأسماءِ والصِّفاتِ؟
الجوابُ:
تَعلُّقُهُ بالرُّبوبيَّةِ أكثرُ منْ تَعَلُّقِهِ بالألوهيَّةِ والأسماءِ والصِّفاتِ، ثمَّ تَعَلُّقُهُ بالأسماءِ والصِّفاتِ أكثرُ منْ تَعَلُّقِهِ بالألوهيَّةِ، وتَعَلُّقُهُ بالألوهيَّةِ أيضًا ظاهرٌ؛ لأنَّ الألوهيَّةَ بالنِّسبةِ للهِ يُسَمَّى توحيدَ الألوهيَّةِ، وبالنِّسبةِ للعبدِ يُسمَّى توحيدَ العبادةِ، والعبادةُ فعلُ العبدِ، فلها تعلُّقٌ بالقدَرِ، فالإيمانُ بالقدرِ لهُ مَسَاسٌ بأقسامِ التَّوحيدِ الثَّلاثةِ.
فيهِ مسائلُ:
الأولى: (بيانُ فَرْضِ الإيمانِ بالقَدَرِ)
دليلُهُ قولُهُ: (( الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ) ).
الثانيَةُ: (بيانُ كيفيَّةِ الإيمانِ) أيْ: بالقدرِ، وهوَ أنْ تُؤْمنَ بأنَّ ما أصَابَكَ لمْ يكُنْ ليُخْطِئَكَ، وما أخْطَأَكَ لم يَكُنْ لِيُصِيبَكَ.
الثالثةُ: (إحباطُ عَمَلِ مَنْ لَمْ يُؤمِنْ بهِ) تُؤْخَذُ منْ قولِ ابنِ عُمَرَ: (لَوْ كَانَ لأَحَدِهِم مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، ثُمَّ أنْفَقَهُ في سَبيلِ اللهِ، ما قَبِلَهُ اللهُ مِنْهُ حتَّى يُؤْمِنَ بالقَدَر) .
ويَتَفَرَّعُ منهُ ما ذَكَرْناهُ سابقًا بأنَّهُ يدُلُّ على أنَّ مَنْ لمْ يُؤْمِنْ بالقدرِ فهوَ كافرٌ؛ لأنَّ الكافرَ هوَ الَّذي لا يُقْبَلُ منهُ العملُ.
الرابِعةُ: (الإخبارُ أنَّ أحدًا لا يجِدُ طعْمَ الإيمانِ حتَّى يُؤمِنَ بهِ) أيْ: بالقدرِ، وهوَ كذلكَ لقولِ عُبادةَ بنِ الصامِتِ لابْنِهِ: (يَا بُنَيَّ، إنَّكَ لنْ تَجِدَ طَعْمَ الإيمانِ...) إلخ.
وقدْ سبَقَ أنَّ الإيمانَ بالقدرِ يُوجِبُ طُمَأْنِينَةَ الإنسانِ بما قَضَاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ ويستريحُ؛ لأنَّهُ عَلِمَ أنَّ هذا أمْرٌ لا بُدَّ أنْ يقعَ على حسَبِ المقدورِ، لا يَتَخَلَّفُ أبدًا (( وَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا لَكَانَ كَذَا، لأَِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ) )ولا تَرْفَعُ شيئًا وَقَعَ مهما قُلْتَ.
الخامِسَةُ: (ذِكْرُ أوَّلِ ما خَلَقَ اللهُ) ظاهرُ كلامِ المُؤَلِّفِ المَيْلُ إلى أنَّ القلمَ أوَّلُ مخلوقاتِ اللهِ، ولكنَّ الصَّحيحَ خِلافُهُ، وأنَّ القلمَ ليسَ أوَّلَ مخلوقاتِ اللهِ؛ لأنَّهُ ثَبَتَ في (صحيحِ البُخَارِيِّ) : (( كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ ) ).
وهذا واضحٌ في التَّرتيبِ، وَلِهَذَا كانَ الصَّوابُ بلا شَكٍّ أنَّ القلمَ خُلِقَ بعدَ العرشِ.
وَسَبَقَ لنَا تخريجُ الرِّوَايتَيْنِ، وأنَّهُ على الرِّوَايَةِ الَّتي ظاهرُها أنَّ القلمَ أوَّلُ ما خُلِقَ تُحْمَلُ على أنَّهُ أَوَّلُ ما خُلِقَ بالنِّسبةِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بهذا العالمِ المُشاهَدِ، فهوَ قبلَ خلقِ السَّماواتِ والأرضِ، فتكونُ أَوَّلِيَّتُهُ نِسْبِيَّةً.
السَّادِسَةُ: (أنَّهُ جَرَى بالْمَقادِيرِ في تِلْكَ السَّاعةِ إلى قِيامِ السَّاعةِ) لقولِهِ: (( فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةَ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) ).
وفيهِ أيضًا من الفوائدِ:
تَوْجِيهُ خِطَابِ اللهِ إلى الجَمَادِ، وأنَّهُ يَعْقِلُ أمْرَ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ وَجَّهَ الخطابَ إلى القلمِ ففهِمَ واستجابَ، لَكِنَّهُ سألَ في الأوَّلِ وقالَ: (( مَاذَا أَكْتُبُ؟ ) ).
السَّابِعةُ: (بَراءتُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مِمَّنْ لَمْ يُؤْمِنْ به) لقولِهِ: (( مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي ) )وهذهِ البراءةُ مُطْلَقةٌ؛ لأنَّ مَنْ لمْ يُؤْمِنْ بالقدرِ فهوَ كافرٌ كُفْرًا مُخْرِجًا عن المِلَّةِ.
الثَّامِنةُ: (عادةُ السَّلَفِ في إِزالةِ الشُّبْهةِ بسؤالِ العلماءِ) لأنَّ ابنَ الدَّيْلَمِيِّ يقولُ: (فأَتَيْتُ عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ وحُذَيْفَةَ بنَ اليمانِ وزيدَ بنَ ثابتٍ، بعدَ أنْ أتَى أُبَيَّ بنَ كعبٍ، فَدَلَّ هذا على أنَّ منْ عادةِ السَّلفِ السُّؤَالَ عمَّا يَشْتَبِهُ عليهم) .
وفيهِ أيضًا مسألةٌ ثانيَةٌ، وهيَ جَوازُ سؤالِ أكثرَ مِنْ عالمٍ للتثبُّتِ؛
لأنَّ ابنَ الدَّيْلَمِيِّ سأَلَ عدَّةَ علماءَ.
أمَّا سؤالُ أكثرَ منْ عالمٍ لِتَتَبُّعِ الرُّخَصِ فهذا لا يجوزُ، كما نصَّ على ذلكَ أهلُ العلمِ.
وهذا مِنْ شَأْنِ اليهودِ؛ فاليهودُ لَمَّا كانَ في التَّوراةِ أنَّ الزَّانِيَ يُرْجَمُ إذا كانَ مُحْصَنًا، وكثُرَ الزِّنَا في أشرافِهِم، غيَّرُوا هذا الحدَّ.
ولمَّا قَدِمَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ المدينةَ، وَزَنَا منهم رَجُلٌ بامرأةٍ قالُوا: اذْهَبُوا إلى هذا الرَّجُلِ لعلَّكمْ تَجِدونَ عنْدَهُ شيئًا آخَرَ؛ لأجلِ أنْ يَتَتَبَّعُوا الرُّخَصَ.
التَّاسِعةُ: (أنَّ العلماءَ أجابُوهُ بما يُزِيلُ شُبْهَتَهُ؛ وذلِكَ أنَّهُم نَسَبُوا الكلامَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقط) لقولِ ابن الديلميِّ: (كُلُّهُمْ حَدَّثَنِي بِمِثلِ ذلِكَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ) وهذا مُزِيلٌ للشُّبْهَةِ، فإذا نُسِبَ الأمرُ إلى اللهِ ورسولِهِ زالت الشُّبهةُ تمامًا، لكنْ تزولُ عن المُؤْمِنِ، أمَّا غيرُ المؤمنِ فلا تنفعُهُ؛ فاللهُ عزَّ وجلَّ يقولُ: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ} وقالَ: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} لكنَّ المؤمنَ هوَ الَّذي تَزُولُ شُبْهَتُهُ بما جاءَ عن اللهِ ورسولِهِ، كما قالَ تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} ولهذا لَمَّا قَالَتْ عائشةُ للمرأةِ: (كَانَ يُصِيبُنا -تَعْنِي: الْحَيْضَ- فَنُؤْمَرُ بِقَضاءِ الصَّوْمِ، ولا نُؤْمَرُ بِقضاءِ الصَّلاة) لمْ تَذْهَبْ تُعَلِّلُ، ولكنْ لا حَرَجَ على الإنسانِ أنْ يذْكُرَ الحُكْمَ بعِلَّتِهِ لِمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ لَعَلَّهُ يُؤْمِنُ، ولهذا يَذْكُرُ اللهُ عزَّ وجلَّ إحياءَ المَوْتَى ويذكرُ الأدلَّةَ العقليَّةَ والحِسِّيَّةَ على ذلكَ، فقالَ في أدلَّةِ العقلِ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} فهذهِ دلالةٌ عقليَّةٌ.
فالعقلُ يُؤْمِنُ إيمانًا كاملاً بأنَّ مَنْ قَدَرَ على الابتداءِ؛ فهوَ قادرٌ على الإعادةِ منْ بابِ أَوْلَى، وذكرَ أدلَّةً حِسِّيَّةً؛ منها قولُهُ تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} .
فإذًا لا مانعَ أنْ تَأْتِيَ بِالأَدِلَّةِ العقليَّةِ أو الحِسِّيَّةِ منْ أجلِ أنْ تُقْنِعَ الْخَصْمَ وَتُطَمْئِنَ الْمُوَافِقَ.
وفيهِ دليلٌ رابعٌ:
وهوَ: دليلُ الفطرةِ، فلا مَانِعَ أيضًا أنْ نأتيَ بهِ للاستدلالِ على ما نقولُ من الحقِّ لِنُلْزِمَ الخصمَ بهِ، ونُطَمْئِنَ الموافقَ، وما زالَ العلماءُ يَسْلُكونَ هذا المَسْلَكَ.
فإذًا؛ الأدلَّةُ سَمْعِيَّةٌ، وعقليَّةٌ، وفِطْرَيَّةٌ، وحِسِّيَّةٌ.
وأشدُّها إقناعًا للمؤمنِ هوَ الدَّليلُ السَّمْعِيُّ؛ لأنَّهُ يَقِفُ عندَهُ، ويَعْلَمُ أنَّ كُلَّ ما خالَفَ دلالةَ السَّمعِ فهوَ باطِلٌ، وإنْ ظَنَّهُ صاحبُهُ حقًّا.