-وَقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأَنْعَام:51] .
-وَقَوْلِهِ: {قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزُّمَر:44] .
-وَقَوْلِهِ: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [الْبَقَرَة:255] .
-وَقَوْلِهِ: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النَّجْم:26] .
-وَقَوْلِهِ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ ومَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ ومَا لَهُ مِنْهُم مِّنْ ظَهِيرٍ (22) ولا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سَبَأ:22،23] .
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: (نَفَى اللهُ عَمَّا سِوَاهُ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَنَفَى أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ مُلْكٌ أَوْ قِسْطٌ مِنْهُ، أَوْ يَكُونَ عَوْنًا للهِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ الشَّفَاعَةُ، فَبَيَّنَ أَنَّهَا لاَ تَنْفَعُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّبُّ، كَمَا قَالَ: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأَنْبِيَاء:28] ) .
فَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ الَّتِي يَظُنُّهَا الْمُشْرِكُونَ هِيَ مُنْتَفِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا نَفَاهَا الْقُرْآنُ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
(( أَنَّهُ يَأْتِي فَيَسْجُدُ لِرَبِّهِ وَيَحْمَدُهُ - لاَ يَبْدَأُ بِالشَّفَاعَةِ أَوَّلاً - ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ) ).
وَقَالَ لَهُأَبُو هُرَيْرَةَ: (مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ؟ قَالَ:(( مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ ) ).
فَتِلْكَ الشَّفَاعَةُ لأَِهْلِ الإِخْلاَصِ بِإِذْنِ اللهِ، وَلاَ تَكُونُ لِمَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ.
وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي يَتَفَضَّلُ عَلَى أَهْلِ الإِخْلاَصِ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ بِوَاسِطَةِ دُعَاءِ مَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ لِيُكْرِمَهُ، وَيَنَالَ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ.
فَالشَّفَاعَةُ الَّتِي نَفَاهَا الْقُرْآنُ مَا كَانَ فِيهَا شِرْكٌ، وَلِهَذَا أَثْبَتَ الشَّفَاعَةَ بِإِذْنِهِ فِي مَوَاضِعَ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ لأَِهْلِ التَّوْحِيدِ وَالإِخْلاَصِ)
انْتَهَى كَلاَمُهُ.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ الآيَاتِ.
الثَّانِيَةُ: صِفَةُ الشَّفَاعَةِ الْمَنْفِيَّةِ.
الثَّالِثَةُ: صِفَةُ الشَّفَاعَةِ الْمُثْبَتَةِ.
الرَّابِعَةُ: ذِكْرُ الشَّفَاعَةِ الْكُبْرَى، وَهِيَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ.
الْخَامِسَةُ: صِفَةُ مَا يَفْعَلُهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لاَ يَبْدَأُ بِالشَّفَاعَةِ بَلْ يَسْجُدُ، فَإِذَا أَذِنَ اللهُ لَهُ شَفَعَ.
السَّادِسَةُ: مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِهَا؟
السَّابِعَةُ: أَنَّهَا لاَ تَكُونُ لِمَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ.
الثَّامِنَةُ: بَيَانُ حَقِيقَتِهَا.
ذَكَرَ المُؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ الشَّفَاعَةَ في
كِتَابِ التَّوحيدِ) لأنَّ المُشْرِكِينَ الذينَ يَعْبُدُونَ الأصْنامَ يقولونَ: إنَّها شُفَعَاءُ لهم عندَ اللهِ، وهم يُشْرِكُونَ باللهِ سُبْحانَهُ وتَعَالَى فيها بالدُّعاءِ والاسْتِغَاثَةِ، ومَا أَشْبَهَ ذلكَ.
وهم بذلكَ يَظُنُّونَ أنَّهم مُعَظِّمُونَ للهِ،
ولكنَّهم مُنْتَقِصُونَ لهُ؛ لأنَّهُ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ ولهُ الحُكْمُ التَّامُّ المُطْلَقُ والقُدْرَةُ التامَّةُ، ومَنْ كَانَ كذلكَ فإنَّهُ لاَ يَحْتاجُ إِلَى شُفَعَاءَ.
والمُلُوكُ في الدُّنيا يَحْتاجُونَ إلَى شُفَعَاءَ، إِمَّا لِقُصُورِ عِلْمِهم، أوْ لِنَقْصِ قُدْرَتِهم، فيُسَاعِدُهم الشُّفَعَاءُ في ذَلِكَ، أوْ لقُصُورِ سُلْطَانِهم فَيَتَجرَّأُ عَلَيْهم الشُّفَعَاءُ فيَشْفَعُونَ بدونِ اسْتِئْذَانٍ، ولكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ كامِلُ العِلْمِ والقُدْرَةِ والسُّلْطانِ، فَلاَ يَحْتَاجُ لأَِحَدٍ أنْ يَشْفَعَ عندَهُ، ولهذا لا تكونُ الشَّفَاعَةُ عندَهُ سبحانَهُ إلاَّ بإذْنِهِ لِكَمَالِ سُلْطَانِهِ وعَظَمَتِهِ.
ثُمَّ الشَّفَاعَةُ
لاَ يُرادُ بِهَا مَعُونَةُ اللهِ سُبْحَانَهُ في شَيْءٍ مِمَّا شُفِعَ فيهِ، فهذا مُمْتَنِعٌ كَمَا سَيأْتِي في كَلاَمِ شَيْخِ الإسْلاَمِ ابنِ تَيْمَيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ، ولَكِنْ يُقْصَدُ بِهَا أَمْرانِ هُمَا:
-إِكْرَامُ الشَّافِعِ.
-ونَفْعُ المَشْفُوعِ لَهُ.
والشَّفَاعَةُ لُغَةً: اسْمٌ مِنْ: شَفَعَ يَشْفَعُ، إذا جَعَلَ الشَّيْءَ اثْنَيْنِ، والشَّفْعُ ضِدُّ الوَتْرِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}
واصْطَلاَحًا:
التَّوَسُّطُ للغَيْرِ بِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ أوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ.
مثالُ جَلْبِ المَنْفَعَةِ:
شَفَاعَةُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لأَِهلِ الجنَّةِ بدُخُولِها.
ومِثَالُ دَفْعِ المَضَرَّةِ: شَفَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِمَن اسْتَحَقَّ النَّارَ أنْ لاَ يَدْخُلَها.
قال في (قرة عيون الموحدين) ص100:
الشفاعة نوعان:
شفاعة منفيّة في القرآن، وهي الشفاعة للكافر والمشرك، قال تعالى: {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} ، وقال: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} .
والنوع الثاني:
الشفاعة التي أثبتها القرآن، وهي خالصة لأهل الإخلاص، وقيدها الله تعالى بأمرين:
الأول:
إذنه للشافع أن يشفع، كما قال:
{من ذا لذي يشفع عنده إلاّ بإذنه}
الثاني:
رضاه عمن أذن للشافع أن يشفع فيه، لما قال تعالى:
{ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى} .
قولُهُ:
{وَأَنذِرْ بِهِ} الإنْذَارُ: هوَ الإعْلاَمُ المُتَضَمِّنُ للتَّخْويفِ، أَمَّا مُجَرَّدُ الخَبَرِ فليسَ بإنْذَارٍ، والخَطَابُ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
والضَّمِيرُ في {بِهِ} يَعُودُ للقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} .
وقَالَ تَعَالَى: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} .
وقولُهُ: {يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا} أيْ: يَخَافُونَ مِمَّا يَقَعُ لَهُم مِنْ سُوءِ العَذَابِ في ذلكَ الحشرِ.
والحَشْرُ:
الجَمْعُ، وقَدْ ضُمِّنَ هنا مَعْنَى الضَّمِّ والانْتِهَاءِ،
ومَعْنَى (يُحْشَرُونَ) أيْ: يُجْمَعُونَ حَتَّى يَنْتَهوا إلَى اللهِ.
وقولُهُ: {لَيْسَ لَهُمْ مِن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} ، ولِيٌّ أيْ: ناصِرٌ يَنْصُرُهم. {ولاَ شَفِيعٌ} أيْ: شَافِعٌ يَتَوسَّطُ لَهُم، وهذا مَحَلُّ الشَّاهِدِ، فَفِي هذه الآيَةِ نَفْيُ الشَّفَاعَةِ مِنْ دونِ اللهِ؛ أيْ: مِنْ دونِ إذنِهِ.
ومَفْهُومُها
: أَنَّها ثَابِتَةٌ بإذنِهِ وهذا هوَ المَقْصُودُ، فالشَّفَاعَةُ مِنْ دونِهِ مُسْتَحِيلَةٌ، وبإذْنِهِ جَائِزَةٌ ومُمْكِنَةٌ.
أمَّا عندَ المُلُوكِ فَجَائِزَةٌ بإذْنِهم وبغَيْرِ إذْنِهِم،
فيُمْكِنُ لِمَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنَ السُّلْطَانِ أنْ يَشْفَعَ بدونِ أنْ يَسْتَأْذِنَ.
ويُفِيدُ قولُهُ: {مِنْ دُونِهِ} أنَّ لهم بإذنِهِ وليًّا وشَفِيعًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ} .
(3) قولُهُ تَعَالَى: {للهِ الشَّفَاعَةُ} مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ، وقُدِّمَ الخَبَرُ للحَصْرِ، والمعنَى: للهِ وحْدَهُ الشَّفَاعَةُ كلُّهَا، لاَ يُوجَدُ شَيْءٌ منها خَارِجًا عنْ إذنِ اللهِ وإرادَتِهِ، فأَفَادَت الآيَةُ في قولِهِ: {جَمِيعًا} أنَّ هناكَ أَنْواعًا للشَّفَاعَةِ.
وقَدْ قَسَّمَ أَهْلُ العِلْمِ
-رَحِمَهم اللهُ - الشَّفَاعَةَ إِلَى قِسْمَيْنِ كبيرين:
القِسْمُ الأولُ: الشَّفَاعَةُ الخَاصَّةُ بالرسولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وهيَ أنواعٌ:
النَّوْعُ الأوَّلُ:
الشَّفَاعَةُ العُظْمَى
، وهيَ مِن المَقَامِ المَحْمُودِ الذي وَعَدَهُ اللهُ، فإنَّ النَّاسَ يَلْحَقُهم يومَ القيامةِ في ذلكَ المَوْقِفِ العَظِيمِ مِن الغَمِّ والكَرْبِ مَا لاَ يُطِيقُونَهُ، فيَشْفَعُ إلَى اللهِ ليُرِيحَ أَهْلَ المَوْقِفِ مما هم فيه بعد أن يتدافعها الأنبياء آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، عليهم الصلاة والسلام ثم تنتهي إليه.
الثَّانِي:
شَفَاعَتُهُ في أهْلِ الجنَّةِ أنْ يَدْخُلُوها؛
لأَِنَّهم إذا عَبَرُوا الصِّرَاطَ وَوَصَلُوا إِلَيْها وجَدُوهَا مُغْلَقَةً، فيَطْلُبونَ مَنْ يَشْفَعُ لَهُم، فيَشْفَعُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلَى اللهِ في فَتْحِ أَبْوابِ الجَنَّةِ لأَِهْلِها، ويُشِيرُ إلَى ذلكَ قولُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} فَقَالَ: {وفُتِحَتْ} فهناكَ شيءٌ مَحْذُوفٌ؛ أيْ: وحَصَلَ ما حَصَلَ مِن الشَّفَاعَةِ، وفُتِحَتِ الأبْوابُ، أمَّا النَّارُ فَقَالَ فيها: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوابُهَا} .
الثَّالِثُ:
شَفَاعَتُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُخَفَّفَ عنه العَذَابُ،
وهذه مُسْتَثْناةٌ مِنْ قَولِهِ تَعَالَى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وقولِهِ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} وذلكَ لِمَا كانَ لأَِبِي طَالبٍ مِنْ نُصْرَةٍ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ودِفَاعٍ عنه، وهوَ لَمْ يَخْرُجْ مِن النَّارِ لكنْ خُفِّفَ عنه، حَتَّى صَارَ - والعِياذُ باللهِ - في ضَحْضَاحٍ مِنْ نارٍ وعليهِ نَعْلاَنِ منها يَغْلِي منهما دِمَاغُهُ، وهذه الشَّفَاعَةُ خَاصَّةٌ بالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، لاَ أَحَدَ يَشْفَعُ في كَافِرٍ أَبَدًا إِلاَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ومَعَ ذلكَ لَمْ تُقْبَل الشَّفَاعَةُ كَامِلَةً وإِنَّما هيَ تَخْفِيفٌ فقطْ.
القِسْمُ الثَّانِي: الشَّفَاعَةُ العَامَّةُ لَهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ولجَميعِ المُؤْمِنينَ
وهي ثلاثة أنواعٌ:
النوعُ الأولُ:
الشَّفاعةُ فيمَن اسْتَحَقَّ النارَ أنْ لاَ يَدْخُلَها،
وهذه قَدْ يُسْتَدَلُّ عليها بقولِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَموتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنازَتِهِ أرْبَعُونَ رَجُلاً لاَ يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئًا إِلاَّ شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ ) )فإنَّ هذه شَفَاعَةٌ قبلَ أنْ يَدْخُلَ النارَ فيُشَفِّعُهُم اللهُ في ذلكَ، وقال ابن القيم: (وهذا النوع لم أقف إلى الآن على حديث يدل عليه) .
النوعُ الثاني:
الشَّفَاعَةَُ فيمَنْ دَخَلَ النَّارَ أنْ يَخْرُجَ منها،
وَقَدْ تَواتَرَتْ بِهَا الأحاديثُ، وأَجْمَعَتْ عليها الصَّحَابَةُ، واتَّفَقَ عليها أهلُ المللِ ما عَدَا طَائِفَتَيْنِ وهما: المُعْتَزِلَةُ والخَوَارِجُ، فإنَّهم يُنْكِرونَ الشَّفاعَةَ في أهْلِ المَعَاصِي مُطْلَقًا؛ لأَِنَّهم يَرَوْنَ أنَّ فَاعِلَ الكَبِيرةِ مُخَلَّدٌ في النَّارِ، ومَن اسْتَحَقَّ الخُلُودَ فَلاَ تَنْفَعُ فيهِ الشَّفَاعَةُ، فهم يُنْكِرُونَ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أوْ غَيْرَهُ يَشْفَعُ في أَهْلِ الكَبَائرِ أَنْ لاَ يَدْخُلُوا النَّارَ، أوْ إذا دَخَلُوها أنْ يَخْرُجُوا منها، لكنَّ قَوْلَهم هذا بَاطِلٌ بالنَّصِّ والإجماعِ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن أحاديث الشفاعة في أهل الكبائر ثابتة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اتفق عليها السلف الصالح؛ من الصحابة وتابعيهم بإحسان وأئمة المسلمين) .
النوعُ الثالثُ:
الشَّفَاعةُ في رَفْعِ دَرَجَاتِ المُؤْمِنينَ،
وهذه تَؤْخَذُ مِنْ دُعاءِ المُؤْمِنينَ بَعْضِهم لبعضٍ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في أَبِي سَلَمَةَ: (( اللهُمَّ اغْفِرْ لأَِبِي سَلَمَةَ وارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وأَفْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ، واخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ ) ).
والدُّعاءُ شَفَاعَةٌ
كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (( مَا مِنْ مُسلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَربَعونَ رَجُلاً لاَ يُشْرِكُونَ باللهِ شَيْئًا إِلاَّ شَفَّعَهُم اللهُ فيهِ ) ).
قال ابن القيم: (هي نوع ينكرها كثير من الناس) .
إِشْكَالٌ وجَوَابُهُ:
فإنْ قِيلَ: إنَّ الشَّفَاعَةَ لاَ تَكُونُ إلاَّ بإذْنِهِ سُبْحَانَهُ، فكيفَ يُسَمَّى دُعَاءُ الإنْسَانِ لأَِخيهِ شَفَاعَةً وهوَ لَمْ يَسْتَأْذِنْ مِنْ رَبِّهِ؟
فالجَوابُ:
أنَّ اللهَ أَمَرَ بأنْ يَدْعُوَ الإنسانُ لأَِخِيهِ المَيِّتِ،
وأَمْرُهُ بالدُّعَاءِ إذْنٌ وزيادةٌ.
وأمَّا الشَّفَاعَةُ المَوْهُومَةُ
التي يَظُنُّها عُبَّادُ الأصنامِ مِنْ مَعْبُودِيهم، فهيَ شَفَاعَةٌ باطِلَةٌ؛ لأنَّ اللهَ لا يأذنُ لأَِحَدٍ بالشَّفَاعَةِ إِلاَّ مَن ارْتَضَاهُ مِن الشُّفَعَاءِ والمَشْفُوعِ لَهُم.
إذًا قولُهُ: {للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} تُفِيدُ أنَّ الشَّفَاعَةَ مُتَعَدِّدَةٌ كَمَا سَبَقَ.
قولُهُ تَعَالَى:
{مَنْ ذَا الَّذِي} مَن: اسمُ اسْتِفْهَامٍ بِمَعْنَى النَّفْيِ؛ أيْ: لاَ يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَ اللهِ إِلاَّ بإذنِهِ.
{ذَا}
هلْ تجْعَلُ {ذَا} اسْمًا مَوْصُولاً، أوْ لا يَصِحُّ أنْ تَكُونَ اسْمًا مَوْصُولاً هنا لِوُجُودِ الاسْمِ المَوْصُولِ (الذي) ؟
الثاني:
هوَ الأَقْرَبُ،
وإِنْ كَانَ بَعْضُ المُعْرِبِينَ قَالَ: يَجُوزُ أنْ تَكُونَ (الذي) تَوْكِيدًا لَهَا.
والصَّحِيحُ:
أنَّ {ذَا} هنا إِمَّا مُرَكَّبَةٌ مَعَ {مَنْ} أوْ زَائِدَةٌ للتَّوْكِيدِ، وأيًّا كانَ الإعْرَابُ فالمَعْنَى: أَنَّهُ لاَ أَحَدَ يَشْفَعُ عِنْدَ اللهِ إِلاَّ بإذْنِ اللهِ.
وسَبَقَ أنَّ النَّفْيَ إذا جَاءَ في سِياقِ الاسْتِفْهامِ فإنَّهُ يكونُ مُضَمَّنًا مَعْنَى التَّحَدِّي؛ أيْ: إذا كَانَ أَحَدٌ يَشْفَعُ بِغَيْرِ إذْنِ اللهِ فَأْتِ بهِ.
قولُهُ {عِنْدَهُ} ظَرْفُ مَكَانٍ، وهوَ سبحانَهُ في العُلُوِّ؛ فَلاَ يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ ولوْ كَانَ مُقَرَّبًا -كالمَلاَئِكَةِ المُقَرَّبِينَ- إلاَّ بإذْنِهِ الكَوْنِيِّ، والإذْنُ لاَ يكُونُ إِلاَّ بَعْدَ الرِّضَا.
وأَفَادَت الآيَةُ:
أنَّهُ يُشْتَرَطُ للشَّفَاعَةِ إذنُ اللهِ فيها لكَمَالِ سُلْطَانِهِ جَلَّ وعَلاَ، فإنَّهُ كُلَّمَا كَمُلَ سُلْطَانُ المَلِكِ فإنَّهُ لاَ أَحَدَ يَتَكَلَّمُ عِنْدَهُ ولوْ كَانَ بِخَيْرٍ إِلاَّ بَعْدَ إذْنِهِ، ولذلكَ يُعْتَبَرُ اللَّغَطُ في مَجْلِسِ الكَبِيرِ إِهَانَةً لهُ ودَلِيلاً علَى أنَّهُ ليسَ كَبِيرًا في نُفُوسِ مَنْ عندَهُ، وقد كانَ الصَّحَابَةُ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَأنَّما عَلَى رُءُوسِهم الطَّيْرُ مِن الوَقَارِ وعَدَمِ الكَلاَمِ، إلاَّ إذا فُتِحَ الكَلاَمُ فإنَّهم يَتَكَلَّمُونَ.
(5) قولُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ} {كم} خَبَرِيَّةٌ للتَّكْثيرِ، والمَعْنَى: مَا أَكْثَرَ المَلاَئِكَةَ الذينَ في السَّماءِ، ومَعَ ذلكَ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهم شيئًا إِلاَّ بَعْدَ إذنِ اللهِ ورِضَاهُ.
قولُهُ: {إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} .
فللشَّفَاعَةِ شَرْطَانِ هما:
-الإذْنُ مِن اللهِ:
لقولِهِ: {أَن يَأْذَنَ اللهُ} .
-ورِضَاهُ عن الشَّافِعِ والمَشْفُوعِ لهُ:
لقولِهِ: {وَيَرْضَى} وكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} فَلاَ بُدَّ مِنْ إذنِهِ تَعَالَى ورِضَاهُ عن الشَّافِعِ والمَشْفُوعِ لَهُ؛ إلاَّ في التَّخْفِيفِ عنْ أَبِي طَالِبٍ، وقَدْ سَبَقَ ذلكَ.
وهذه الآيَةُ في سِياقِ بَيانِ بُطْلاَنِ أُلُوهِيَّةِ اللاَّتِ والعُزَّى، قَالَ تَعَالَى بعدَ ذِكْرِ المِعْرَاجِ ومَا حَصَلَ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فيهِ: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} أي: العَلاَمَاتِ الدَّالَّةِ عليهِ عزَّ وجلَّ، فكيفَ بهِ سبحانَهُ؟
فهوَ أَكْبَرُ وأَعْظَمُ.
ثُمَّ قَالَ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} وهذا اسْتِفْهامٌ للتَّحْقِيرِ، فبعدَ أنْ ذَكَرَ اللهُ هذه العَظَمَةَ قَالَ: أَخْبِرُونِي عنْ هذه اللاَّتِ والعُزَّى مَا عَظَمَتُها؟
وهذا غايَةٌ في التَّحْقِيرِ،
ثُمَّ قَالَ: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنَزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِن رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الآخِرَةُ والأُولَى (25) وَكَمْ مِن مَلَكٍ} الآيَةَ.
فإذا كَانَت المَلاَئِكَةُ -وهيَ في السَّماواتِ فِي العُلُوِّ- لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُم إِلاَّ بعدَ إذْنِهِ تَعَالَى ورِضَاهُ، فكيفَ باللاَّتِ والعُزَّى وهيَ في الأرضِ؟!
ولهذا قَالَ: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ} مَعَ أنَّ المَلاَئِكَةَ تَكُونُ في السَّماواتِ وفي الأرضِ، ولكنْ أَرَادَ المَلاَئِكَةَ التي في السَّماواتِ العُلَى، وهيَ عندَ اللهِ سبحانَهُ، فحَتَّى المَلاَئِكَةُ المُقَرَّبونَ حَمَلَةُ العَرْشِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُم إِلاَّ مِنْ بعدِ أن يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ ويَرْضَى.
قولُهُ تَعَالَى:
{قُلِ ادْعُوا} الأمرُ في قولِهِ {ادْعُوا} للتَّحَدِّي والتَّعْجِيزِ، وقولُهُ: {ادْعُوا} يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ:
الأولى:
أَحْضِرُوهم.
الثاني:
ادْعُوهُم دُعَاءَ مَسْأَلَةٍ.
فلوْ دَعَوْهم دَعَاءَ مَسْأَلَةٍ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} .
ومعنى: {يَكْفُرُونَ} يَتَبَرَّءُونَ، ومَعَ هذه الآياتِ العَظَيمَةِ يَذْهَبُ بَعْضُ النَّاسِ يُشْرِكُ باللهِ ويَسْتَنْجِدُ بغَيْرِ اللهِ، وكذلكَ لوْ دَعَوْهم دُعَاءَ حُضُورٍ لَمْ يَحْضُرُوا، ولوْ حَضَروا مَا انْتَفَعُوا بِحُضُورِهم.
قولُهُ: {لاَ يَمْلِكُونَ مِثقَالَ ذَرَّةٍ} واحِدَةِ الذَّرِّ، وهيَ صِغَارُ النَّمْلِ، ويُضْرَبُ بِهَا المَثَلُ في القِلَّةِ.
قولُهُ: {مِثقَالَ ذَرَّةٍ} وكذلكَ مَا دونَ الذَّرَّةِ لاَ يَمْلِكُونَهُ، والمَقْصُودُ بذِكْرِ الذَّرَّةِ المُبَالَغَةُ، وإِذَا قُصِدَ المُبالَغَةُ بالشَّيْءِ قِلَّةً أوْ كَثْرَةً فَلاَ مَفْهُومَ لَهُ، فالمُرَادُ الحُكْمُ العَامُّ، فَمَثَلاً قولُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} أيْ: مَهْمَا بالَغْتَ في الاسْتِغْفَارِ.
ولاَ يُرَدُّ عَلَى هذا: أَنَّ اللهَ أَثْبَتَ مُلْكًا للإِنْسانِ؛ لأنَّ مُلْكَ الإنْسانِ قَاصِرٌ وغيرُ شاملٍ، ومُتَجَدِّدٌ وزائلٌ، وليسَ كمُلْكِ اللهِ.
قولُهُ: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} أيْ: مَا لِهَؤلاَءِ الذينَ تَدْعُونَ مِنْ دونِ اللهِ، {فيهما} أيْ: في السَّماواتِ والأرْضِ.
{مِنْ شِرْكٍ}
أيْ: مُشَارَكَةٍ، أيْ: لاَ يَمْلِكُونَهُ انْفِرَادًا ولاَ مُشَارَكَةً.
وقولُهُ: {مِنْ شِرْكٍ} مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ دَخَلَتْ عليهِ {مِنْ} الزَّائِدَةُ لَفْظًا لكنَّها للتَّوْكِيدِ مَعْنًى.
وكُلُّ زيادةٍ لَفْظِيَّةٍ في القُرْآنِ فَهِي زِيَادَةٌ في المَعْنَى
، وأَتَتْ {مِنْ} للمُبَالَغَةِ في النَّفْيِ، وأَنَّهُ ليسَ هناكَ شِرْكٌ لاَ قَلِيلٌ ولاَ كثيرٌ.
قولُهُ: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} الضَّمِيرُ في {ومَا لَهُ} يَعُودُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وفي {مِنْهُم} يَعُودُ إِلَى الأَصْنامِ؛ أيْ: مَا للهِ تَعَالَى مِنْ هذه الأصْنامِ ظهيرٌ.
و {مِنْ} حَرْفُ جرٍّ زائدٌ، و {ظهيرٍ} مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ بِمَعْنَى: مُعينٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} أيْ: مُعِينًا، وقَالَ تَعَالَى: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} أيْ: مُعينٌ.
أيْ: ليسَ للهِ مُعينٌ يُعِينُهُ في أَفْعَالِهِ، وبذلكَ يَنْتَفِي عنْ هذه الأصنامِ كلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بهِ العَابِدُونَ، فَهِي لاَ تَمْلِكُ شيئًا عَلَى سَبِيلِ الانْفِرَادِ وَلاَ المُشَارَكَةِ ولاَ الإِعَانَةِ؛ لأَِنَّ مَنْ يُعِينُكَ وإنْ كانَ غيرَ شَرِيكٍ لَكَ يَكُونُ لهُ مِنَّةٌ عَلَيْكَ، فَرُبَّمَا تُحَابِيهِ في إِعْطَائِهِ مَا يُرِيدُ.
فإذَا انْتَفَتْ هذه الأُمُورُ الثَّلاَثَةُ، لَمْ يَبْقَ إِلاَّ الشَّفَاعَةُ، وقَدْ أَبْطَلَها اللهُ بقولِهِ: {وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فَلاَ تَنْفَعُ عِنْدَ اللهِ الشَّفَاعَةُ لِهَؤلاِءِ؛ لأَِنَّ هذه الأَصْنامَ لاَ يَأْذَنُ اللهُ لِهَا، فانْقَطَعَتْ كُلُّ الوَسَائلِ والأَسْبابِ للمُشْرِكِينَ، وهذا مِنْ أَكْبرِ الآياتِ الدَّالَّةِ عَلَى بُطْلاَنِ عِبَادَةِ الأَصْنامِ؛ لأَِنَّها لاَ تَنْفَعُ عَابِدِيهَا، لاَ اسْتِقْلاَلاً ولاَ مُشَارَكةً، ولاَ مُسَاعَدَةً ولاَ شَفَاعَةً، فتَكُونُ عِبَادَتُها بَاطِلَةً، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} حَتَّى ولوْ كَانَ المَدْعُوُّ عَاقِلاً، لقولِهِ: {مَنْ} ولَمْ يَقُلْ: (مَا) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} .