وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عذابَ رَبِّكَ كَانَ مَحذُورًا} [الإِسْرَاء:57] .
وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإنَّهُ سَيَهدِيْنِ (27) وَجعلَها كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزُّخْرُف:26-28] .
وَقَوْلِهِ: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابنَ مَرْيَمَ ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لا إلهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التَّوْبَة:31] .
وَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ ءامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّه} [الْبَقَرَة:165] .
وَفِي (الصَّحِيحِ) عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (( مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ) ).
وَشَرْحُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مَا بَعْدَهَا مِنَ الأَبْوَابِ.
فِيهِ أَكْبَرُ الْمَسَائِلِ وَأَهَمُّهَا، وَهُوَ:
تَفْسِيرُ التَّوحِيدِ وَتَفْسِيرُ الشَّهَادَةِ، وَبَيَّنَهَا بِأُمُورٍ وَاضِحَةٍ:
مِنْهَا: آيَةُ الإِسْرَاءِ، بَيَّنَ فِيهَا الرَّدَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الصَّالِحِينَ، فَفِيهَا بَيَانُ أَنَّ هَذَا هُوَ الشِّرْكُ الأَكْبَرُ.
وَمِنْهَا: آيَةُ (بَرَاءةٌ) بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا إِلاَّ بِأَنْ يَعْبُدُوا إِلَهًا، وَاحِدًا مَعَ أَنَّ تَفْسِيرَهَا الَّذِي لاَ إِشْكَالَ فِيهِ طَاعَةُ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ فِي غَيْرِ الْمَعْصِيَةِ، لاَ دُعَاؤُهُمْ إِيَّاهُمْ.
وَمِنْهَا: قَوْلُ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- لِلْكُفَّارِ: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} فَاسْتَثْنَى مِنَ الْمَعْبُودِينَ رَبَّهُ.
وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذِهِ الْبَرَاءَةَ وَهَذِهِ الْمُوَالاَةَ هِيَ تَفْسِيرُ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ فَقَالَ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
وَمِنْهَا: آيَةُ الْبَقَرَةِ
فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} ذَكَرَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْدَادَهُمْ كَحُبِّ اللهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللهَ حُبًّا عَظِيمًا، وَلَمْ يُدْخِلْهُمْ فِي الإِسْلاَمِ، فَكَيْفَ بِمَنْ أَحَبَّ النِّدَّ أَكْبَرَ مِنْ حُبِّ اللهِ؟
فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يُحِبَّ إِلاَّ النِّدَّ وَحْدَهُ وَلَمْ يُحِبَّ اللهَ؟!
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ ) ).
وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يُبَيِّنُ مَعْنَى (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ التَّلَفُّظَ بِهَا عَاصِمًا لِلدَّمِ وَالْمَالِ، بَلْ وَلاَ مَعْرِفَةَ مَعْنَاهَا مَعَ لَفْظِهَا، بَلْ وَلاَ الإِقْرَارَ بِذَلِكَ، بَلْ وَلاَ كَوْنَهُ لاَ يَدْعُو إِلاَّ اللهَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، بَلْ لاَ يَحْرُمُ مَالُهُ وَدَمُهُ حَتَّى يُضِيفَ إِلَى ذَلِكَ الْكُفْرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، فَإِنْ شَكَّ أَوْ تَوَقَّفَ لَمْ يَحْرُمْ مَالُهُ وَدَمُهُ، فَيَا لَهَا مِنْ مَسْأَلَةٍ مَا أَعْظَمَهَا وَأَجَلَّهَا؟!
وَيَا لَهُ مِنْ بَيَانٍ! مَا أَوْضَحَهُ! وَحُجَّةٍ مَا أَقْطَعَهَا لِلْمُنَازِعِ؟!
(1) التفسيرُ في لسان العرب هو: الكشفُ والإيضاحُ، مأخوذٌ من قولِهم: فَسَرَتْ الثمرةُ قِشْرَها، ومنه تفسيرُ القرآنِ الكريمِ.
والتوحيدُ: تقدَّمَ تعريفُه، والمرادُ بِهِ هنا اعتقادُ أنَّ اللهَ واحِدٌ في ألوهِيَّتِهِ.
وقولُه: (وشهادةِ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ) معطوفٌ على التوحيدِ، أي: وتفسيرِ شهادةِ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ.
والعطفُ هنا من بابِ عطفِ المترادفيْن؛ لأنَّ التوحيدَ حقيقةً هو شهَادةُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ.
وهذا البابُ مُهمٌّ؛لأنه لَمَّا سبَقَ الكلامُ على التوحيدِ وفضلِهِ والدعوةِ إليه كأنَّ النفسَ الآن اشْرَأَبَّتْ إلى بيانِ ما هو هذا التوحيدُ الذي بُوِّبَ لَه هذه الأبوابُ؟ (وجوبُه، وفضلُه، والدعوةُ إليه) فيُجابُ بهذا البابِ، وهو تفسيرُ التوحيدِ، وقد ذكَرَ المؤلِّفُ خمسَ آياتٍ:
(2) قولُه تعالَى: {أُولَئِكَ} أُولاءِ مبتدأٌ، و {الَّذِينَ} بدلٌ منه، و {يَدْعُونَ} صلةُ الموصولِ، وجملةُ {يَبْتَغُونَ} خبرُ المبتدأِ، أي: هؤلاء الذين يَدْعُوهم هؤلاءِ هم أنْفُسُهم يبْتَغُون إلى ربِّهم الوسيلةَ أيُّهُم أقرَبُ، فكيْفَ تَدْعُونَهم، وهم محتاجون مُفْتَقِرُون؟!! فهذا سَفَهٌ في الحقيقةِ، وهذا ينْطَبِقُ على كلِّ مَن دُعِي وهو داعٍ، كعيسى ابنِ مريمَ، والملائكةِ، والأولياءِ، والصالحين.وأما الشجَرُ والحجرُ؛ فلا يَدْخُلُ في الآيةِ.
فهؤلاء الذين زَعَمْتُم أنّهم أولياءُ مِن دونِ اللهِ لا يملِكُون كشْفَ الضُّرِّ، ولا تحويلَه مِن مكانٍ إلى مكانٍ؛ لأنهم هم بأنفسِهم يَدْعُون يَبْتَغُون إلى ربِّهم الوسيلةَ أيُّهم أقربُ، وقد قالَ -تعالى- مُبَيِّنًا حالَ هؤلاء المدعُوِّين: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءَكُمْ، وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} .
قولُه: {يَدْعُونَ} أيْ: دعاءَ مسألةٍ، كمَن يَدْعو عليًّا عندَ وقوعِهِم في الشدائدِ، وكمَن يَدْعُو النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.
وقد يكونُ دعاءَ عبادةٍ،كمَن يَتَذَلَّلُ لهم بالتقرُّبِ والنذرِ والركوعِ والسجودِ.قولُه: {يَبْتَغُونَ} يَطْلُبونَ.
قولُه: {الوسيلَةَ} أيْ: الشيءَ الذي يُوصِلُهُم إلى اللهِ، يعني: يَطْلُبُونَ ما يكونُ وسيلةً إلى اللهِ -سبحانَه وتعالَى- أيُّهم أقربُ إلى اللهِ، وكذلِكَ - أيضًا: يَرْجُونَ رحْمَتَه، ويخافونَ عذابَه.
ووجهُ مناسبةِ الآيةِ للبابِ: (بابُ تفسيرِ التوحيدِ، وشهادةِ أن لا إلهَ إلا اللهُ)
أنَّ التوحيدَ يَتَضَمَّنُ البراءةَ من الشركِ، بحيثُ لا يَدْعُو مَعَ اللهِ أحدًا، لا مَلَكًا مقرَّبًا، ولا نبيًّا مُرْسَلاً، وهؤلاء الذين يَدْعُون الأنْبياءَ والملائِكَةَ لم يتبرَّؤُوا مِن الشركِ، بل هم واقعون فيه، ومِن العَجَبِ: أنَّهم يدعون مَن هم في حاجةٍ إلى ما يُقَرِّبُهُم إلى اللهِ -تعالى-، فهم غيرُ مُسْتَغْنِين عَن اللهِ بأنْفُسِهِم، فكيفَ يُغْنُون غَيْرَهم؟!.
(3) قولُه: {بَرَاءٌ} على وزنِ فَعَالٌ، وهي صِفةٌ مُشَبَّهَةٌ من التَّبَرُّءِ، وهو التَّخَلِّي أيْ: إنَّني متخَلٍّ غايةَ التخلِّي عمَّا تَعْبُدُونَ إلا الذي فَطَرَني.
وإبراهيمُ-عليه الصلاةُ والسلامُ- قويٌّ في ذاتِ اللهِ، فقالَ ذلك مُعْلِنًا بِهِ لأبيه وقومِه، وأبوهُ هو آزَرُ.
قولُه: {تَعْبُدُونَ} العبادةُ هنا: التذلُّلُ والخضوعُ؛ لأن في قومِه مَن يَعْبُدُ الأصنامَ.
-ومنهم: مَن يعبُدُ الشمسَ والقمرَ والكواكِبَ.
قولُه: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} جَمَعَ بينَ النفيِ والإثباتِ.
-فالنفيُ: {بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ} .
-والإثباتُ: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} فدلَّ على أنَّ التوحيدَ لا يَتِمُّ إلا بالكفرِ بما سِوَى اللهِ، والإيمانِ باللهِ وحدَه، {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} وهؤلاء يَعْبُدُون اللهَ، ويعبدون غيرَه؛ لأنَّه قالَ: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} والأصلُ في الاستثناءِ الاتِّصالُ إلا بدليلٍ، ومع ذلك تبرَّأَ منهم.وفي قولِ إبراهيمَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} ولم يقلْ: (إلا اللهُ) فائدتان:
الأولى: الإشارةُ إلى علَّةِ إفرادِ اللهِ بالعبادةِ؛لأنه كما أنه مُنْفَرِدٌ بالخلْقِ فيجِبُ أن يُفْرَدَ بالعبادةِ.
الثانيةُ:الإشارةُ إلى بُطلانِ عبادةِ الأصنامِ؛لأنَّها لم تَفْطُرْكم حتى تَعْبُدُوها، ففيها تعليلٌ للتوحيدِ الجامعِ بينَ النفيِ والإثباتِ، وهذه مِن البلاغةِ التامَّةِ في تعبيرِ إبراهيمَ عليه السلامُ.ويُستفادُ من الآيةِ: أنَّ التوحيدَ لا يَحْصُلُ بعبادةِ اللهِ مع غيرِه، بل لابدَّ مِن إخلاصِها للهِ، والناسُ في هذا المقامِ ثلاثةُ أقسامٍ:
الأول: قسمٌ يعبُدُ اللهَ وحدَه.
الثاني: وقسمٌ يعبُدُ غيرَه فقَط.
الثالث: وقسمٌ يعبُدُ اللهَ وغيرَه،والأوَّلُ فقط هو المُوَحِّدُ.
(4) قولُه: {أَحْبَارَهُمْ} والمعطوفُ عليها هو المفعولُ الأولُ لاتَّخَذوا، والمفعول الثاني: هو {أربابًا} أي: هؤلاء اليهودُ والنصَارَى صيَّروا أحبارَهم، ورُهْبانَهم أربابًا. والأحبارُ: جمعُ حَبْرٍ وهو العالِمُ،ويقالُ للعالِمِ أيضًا: بَحْرٌ؛ لكَثْرَةِ عِلْمِهِ.
والْحَبْرُ: بفتحِ الحاءِ، وكسرِها، يقالُ: حَبْرٌ، وحِبْرٌ.
قولُه: {وَرُهْبَانَهُمْ} أي: عُبَّادَهم.قولُه: {أربابًا} جمعُ ربٍّ، أيْ: يَجْعَلُونَهم أربابًا مِن دونِ اللهِ، فجعَلوا الأحبارَ أربابًا؛ لأنهم يأْتَمِرُون بأمرِهِم، في مخالفةِ أمرِ اللهِ، فيطيعُونَهم في معصيةِ اللهِ، وجَعَلُوا الرُّهْبانَ أرْبَابًا باتِّخاذِهِم أولياءَ يَعْبُدونهم مِن دونِ اللهِ.
قولُه: {مِنْ دُونِ اللهِ} أي: مِن غيرِ اللهِ.
قولُه: {والمسيحَ ابنَ مَرْيَمَ} معطوفٌ على أحبارهِم، أي: اتَّخذوا المسيحَ ابنَ مريمَ - أيضًا - رَبًّا حيثُ قالوا: إنه ثالثُ ثلاثةٍ.
قولُه: {إلا ليَعْبُدُوا} أي: يَتَذَلَّلُوا بالطاعةِ للهِ وحدَه، الذي خلَقَ المسيحَ والأحبارَ والرُّهْبانَ والسماواتِ والأرضَ.
قولُه: {لا إلهَ إلا هُو} أيْ: لا مَعْبُودَ حقٌّ إلا هو.
قولُه: {سُبْحَانَه} تنزيهُ اللهِ عمَّا يُشْرِكون.
ووجهُ كونِ هذه الآيةِ تَفسيرًا للتوحيدِ وشهادةِ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ:
أنَّ اللهَ أنْكَرَ عليهم اتِّخاذَ الأحبارِ والرُّهْبانِ أربابًا مِن دونِ اللهِ، وهذه الآيةُ سيأتي لها تَرْجَمةٌ كامِلةٌ في كلامِ المؤلِّفِ رَحِمَه اللهُ، فهؤلاءِ جعلوا الأحبارَ شُركاءَ في الطاعةِ، كُلَّمَا أُمِروا بشيءٍ أطاعوهُم، سواءٌ وافقَ أمرَ اللهِ أمْ لا.
إذًا: فتفسيرُ التوحيدِ -أيضًا- بلا إلهَ إلا اللهُ يستلزمُ أنْ تكونَ طاعتُك للهِ وحدَه، ولهذا على الرغمِ مِن تأكيدِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- لطاعةِ ولاةَ الأمرِ فقد قالَ: (( إِنَّمَا الطَّاعَةُ في المَعْرُوفِ ) ).
(5) قولُه: {أَندَادًا} جمعُ نِدٍّ، وهو الشبيهُ والنظيرُ، ولهذا قالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- لمن قالَ له: ما شاءَ اللهُ وشِئْتَ: (( أَجَعَلْتَني للهِ نِدًّا؟! بلْ ما شاءَ اللهُ وحدَهُ ) ).قولُه: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} هذا وجهُ المشابهةِ، أي: النِّدِّيةُ في المحبةِ، يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ.
(وحبُّ) مصدرٌ مضافٌ إلى المفعولِ، أي: جَعَلُوهم مُسَاوِين للهِ، واخْتَلَفَ المفسِّرون في قولِه: {كَحُبِّ اللهِ} .
فقيل:يجعلونَ محبَّةَ الأصنامِ مساويَةً لمحبَّةِ اللهِ،فيكونُ في قلوبِهم محبَّةٌ للهِ ومحبَّةٌ للأصنامِ، ويَجْعَلُون محبَّةَ الأصنامِ كمحبَّةِ اللهِ، فيكونُ المصدرُ مضافًا إلى مَفعولِه.وقيلَ:يُحبُّونَ هذه الأصنامَ كمحبةِ المؤمنين للهِ.وسياقُ الآيةِ يُؤَيِّدُ القول الأوَّلَ.
قولُه: {وَالَّذِينَ آمَنواْ أَشَدُّ حُبًّا للهِ} على القول الأولِ يكونُ معناها: والذينَ آمنوا أشدُّ حبًّا للهِ مِن هؤلاء للهِ؛ لأنّ محبةَ المؤمنينَ خالصةٌ، ومحبةَ هؤلاءِ فيها شِرْكٌ بينَ اللهِ وبينَ أصنامِهم.
وعلى القول الثاني معناها:والذين آمَنُوا أشدُّ حُبًّا للهِ مِن هؤلاء لأصنامِهِم؛لأنَّ محبَّةَ المؤمنين ثابِتَةٌ في السَّرَّاءِ والضرَّاءِ على برهانٍ صحيحٍ، بخلافِ المشركين فإنَّ محبَّتَهم لأصنامِهِم تتضاءَلُ إذا مسَّهُم الضُّرُّ.
فما بالُكَ بِرَجُلٍ يحبُّ غيرَ اللهِ أكثرَ مِن محبَّتِهِ للهِ؟وما بالُك برجُلٍ يحبُّ غيرَ اللهِ ولا يُحِبُّ اللهَ؟
فهذا أقبحُ وأعظمُ، وهذا موجودٌ في كثيرٍ من المُنْتَسِبِين للإسلامِ اليومَ؛ فإنَّهم يُحِبُّون أولياءهم أكثرَ ممَّا يُحِبُّون اللهَ، ولهذا لو قيلَ لَه: احْلِفْ باللهِ، حلَفَ صادِقًا أو كاذبًا، أما الوليُّ فلا يحلِفُ بِهِ إلا صادقًا.
وتجدُ كثيرًا مِنهم يَأْتُون إلى مكَّةَ والمدينةِ؛ويَرَوْن أن زيارةَ قبرِ الرسولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أعظمُ مِن زيارةِ البيتِ؛ لأنّهم يَجِدُون في نفوسِهِم حبًّا لرسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- كحبِّ اللهِ أو أعظمَ، وهذا شركٌ؛ لأنّ اللهَ يعْلَمُ أننا ما أحْبَبْنَا رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- إلا لحبِّ اللهِ؛ فهو رسولُه، ما أحْبَبْنَاه لأنه محمدُ بنُ عبدِ اللهِ، لكننا أحْبَبْنَاه؛ لأنه رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فنحنُ نُحِبُّه بمحبَّةِ اللهِ، لكنْ هؤلاء يجعلونَ محبةَ اللهِ تابِعةً لمحبَّةِ الرسولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- إنْ أحَبُّوا اللهَ.فهذه الآيةُ فيها محنةٌ عظيمةٌ لكثيرٍ مِن قلوبِ المسلمين اليومَ، الذين يَجْعَلُونَ غيرَ اللهِ مِثْلَ اللهِ في المحبَّةِ.وفيه أناسٌ -أيضًا- أَشْرَكُوا باللهِ في مَحَبَّةِ غيرِه، لا على وجهِ العبادةِ الشرعيَّةِ لكن على وجهِ العبادةِ المذكُورةِ في الحديثِ، وهي محبَّةُ الدِّرهمِ والدينارِ والخَمِيصَةِ والخَمِيلَةِ، يُوجَدُ أُنَاسٌ لو فَتَّشْتَ عن قُلوبِهِم لوجَدتَ قلوبَهم مَلأى مِن مَحَبَّةِ متَاعِ الدُّنيا، وحتَّى هذا الذي جاءَ يُصَلِّي، هو في المسجدِ، لكن قَلْبُه مشْغولٌ بما يُحِبُّه مِن أمورِ الدنيا.فهذا نوعٌ من أنواعِ العبادةِ في الحقيقةِ.
قالَ ابنُ القيِّمِ -رحِمَه اللهُ-: (كلُّ الأمورِ تَسيرُ بالمَحَبَّةِ، فأنت مثلاً لا تَتَحَرَّكُ لشيءٍ إلا وأنتَ تُحِبُّه؛ حتى اللُّقْمَةِ مِن الطعامِ، لا تأْكُلُها إلا لمحبَّتِكَ لها) .ولهذا قيلَ:إنَّ جميعَ الحركاتِ مَبْنَاها علَى المحبَّةِ، فالمحبَّةُ أساسُ العَمَلِ، فالإشْراكُ بالمحبَّةِ إِشراكٌ باللهِ.
والمحبَّةُ أنواعٌ:
الأوَّلُ: المحبةُ للهِ، وهذه لا تُنَافِي التوحيدَ، بل هِي مِن كمالِهِ، فأَوْثَقُ عُرَى الإيمانِ: الحبُّ في اللهِ، والبُغضُ في اللهِ.
والمحبَّةُ للهِ هي:أنْ تُحِبَّ هذا الشيءَ؛ لأنَّ اللهَ يُحِبُّه، سواءٌ كانَ شَخْصًا، أو عَمَلاً،وهذا مِن تمامِ التوحيدِ.
الثاني: المحبةُ الطبيعيَّةُ التي لا يُؤْثِرُها المرءُ على محبةِ اللهِ، فهذه لا تُنَافِي محبَّةَ اللهِ، كمحبَّةِ الزوجةِ، والولدِ، والمالِ، ولهذا لما سُئل النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أحبُّ الناسِ إليكَ؟ قالَ:(( عائِشَةُ ) ).قيلَ: فَمِنَ الرِّجالِ؟قال: (( أَبُوها ) ).
ومِن ذلك:محبةُ الطعامِ، واللِّباسِ.
الثالثُ: المحبةُ مع اللهِ التي تُنَافى محبةَ اللهِ،وهي: أن تكونَ محبةُ غيرِ اللهِ كمحبةِ اللهِ، أو أكثرَ من محبةِ اللهِ، بحيثُ إذا تَعَارَضَتْ محبةُ اللهِ ومحبةُ غيرِه قَدَّمَ محبةَ غيرِ اللهِ؛ وذلك إذا جَعَلَ هذه المحبَّةَ نِدًّا للهِ يُقَدِّمُها على محبَّةِ اللهِ، أو يُسَاويها بها.الشاهِدُ مِن هذه الآيةِ: أنَّ اللهَ جعَلَ هؤلاء الذين ساوَوْا محبَّةَ اللهِ بمحبةِ غيرِه مُشْرِكِينَ جاعِلِينَ للهِ أنْدَادًا.
(6) قولُه: (مَن قالَ لا إلهَ إلا اللهُ) أي: لا معبودَ حقٌّ إلا اللهُ، فلفْظُ الجلالةِ بَدَلٌ مِن الضميرِ المسْتَتِرِ في الخَبَرِ، ومَن يَرَى أنَّ (لا) تَعْمَلُ في المعْرِفَةِ يقولون: (اللهُ) خبرٌ مِثْلَ: {إِنَّما اللهُ إلهٌ واحِدٌ} قولُه: (وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ) هذا دليلٌ على أنَّه لا يكفي مجرَّدُ التلَفُّظِ بلا إلهَ إلا اللهُ، بلْ لا بدَّ أنْ تَكْفُرَ بعبادةِ مَن يُعبدُ مِن دونِ اللهِ، بلْ وتَكْفُرُ - أيضًا - بكلِّ كُفْرٍ.
-فمَن يقولُ: لا إلهَ إلا اللهُ ويرَى أنَّ النصارَى واليهودَ اليومَ على دينٍ صحيحٍ فليسَ بمسلِمٍ.
-ومَن يرَى الأديانَ أفكارًا يَخْتارُ منها ما يريدُ فليسَ بمسلِمٍ، بلْ الأديانُ عقائِدُ مرسومةٌ مِنْ قِبَلِ اللهِ عزَّ وجلَّ، يتَمَشَّى الناسُ عليها، ولهذا يُنكَرُ على بعضِ الناسِ في تعبيرِهِ بقولِه: (الفِكرُ الإسلاميُّ، بل الواجبُ أنْ يقالَ: الدِّينُ الإسلاميُّ، أو العقيدةُ الإسلاميَّةُ، ولا بأسَ بقولِ المفكِّرِ الإسلاميِّ؛ لأنه وَصْفٌ للشخْصِ نَفْسِه، لا للدِّينِ الذي هو عليه) .[قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في (الدرر السنية) (2/243 ـ 244) : (وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم:(( وكفر بما يعبد من دون الله ) )فهذا: شرط عظيم، لا يصح قول: لا إله إلا الله إلا بوجوده، وإن لم يوجد لم يكن من قال لا إله إلا الله معصوم الدم والمال؛ لأن هذا هو معنى لا إله إلا الله؛ فلم ينفعه القول بدون الإتيان بالمعنى الذي دلت عليه؛ من ترك الشرك والبراءة منه وممن فعله.
فإذا أنكر عبادة كل ما يعبد من دون الله، وتبرأ منه، وعادى من فعل ذلك؛ صار مسلماً، معصوم الدم والمال.
-وهذا معنى قوله تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميعُ عليم} .
وقد قيدت (لا إله إلا الله) في الأحاديث الصحيحة بقيود ثقال، لا بد من الإتيان بجميعها، قولاً واعتقاداً وعملاً، فمن ذلك حديث عتبان الذي في (الصحيح) :
- (( فإن الله حرّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ) ).
-وفي الحديث الآخر: (( صدقاً من قلبه ) ).
- (( خالصاً من قلبه ) ).
- (( مستيقناً بها قلبه ) )غير شاك، فلا تنفع هذه الكلمة قائلها إلا بهذه القيود إذا اجتمعت له، مع العلم بمعناها ومضمونها، كما قال تعالى: {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} فمعناها يقبل الزيادة، لقوة العلم، وصلاح العمل) ]
(7) قولُه: (وشرْحُ هذه الترجمةِ) المرادُ بالشرحِ هنا: التفصيلُ.
و (الترجمةُ) هي التعبيرُ بلغةٍ عن لغةٍ أُخْرى، ولكنَّها تُطْلَقُ باصْطِلاحِ المؤلِّفين على العناوينِ، والأبوابِ، فيقالُ: تَرْجَمَ على كذا، أيْ: بَوَّبَ لهُ.
(8) قولُه: (فيهِ أكبرُ المسائِلِ وأهمُّها، وهيَ تفسيرُ التوحيدِ) فتفسيرُ التوحيدِ لا بدَّ فيه من أمرَيْنِ:
الأولُ: البراءةُ ممَّا سِوَى اللهِ عزَّ وجلَّ،والكُفرُ بغيرِهِ.
الثاني: إثباتُ الألوهيَّةِ للهِ وحدَه، فلا بدَّ مِن النَّفْيِ والإثباتِ لتحقيقِ التوحيدِ؛ لأنَّ التوحيدَ جَعْلُ الشيءِ واحِدًا بالعقيدةِ والعَمَلِ، وهذا لا بدَّ فيه مِن النفيِ والإثباتِ.
(9) قولُه: (وتفسيرُ الشهادةِ) الشهادةُ: هي التعبيرُ عمَّا تَيَقَّنَه الإنسانُ بقلْبِهِ. فقولُ: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، أيْ: أَنْطِقُ بِلِساني معبِّرًا عمَّا يُكِنُّه قَلْبي مِن اليقينِ، وهو أنَّه لا إِلهَ إلا اللهُ.
(10) قولُه: (منها: آيةُ الإسراء) وهي قولُه تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} الآيةَ، فبيَّن فيها الردَّ على المشركين الذين يَدْعُون الصالِحِين، وبيَّنَ أنَّ هذا هو الشِّركُ الأكْبَرُ؛ لأنَّ الدُّعاءَ مِن العبادةِ، قالَ تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} فدَلَّ على أنَّ الدعاءَ عِبادةٌ؛ لأنّ آخِرَ الكلامِ تعليلٌ لأوَّلِهِ، فكلُّ مَن دَعا أحدًا غيرَ اللهِ حيًّا أو ميِّتًا فهو مُشْرِكٌ شِرْكًا أكْبَرَ.
والدعاءُ ينقسِمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
الأوَّلُ:جائِزٌ،وهو أنْ تَدْعُوَ مخلوقًا بأمرٍ مِن الأمورِ التي يمكنُ أن يُدْرِكَهَا بأشياءَ محسوسةٍ معلومَةٍ، فهذا ليس من دعاءِ العبادةِ، بل هو مِن الأمورِ الجائِزَةِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (( وَإِذا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ ) ).
الثاني: أنْ تَدْعُوَ مخلوقًا مُطْلَقًا،سواءٌ كانَ حيًّا أو ميِّتًا فيما لا يَقْدِرُ عليه إلا اللهُ، فهذا شِركٌ أَكْبَرُ؛ لأنَّكَ جَعَلْتَه نِدًّا للهِ فيما لا يقْدِرُ عليه إلا اللهُ، مِثْلَ: يا فلانُ، اجْعَلْ ما في بَطْنِ امْرَأتي ذَكَرًا.
الثالثُ: أنْ تدعوَ مَخْلُوقًا ميِّتًا لا يُجِيبُ بالوسائِلِ الحِسِّيَّةِ المعلومَةِ،فهذا شِرْكٌ أكبرُ أيضًا؛ لأنه لا يَدْعُو مَن كانَ هذه حالَه حتى يعْتَقِدَ أنَّ له تَصَرُّفًا خَفِيًّا في الكونِ.
(11) قولُه: (ومِنها آيةُ(براءَةٌ) ، بيَّنَ أنَّ أهلَ الكتابِ اتَّخَذُوا أحبَارَهُم ورُهْبَانَهُم أربابًا مِن دونِ اللهِ) وهذا شِرْكُ الطاعةِ، وهو بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ ألصقُ من توحيدِ الألوهيَّةِ؛ لأنَّ الحكمَ -شرعِيًّا كانَ أو كونيًّا- إلى اللهِ تعالى، فَهو من تمامِ رُبُوبِيَّتِهِ:
-قالَ تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ} .
-وقالَ تعالى: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
والشيخُ-رحِمَه اللهُ- جَعَلَ شِرْكَ الطاعةِ مِنَ الأكْبَرِ، وهذا فيه تَفْصِيلٌ، وسيأتي -إنْ شاءَ اللهُ- في بابِ مَن أطاعَ الأمراءَ والعلماءَ في تحليلِ ما حَرَّمَ اللهُ، أو بالعكسِ.
(12) قولُه: (ومنها: قولُ الخليلِ - عليه السلامُ - للكفارِ: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ(26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} فاسْتَثْنَى من المعبودين ربَّه) فدَلَّ هذا على أن التوحيدَ لا بدَّ فيه من نفيٍ وإثباتٍ؛ بالبراءةِ مما سوى اللهِ، وإخلاصِ العبادةِ للهِ وحدَه.