31)الثالثةُ: (ثناؤُه - سبحانَه - على إبراهيمَ بكونهِ لم يكُ مِن المشركين) وهو ظاهِرٌ في الآيةِ الكريمةِ، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً للهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فإنَّ هذه الآيةَ لا شكَّ أنَّها سِيقَت للثناءِ على إبراهيمَ عليه الصلاةُ والسلامُ، وإذا كان مَناطُ الثناءِ انتفاءَ الشِّركِ عنه دلَّ ذلك على أنَّ كلَّ مَن انْتَفَى عنه الشِّركُ فهو مَحَلُّ ثناءٍ مِن اللهِ سبحانَه وتعالى.
(32) الرابعةُ: (ثناؤُه على ساداتِ الأولياءِ بسلامتِهِم من الشِّركِ) لقولِه تعالى: {وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ} وهذه الآيةُ في سياقِ آياتٍ كثيرةٍ، ابْتَدَأَهَا اللهُ بقولِه: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} .
فهؤلاء هم ساداتُ الأولياءِ، وكلامُ المؤلِّفِ مِن بابِ إضافةِ الصفةِ إلى موصوفِها، أيْ: أولياءُ الساداتِ وليسَ يريدُ -رحِمَه اللهُ- الساداتِ من الأولياءِ، بل يريدُ الأولياءَ الذينَ هُم ساداتُ الخلقِ.
(33) الخامسةُ: (كونُ تركِ الرُّقْيَةِ والكيِّ من تحقيقِ التوحيدِ) لقولِه: (( الذينَ لا يَسْتَرْقُونَ، ولا يكْتَوون ) )فالمرادُ بقولِ المؤلِّفِ: (الرُّقْيَةُ والكيُّ) الاسْتِرْقاءُ والاكْتِواءُ.
(34) السادسةُ: (كونُ الجامعِ لتلك الخصالِ هو التوكُّلَ) الخصالُ هي تَركُ الاسترقاءِ، وتركُ الاكتواءِ، وتركُ التطيُّرِ، يعني: أنَّ الجامعَ لهذه الأشياءِ هُو قوةُ التوكُّلِ على اللهِ عزَّ وجلَّ.
(35) السابعةُ: (عُمقُ علمِ الصحابةِ، لمَعْرِفَةِ أنَّهم لم ينالوا ذلك إلا بعملٍ) أي: لم يَنَلْ هؤلاء السبعون ألفاً هذا الثوابَ إلا بعملٍ.
ووجهُه: أنَّ الصحابَةَ خاضوا فيمَن يكونُ له هذا الثَّوابُ العظيمُ، وذَكَرُوا أشياءَ.
(36) الثامنةُ: (حِرصُهم على الخيرِ) وجهُه: خوضُهم في هذا الشيءِ؛ لأنَّهم يُرِيدون أن يصِلُوا إلى نتيجةٍ؛ حتَّى يقوموا بها.
(37) التاسعةُ: (فضيلةُ هذه الأُمَّةِ بالكميَّةِ والكيفيَّةِ) :
أمَّا الكَميَّةُ: فلأنَّ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ
-رأى سواداً عظيماً أعظَمَ مِن السوادِ الذي كانَ مَع موسى.
وأمَّا الكيفيَّةُ: فلأنَّ معهم هؤلاء الذين لا يَسْتَرْقُون ولا يكْتَوونَ
ولا يتطيَّرون وعلى ربِّهم يتوكَّلُونَ.
(38) العاشِرةُ: (فضيلةُ أصحابِ موسى) وهو مأخوذٌ من قولِه: (( إذ رُفِعَ لي سوادٌ عظيمٌ ) )ولكن قد يقالُ: إنَّ التعبيرَ بقولِ: كثرةِ أتباعِ موسى أنسبُ لدلالةِ الحديثِ؛ لأن الحديثَ يقولُ: (( سَوادٌ عظيمٌ، فَظننتُ أنّهم أُمَّتي ) )وهذا يدلُّ على الكثرةِ، ويمكنُ أن تكون كثرة من آمن منهم فضيلتهم فيتوجه ما ذكره إمام الدعوة.
(39) الحاديةَ عشرةَ: (عرضُ الأممِ عليه، عليه الصلاةُ والسلامُ) وهذا له فائدتان:الفائدةُ الأولى:تسليةُ الرسولِ -عليه الصلاةُ والسلامُ-
حيثُ رأَى مِن الأنبياءِ مَن ليس معه إلا الرجلُ والرجلان، ومِن الأنبياءِ مَن ليس معه أحدٌ، فَيَتَسَلَّى بذلك - عليه الصلاةُ والسلامُ -ويقولُ: {مَا كُنتُ بِدَعاً مِّنَ الرُّسُلِ} .
الفائدةُ الثانيةُ: بيانُ فضيلتِه عليه الصلاةُ والسلامُ،
وشرفِه حيثُ كانَ أكثرَهم أتباعاً وأفضلَهم، فصارَ في عَرْضِ الأممِ عليه هاتان الفائدتانِ.
(40) الثانيةَ عشرةَ: (أنَّ كلَّ أمَّةٍ تُحْشَرُ وَحْدَهَا مع نبيِّها) لقولِه: (( رأيْتُ النبيَّ ومَعَه الرجلُ والرجلان ) )ولولا أنَّ كلَّ نبيٍّ متمَيِّزٌ عن النبيِّ الآخرِ لاخْتَلَطَ بعضُهم ببعضٍ، ولم يُعْرَف الأتباعُ مِن غيرِ الأتباعِ، ويدُلُّ لذلك قولُه تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} فإنه يدُلُّ على أنَّ كلَّ أمةٍ تكونُ وحدَها.
(41) الثالثةَ عشرةَ: (قِلةُ مَن استجابَ للأنبياءِ) وهو واضِحٌ من قولِه: (( والنبيَّ ومَعه الرجلُ والرجلانِ، والنبيَّ ولَيس معه أحدٌ ) ).
(42) الرابعةَ عشرةَ: (أنَّ مَن لم يُجِبْه أحدٌ يَأْتي وحدَه) لقولِه: (( والنَّبيَّ ولَيس معه أحدٌ ) ).
(43) الخامسةَ عشرةَ: (مرةُ هذا العلمِ، وهو عدمُ الاغترارِ بالكثرةِ)
فإنَّ الكثرةَ قد تكونُ ضلالاً، قالَ اللهُ تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ} .وأيضاً الكثرةُ مِن جهةٍ أخرى إذا اغْتَرَّ الإنسانُ بكثرتِه؛ وظنَّ أنَّه لن يُغْلَبَ أو أنه منصورٌ؛ فهذا أيضاً سببٌ للخِذلانِ، فالكثرةُ إنْ نظرْنَا إلى أنَّ أكثرَ أهلِ الأرضِ ضُلاَّلٌ لا تَغْتَرَّ بِهِم، فلا تَقُلْ: إنَّ الناسَ على هذا، كيف أنْفَرِدُ عنهم؟
كذلك:أيضاً لا تغترَّ بالكثرةِ، إذا كانَ معك أتباعٌ كثيرون على الحقِّ، فكلامُ المؤلِّفِ له وجهان:
الوجهُ الأولُ:أن لا نَغْتَرَّ بكثرةِ الهالكين، فنَهْلِكَ معهم.
الوجهُ الثاني: أنّ لا نَغْتَرَّ بكثرةِ الناجِين،فيَلْحَقَنَا الإعجابُ بالنفسِ، ينبغي أن يحذر المرء من الزُّهدِ في القِلَّةِ، فقد تكونُ القلَّةُ خيراً مِن الكثرةِ.
(44) السادسةَ عشرةَ: (الرُّخصةُ في الرقيةِ مِن العينِ والحُمَةِ) مأخوذةٌ من قولِه: (( لا رُقيْةَ إلا مِن عينٍ أو حُمَةٍ ) ).
(45) السابعةَ عشرةَ: (عُمقُ علمِ السلفِ لقولِه:(قدْ أَحْسَنَ مَن انتَهى إلى ما سَمِعَ، ولكن كذا وكذا) فعُلِمَ أنَّ الحديثَ الأولَ لا يخالِفُ الثانِيَ) لأنَّ قولَه: (( لا رُقْيَةَ إلا من عينٍ أو حُمَةٍ ) )لا يُخالِفُ الثانيَ؛ لأنَّ الثانيَ إنَّما هو في الاسْتِرْقاءِ، والأولُ في الرُّقْيَةِ، فالإنسانُ إذا أَتاه مَن يَرْقِيه ولم يمنَعْه فإنَّه لا يُنافي قولَه: (( ولا يَسْتَرْقون ) )لأنَّ هناك ثلاثَ مراتِبَ:
المرتبةُ الأولى: أنْ يَطْلُبَ مَن يرْقِيه،وهذا قد فاتَه الكمالُ.
المرتبةُ الثانيةُ: أنْ لا يَمْنَعَ مَن يَرقيه، وهذا لم يفتْه الكمالُ؛ لأنَّه لم يَسْتَرْقِ ولم يَطْلُبْ.
المرتبةُ الثالثةُ: أنْ يمنعَ مَن يرْقِيَه،وهذا خِلافُ السُّنَّةِ؛ فإنَّ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يَمْنَعْ عائِشَةَ أن تَرْقِيَه، وكذلك الصحابةُ لم يَمْنَعُوا أحداً أنْ يرْقِيَهُم؛ لأنَّ هذا لا يُؤثِّرُ في التَّوَكُّلِ.
(46) الثامنةَ عشرةَ: (بُعْدُ السلَفِ عن مدحِ الإنسانِ بما ليس فيه) يُؤْخَذُ مِن قولِه: (أمَا إنِّي لم أكنْ في صلاةٍ، ولكنِّي لُدِغْتُ) لأنَّه إذا كانَ رأَى الكوْكَبَ الذي انْقَضَّ استلْزَمَ أنْ يكونَ يَقْظَانَ، واليَقْظَانُ إمَّا أنْ يُصَلِّيَ، وإما أن يكونَ له شُغُلٌ آخرُ، وإمَّا أنْ يكونَ لديه مانِعٌ مِن النومِ.
(47) التاسعةَ عشرةَ: (قولُه:(( أنتَ منهم ) )عَلَمٌ مِن أعلامِ النبوَّةِ) يعني: دليلاً على نبوَّةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، ولأن عُكَّاشَةَ بنَ مِحْصَنٍ - رضِيَ اللهُ عنه - بقِيَ مَحروساً من الكُفرِ حتى ماتَ على الإسلامِ، فيكونُ هذا دليلاً مِن دلائلِ نبوةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، هذا إذا قلنا: إنَّ الجملةَ خبريَّةٌ ليست جملةً دعائيَّةً.
فإنْ قلنا:إنَّها جملةٌ دعائيَّةٌ فقد نقولُ أيضاً: فيه عَلَمٌ من أعلامِ النبوةِ، وهو أنَّ اللهَ استجابَ دعْوَةَ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، لكنَّ استجابةَ الدعوةِ ليست مِن خصائِصِ الأنْبياءِ؛ فقد تُجابُ دعوةُ مَن ليسَ بنبيٍّ، وحينئذٍ لا يمكنُ أنْ تكونَ عَلَماً من أعلامِ النبوَّةِ إلا حيث جعَلْنا الجملةَ خبريَّةً مَحْضَةً.
(48) العشرون: (فضيلةُ عُكَّاشَةَ) بكونِه ممَّن يدخلونَ الجنَّة بغيرِ حسابٍ ولا عذابٍ، وهل نَشْهَدُ له بذلكَ؟
نعم؛ لأن الرسولَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شهِدَ له بها.
(49) الحاديةُ والعشرون: (استعمالُ المعارِيضِ) وفي المعاريضِ مَنْدُوحةٌ عَن الكذبِ؛ وذلك لقولِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (( سَبقَكَ بها عُكَّاشَةَ ) )فإنَّ هذا في الحقيقةِ ليس هو المانِعَ الحقيقيَّ، بل المانِعُ ما أشَرْنَا إليه في الشَّرحِ، إمَّا أن يكونَ هذا الرجلُ منافِقاً، فلَم يُرِد النبَّيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أن يجعَلَه مع الذين يَدْخُلُونَ الجنَّةَ بغيرِ حسابٍ ولا عذابٍ، وإمَّا خوفاً مِن انْفِتَاحِ البابِ فيسألُ هذه المرتَبَةَ مَن ليسَ مِن أهلِها.
(50) الثانيةُ والعشرون: (حُسْنُ خُلُقِه صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ) وذلك لأنَّه ردَّ هذا الرجلَ، وسدَّ البابَ على وجهٍ ليس فيه غَضاضةٌ على أحدٍ، ولا كراهَةٌ.