أنْ يستخدمَهُم في أمورٍ مُحَرَّمةٍ،
كنهبِ أموالِ الناسِ وترويعِهم، وما أشبَهَ ذلِكَ، فهذا مُحَرَّمٌ، ثُمَّ إنْ كانَت الوسيلةُ شِرْكًا صارَ شِرْكًا، وإنْ كانَتْ وسيلَتُهُ غيرَ شركٍ صارَ معصيةً، كما لوْ كانَ هذا الجنِّيُّ الفاسقُ يَأْلَفُ هذا الإنسيَّ الفاسقَ، ويتعاونُ معهُ على الإثمِ والعُدْوَانِ، فهذا يكونُ إثمًا وعدوانًا، ولا يصلُ إلى حدِّ الشِّركِ.
ثُمَّ قالَ: إنَّ مَنْ يسألُ الجنَّ، أوْ يسألُ مَنْ يسألُ الجنَّ، ويُصَدِّقُهم في كلِّ ما يقولونَ، فهذا معصيةٌ وكفْرٌ.
والطَّريقُ للحِفْظِ من الجنِّ هوَ قراءةُ آيةِ الكُرْسِيِّ،
فمَنْ قرَأَها في ليلةٍ لمْ يَزَلْ عليهِ مِن اللهِ حافظٌ، ولا يقْرَبُهُ شيطانٌ حتَّى يُصْبِحَ، كما ثبتَ ذلِكَ عنهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، وهيَ: { اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } الآيةَ.
قولُهُ:
(( يَكْتُبُونَ أَبَاجَادٍ وَيَنْظُرونَ فِي النُّجومِ ) )الواوُ هنا لَيْسَتْ عطفًا، ولكنَّها للحالِ، يعني: والحالُ أنَّهم ينظرونَ فيرْبِطُونَ ما يكتبونَ بسَيْرِ النجومِ وحرَكَتِها.
قولُهُ:
(( ما أُرَى مَنْ فَعَلَ ذلِكَ ) )ويجوزُ فتح الهمزةِ بمعنى: أعلَمُ، وبالضمِّ بمعنى: ما أظُنُّ.
وقولُهُ: (( أَبَاجَادٍ ) )هيَ: أَبْجَدْ هَوَّزْ حُطِّي كَلَمَنْ سَعْفَصْ قَرَشَتْ ثَخِذٌ ضَظِغ....
وتعلُّمُ (أَبَاجَادٍ) ينقسمُ إلى قسميْنِ:
الأوَّلُ:
تعلُّمٌ مباحٌ بأنْ نتَعَلَّمَها لحسابِ الجُمَلِ وما أشَبْهَ ذلِكَ
، فهذا لا بأسَ بهِ، وما زالَ أناسٌ يستعْمِلُونَها، حتَّى العلماءُ يُؤَرِّخُونَ بِها، ولم يُرِد ابنُ عبَّاسٍ هذا القسمَ.
الثاني:
مُحَرَّمٌ، وهو كتابةُ (أَبَاجَادٍ) كتابةً مربوطةً بسَيْرِ النجومِ وحركتِها وطلوعِها وغروبِها، وينظرونَ في النجومِ؛ ليسْتَدِلُّوا بالموافقةِ أو المخالفةِ على ما سيحْدُثُ في الأرضِ، إمَّا على سبيلِ العمومِ كالجَدْبِ والمرضِ والحربِ وما أشْبَهَ ذلكَ، أوْ على سبيلِ الخصوصِ، كأنْ يقولَ لشخصٍ: سيحدثُ لكَ مرضٌ أوْ فقرٌ أوْ سعادةٌ أوْ نحسٌ في هذا، وما أشْبَهَ ذلِكَ.
فهم يرْبِطُونَ هذهِ بهذهِ، ولَيْسَ هناكَ عَلاقةٌ بينَ حركاتِ النجومِ واختلافِ الوقائعِ في الأرضِ.
وقولُهُ: (( ما أُرَى مَنْ فَعَلَ ذلِكَ لَهُ عِنْدَ اللهِ مِنْ خَلاقٍ ) )قولُهُ: (( خلاقٍ ) )أيْ: نصيبٍ.
ظاهرُ كلامِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّهُ يرى كُفْرَهم؛ لأنَّ الذي لَيْسَ لهُ نصيبٌ عِنْدَ اللهِ هوَ الكافرُ؛ إذْ لا يُنْفَى النصيبُ مُطْلَقًا عَنْ أحدٍ من المؤمنينَ.
وإنْ كانَ لهُ ذنوبٌ عُذِّبَ بقَدْرِ ذنوبِهِ، أوْ تَجَاوَزَ اللهُ عنها، ثُمَّ صارَ آخِرَ أمْرِهِ إلى نصيبِهِ الذي يجدُهُ عندَ اللهِ.
ولم يُبيِّن المؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ حُكْمَ الكاهنِ والمنجِّمِ والرَّمَّالِ مِنْ حيثُ العقوبةُ في الدُّنْيا، وذلكَ أنَّنا إنْ حكَمْنا بكُفْرِهِم، فحُكْمُهم في الدُّنْيا أنَّهُم يُسْتَتَابُونَ، فإنْ تَابُوا وإلاَّ قُتِلُوا كُفَّارًا.
وإنْ حكَمْنا بعدمِ كفرِهِم،
إمَّا لكونِ السحرِ لا يصلُ إلى الكفرِ، أوْ قُلْنا: إنَّهم لا يكْفُرونَ؛ لأنَّ المسألةَ فيها خلافٌ، فإنَّهُ يجبُ قتْلُهم لدفعِ مفسدتِهم ومضَرَّتِهم، حتَّى وإنْ قُلْنا بعدمِ كُفْرِهِم؛ لأنَّ أسبابَ القتلِ ليسَتْ مُخْتَصَّةً بالكفرِ فَقَطْ.
والنظرُ في النجومِ ينقسمُ إلى أقسامٍ:
الأوَّلُ:
أنْ يُسْتَدَلَّ بحركاتِها وسيْرِها على الحوادثِ الأرضيَّةِ،
سواءٌ كانَتْ عامَّةً أوْ خاصَّةً، فهوَ إن اعتقدَ أنَّ هذهِ النجومَ هيَ المُدَبِّرةُ للأمورِ، أوْ أنَّ لها شِرْكًا فهوَ كُفْرٌ مُخْرِجٌ عَن الملَّةِ، وإن اعتقدَ أنَّها سببٌ فقطْ، فكفرُهُ غيرُ مُخْرِجٍ عَن الملَّةِ.
ولكنْ يُسمَّى كفرًا؛ لقولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ على إِثْرِ سماءٍ كانَتْ مِن اللَّيْلِ: (( هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ ) )قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قالَ: (( قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، أَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ ) ).
وقدْ سَبَقَ لنا أنَّ هذا الكُفْرَ ينْقَسِمُ إلى قِسْمَيْنِ بحسَبِ اعتقادِ قائلِهِ.
الثاني:
أنْ يتعلَّمَ علمَ النجومِ؛
ليستدلَّ بحركاتِها وسيْرِها على الفصولِ وأوقاتِ البَّذْرِ والحصادِ والغرسِ وما أشَبْهَهُ؛ فهذا مِن الأمورِ المباحةِ؛ لأنَّهُ يُسْتَعَانُ بذلِكَ على أمورٍ دنيويَّةٍ.
القسمُ الثالثُ:
أنْ يتعلَّمَها لمعرفةِ أوقاتِ الصلواتِ وجهاتِ القِبْلَةِ
وما أشَبْهَ ذلِكَ مِن الأمورِ المشروعةِ، فالتَّعَلُّمُ هنا مشروعٌ، وقدْ يكونُ فَرْضَ كفايةٍ، أوْ فرضَ عَيْنٍ.
فيهِ مَسائِلُ:
الأُولَى:
(لا يَجْتَمِعُ تَصْديقُ الكاهِنِ مَعَ الإيمانِ بالقرآنِ)
يُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ) )صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.
ووجْهُهُ أنَّهُ كَذَّبَ بالقرآنِ، وهذا مِنْ أعظمِ الكفرِ.
الثانيةُ: (التَّصْريحُ بأنَّهُ كُفْرٌ)
تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: (( فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ) ).
الثالثةُ:
(ذِكْرُ مَنْ تُكُهِّنَ لَهُ) تُؤْخَذُ مِنْ حديثِ عمرانَ بنِ حُصَيْنٍ؛ حيثُ قالَ: (( لَيْسَ مِنَّا ) )أيْ: أنَّهُ كالكاهنِ في براءةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ منهُ.
الرابعةُ:
(ذِكْرُ مَنْ تُطُيِّرَ لَهُ) تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: (( أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ ) ).
الخامسةُ:
(ذِكْرُ مَنْ سُحِرَ لَهُ) تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: (( أَوْ سُحِرَ لَهُ ) ).
وأتى المؤلِّفُ بذِكْرِ مَنْ تُكُهِّنَ لهُ
، أوْ سُحِرَ لهُ، أوْ تُطُيَّرَ لهُ؛ لأنَّهُ قدْ يُعَارِضُ فيهِ معارضٌ فيقولُ: هذا في الكُهَّانِ، وهذا في المتطَيِّرينَ، وهذا في السَّحرةِ، فقالَ: إنَّ مَنْ طَلَبَ أنْ يُفعلَ لهُ ذلكَ فهوَ مثْلُهُم في العقوبةِ.
السَّادسةُ:
(ذِكْرُ مَنْ تَعَلَّمَ أَبَاجَادٍ) وتعَلُّمُ ذلِكَ فيهِ تفصيلٌ، لا يُحْمَدُ ولا يُذَمُّ؛ إلاَّ على حسَبِ الحالِ التي تنْزِلُ عليها، وقدْ سبقَ ذلِكَ.
السابعةُ:
(ذِكْرُ الفَرْقِ بَيْنَ الكاهِنِ والعرَّافِ) .
وفي هذهِ المسألةِ خلافٌ بَيْنَ أهلِ العلمِ:
القولُ الأوَّلُ:
أنَّ العرَّافَ هوَ الكاهنُ،
والكاهنُ هوَ الذي يُخْبِرُ عن المُغَيَّباتِ في المستقبلِ، فهما مترادفانِ، فلا فَرْقَ بَيْنَهُما.
القولُ الثاني:
أنَّ العرَّافَ هوَ الذي يَسْتَدِلُّ على معرفةِ الأمورِ
بمُقَدِّمَاتٍ يستدلُّ بها على معرفةِ المسروقِ ومكانِ الضَّالَّةِ ونحْوِها، فهوَ أعمُّ مِن الكاهنِ؛ لأنَّهُ يشملُ الكاهنَ وغيرَهُ، فهما مِنْ بابِ العامِّ والخاصِّ.
القولُ الثالثُ:
أنَّ العرَّافَ هوَ الذي يُخْبِرُ عمَّا في الضميرِ،
والكاهنُ هوَ الذي يُخْبِرُ عَن المُغَيَّباتِ في المستقبلِ.
فالعرَّافُ هوَ الكاهنُ أوْ أنَّهُ أعمَّ منهُ،
أوْ أنَّ العرَّافَ يختصُّ بالماضِي، والكاهِنَ بالمستَقْبَلِ، فهما متباينانِ.
فالظاهرُ أنَّهما متباينانِ،
فالكاهنُ منْ يُخْبِرُ عن المُغيَّبَاتِ في المستقبلِ.
(( والعرَّافُ: مَنْ يدَّعِي معرفةَ الأمورِ بمقدِّماتٍ يستدِلُّ بها عن المسروقِ ومكانِ الضَّالَّةِ ونحْوِ ذلكَ) غيرُ واضحٍ؛ لأنَّهُما لوْ كانا متباينيْنِ لقُلْنَا: والعَرَّافُ هوَ الذي يُخْبِرُ عمَّا في الضميرِ، أوْ أنْ يكُونَا منْ بابِ العامِّ والخاصِّ، فيُقَالُ في العرَّافِ ما هوَ مطبوعٌ هنا بينَ القوسيْنِ.