ونحنُ نرى خلافَ ما يرى المؤلِّفُ رحِمَهُ اللهُ، أيْ: أنَّهُ لوْ فعَلَهُ بقَصْدِ التخلُّصِ ، ولمْ يَنْوِ التقَرُّبَ لهذا الصنمِ لا يَكْفُرُ؛ لعمومِ قولِهِ تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } .
وهذا الذي فعَلَ ما يُوْجِبُ الكُفْرَ تخلُّصًا مُطْمَئِنٌّ قلْبُهُ بالإيمانِ.
والصوابُ أيضًا: أنَّهُ لا فرْقَ بينَ القولِ المُكْرَهِ عليهِ والفِعْلِ،
وإنْ كانَ بعضُ العلماءِ يُفَرِّقُ ويقولُ: إذا أُكْرِهَ على القولِ لمْ يَكْفُرْ، وإذا أُكرِهَ على الفعلِ كَفَرَ، ويستدلُّ بقصَّةِ الذبابِ. وقصةُ الذبابِ فيها نظَرٌ منْ حيثُ حُجِّيَّتُهَا، وفيها نظرٌ مِنْ حيثُ الدلالَةُ لما سبقَ أنَّ الفعلَ المبنيَّ على طلبٍ يكونُ موافقًا لهذا الطلبِ.
ولوْ فُرِضَ أنَّ الرجلَ تقرَّبَ بالذبابِ تخلُّصًا مِنْ شرِّهِم فإنَّ لديْنَا نصًّا مُحْكَمًا في المسألةِ، وهو قولُهُ تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللهِ } الآيةَ، ولم يقُلْ بالقولِ، فما دامَ عنْدَنا نصٌّ قرآنيٌّ صريحٌ فإنَّهُ لوْ وَرَدَت السُّنَّةُ صحيحةً على وجهٍ مُشْتَبِهٍ فإنَّها تُحْمَلُ على النصِّ الْمُحْكَمِ.
والخُلاصَةُ: أنَّ مَنْ أُكْرِهَ على الكفرِ
لمْ يكُنْ كافرًا ما دامَ قلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بالإيمانِ ولمْ يَشْرَحْ بالكُفْرِ صدرًا.
العاشرةُ:
(معرفةُ قَدْرِ الشِّركِ في قلوبِ المؤمنينَ.. ) إلخ وقدْ بيَّنَها المؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ.
مسألةٌ:
هلَ الأَوْلَى للإنسانِ أنْ يَصْبِرَ إذا أُكْرِهَ على الكُفْرِ ويُقْتَلَ؟
أوْ يُوافِقَ ظاهرًا ويتَأَوَّلَ؟
هذه المسألةُ فيها تفصيلٌ:
أوَّلاً:
أنْ يُوَافِقَ ظاهرًا وباطنًا، وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّهُ رِدَّةٌ.
ثانيًا:
أنْ يُوَافقَ ظاهرًا لا باطنًا، ولكنْ يقْصِدُ التخَلُّصَ مِن الإكراهِ، فهذا جائزٌ.
ثالثًا:
أنْ لا يُوَافِقَ لا ظاهرًا ولا باطنًا ويُقْتَلُ، وهذا جائزٌ وهوَ مِن الصَّبْرِ.
لكنْ أيُّهُمَا أَوْلَى؛ أنْ يصْبِرَ ولوْ قُتِلَ، أوْ أنْ يُوَافِقَ ظاهرًا؟
فيهِ تفصيلٌ:
إذا كانَ الإكراهُ لا يتَرَتَّبُ عليهِ ضررٌ في الدِّينِ للعامَّةِ فإنَّ الأَوْلَى أنْ يُوَافِقَ ظاهِرًا لا باطنًا، لا سيَّمَا إذا كانَ بقَاؤُهُ فيهِ مصلحةٌ للناسِ، مثلَ: صاحبِ المالِ الباذلِ فيما يَنْفَعُ، أو العلْمِ وما أشْبَهَ ذلكَ، حتَّى وإنْ لَمْ يكُنْ فيهِ مصلحةٌ، ففي بقائِهِ على الإسلامِ زيادةُ عَمَلٍ، وهو خَيْرٌ، هُوَ قدْ رُخِّصَ لهُ أنْ يكفُرَ ظاهرًا عندَ الإكراهِ، فالأَوْلَى أنْ يتأَوَّلَ ويُوَافِقَ ظاهِرًا لا باطنًا.
أمَّا إذا كانَ في مُوَافقَتِهِ وعدمِ صبْرِهِ ضررٌ على الإسلامِ فإنَّهُ يَصْبِرُ،
وقدْ يجبُ الصبرُ؛ لأنَّهُ مِنْ بابِ الصبرِ على الجهادِ في سبيلِ اللهِ، وليسَ مِنْ بابِ إبقاءِ النفْسِ؛ ولهذا لمَّا شَكَى الصحابةُ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ما يجِدُونَهُ مِنْ مضايقةِ المشركينَ قَصَّ عليهِم قصَّةَ الرجلِ فيمَنْ كانَ قبْلَنَا بأنَّ الإنسانَ كانَ يُمْشَطُ ما بينَ لَحْمِهِ وجلْدِهِ بأمشاطِ الحديدِ ويصْبِرُ، فكأنَّهُ يقولُ لهم: اصْبِرُوا عَلى الأذى.
ولوْ حصَلَ مِن الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهُم في ذلكَ الوقتِ موافقةٌ للمشركينَ وهمْ قِلَّةٌ لحَصَلَ بذلكَ ضرَرٌ عظيمٌ على الإسلامِ.
والإمامُ
أحمدُ رَحِمَهُ اللهُ في المِحْنةِ المشهورةِ لوْ وافقَهُم ظاهرًا لحصلَ في ذلكَ مَضَرَّةٌ على الإسلامِ.
الحاديةَ عشْرةَ:
(أنَّ الذي دخلَ النارَ مُسْلِمٌ؛ لأنَّهُ لوْ كانَ كافرًا لم يقُلْ:(( دخلَ النارَ في ذُبَابٍ ) )) وهذا صحيحٌ، أيْ: أنَّهُ كانَ مسلمًا ثُم كفَرَ بتقريبِهِ للصنمِ، فكانَ تقرِيبُهُ هُوَ السببَ في دخولِهِ للنَّارِ.
ولوْ كانَ كافِرًا قبلَ أنْ يُقرِّبَ الذبابَ لكانَ دخولُهُ النارَ لكُفْرِهِ الأوَّلِ، لا بتقريبِهِ الذبابَ.
الثانيةَ عشرةَ:
(فيهِ شاهدٌ للحديثِ الصحيحِ:(( الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ ) )) والغرضُ منْ هذا الترغيبُ والترهيبُ. فإذا عَلِمَ أنَّ الجنَّةَ أقربُ إليهِ مِنْ شِراكِ النعلِ، فإنَّهُ يَنْشَطُ على السَّعْيِ فيقولُ ليْسَتْ بعيدةً.
والنارُ إذا قيلَ لهُ: إنَّها أقربُ مِنْ شراكِ النعلِ
يَخَافُ ويتوَقَّى في مشْيِهِ؛ لِئَلاَّ يَزِلَّ فيَهْلِكَ، ورُبَّ كلمةٍ تُوصِلُ الإنسانَ إلى أعلَى علِّيِّينَ، وكلمةٍ أُخْرَى تُوصِلُهُ إلى أسفلَ سافلِينَ.
الثالثةَ عشرةَ:
(معرفةُ أنَّ عملَ القلبِ هوَ المقصودُ الأعظمُ حتَّى عِندَ عَبَدَةِ الأوثانِ) والحقيقةُ أنَّ هذهِ المسألةَ مَع التاسعةِ فيهما شِبْهُ تناقُضٍ؛ لأنَّهُ في هذهِ المسألةِ أحالَ الحُكْمَ على عمَلِ القلبِ، وفي التاسعةِ أحَالَهُ على الظاهرِ، فقالَ: بسببِ ذلكَ الذبابِ الذي لمْ يقْصِدْهُ بلْ فعَلَهُ تخَلُّصًا مِنْ شَرِّهم.
ومُقتضى ذلكَ أنَّ باطِنَهُ سليمٌ، وهنا يقولُ: إنَّ العملَ بعملِ القلبِ، ولا شكَّ أنَّ ما قالهُ المؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ حقٌّ بالنسبةِ إلى أنَّ المَدَارَ على القلبِ.
والحقيقةُ أنَّ العملَ مُرَكَّبٌ على القلبِ
، والناسُ يختلفونَ في أعمالِ القلوبِ أكثرَ مِن اختلافِهم في أعمالِ الأبدانِ، والفرقُ بيْنَهُم قَصْدًا وذُلًّا أعظمُ من الفرقِ بينَ أعمالِهم البدنيَّةِ؛ لأنَّ مِن الناسِ مَنْ يعبدُ اللهَ لكنْ عنْدَهُ مِن الاستكبارِ ما لا يَذِلُّ مَعَهُ ولا يُذْعِنُ لكلِّ حقٍّ.
وبعضُهم يكونُ عنْدَهُ ذلٌّ للحقِّ، لكِنْ عندَهُ نقصٌ في القَصْدِ، فتجدُ عنْدَهُ نوعًا مِن الرياءِ مثلاً. فأعمالُ القلبِ وأقوالُهُ لها أهمِّيَّةٌ عظيمةٌ، فعلَى الإنسانِ أنْ يُخْلِصَها للهِ.
وأقوالُ القلبِ هيَ:
اعتقادَاتُهُ، كالإيمانِ باللهِ، وملائكتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسلِهِ، واليومِ الآخرِ، والقدَرِ خيرِه وشرِّهِ.
وأعمالُهُ هيَ:
تحرُّكَاتُهُ، كالحُبِّ، والخوفِ، والرجاءِ، والتوكُّلِ، والاستعانةِ، وما أشْبَهَ ذلكَ.
والدواءُ لذلكَ:
القرآنُ والسُّنَّةُ، والرجوعُ إلى سيرةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بمعرفةِ أحوَالِهِ وأقوالِهِ، وجهادِهِ ودعوتِهِ، هذا ممَّا يُعِينُ على جهادِ القلبِ.
ومِنْ أسبابِ صلاحِ القلبِ أنْ لا تُشْغِلَ قلْبَكَ بالدُّنْيَا.