ويشملُ ذلكَ الحسناتِ الشرعيَّةَ كالصلاةِ والزكاةِ وغيرِها؛ لأنَّها تَسُرُّ المؤمنَ، ويشملُ الحسناتِ الدُّنْيَوِيَّةَ كالمالِ والولدِ ونحوِها، قالَ تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ} .
-وقالَ تعالى في آيةٍ أخرى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} .
وقولُهُ: (( إلاَّ أَنْتَ ) )فاعلُ يأتي؛ لأنَّ الاستثناءَ هنا مُفَرَّغٌ.
قولُهُ: (( ولا يَدْفَعُ السَّيِّئاتِ إلاَّ أَنْتَ ) )السَّيِّئَاتُ: ما يسُوءُ المرءَ وقوعُهُ ويَنْفِرُ منهُ حالاً أوْ مَآلاً، ولا يدفعُها إلاَّ اللهُ، ولهذا إذا أُصيبَ الإنسانُ بمصيبةٍ التجأَ إلى ربِّهِ تعالى؛ حتَّى المشركونَ إذا رَكِبُوا في الفُلْكِ وشاهَدُوا الغرَقَ دَعَوُا اللهَ مخلصينَ لهُ الدِّينَ.
ولا يُنَافِي هذا أنْ يكونَ دفعُها بأسبابٍ، فمثلاً لوْ رأى رجلاً غريقًا فأنْقَذَهُ فإنَّمَا أنقَذَهُ بمشيئةِ اللهِ، ولوْ شاءَ اللهُ لم يُنْقِذْهُ، فالسببُ مِن اللهِ.
فعقيدةُ كلِّ مسلمٍ أنَّهُ لا يأتي بالحسناتِ إلاَّ اللهُ، ولا يدفعُ السيِّئَاتِ إلاَّ اللهُ، وبمقتضى هذه العقيدةِ فإنَّهُ يجبُ أنْ لا يسألَ المسلمُ الحسناتِ ولا يسألَ دفعَ السيِّئَاتِ إلاَّ مِن اللهِ. ولهذا كانَ الرسلُ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم يسألونَ اللهَ التوفيق للحسناتِ ودفع السيِّئَاتِ، قالَ تعالى عنْ زكرِيَّا: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} .
-وقالَ تعالى عَنْ أَيُّوبَ: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وهكذا يجبُ أنْ يكونَ المؤمنُ أيضًا.
وقولُهُ: (( وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ ) )في معناها وجهانِ:
الأوَّلُ:
أنَّهُ لا يُوجَدُ حولٌ ولا قوَّةٌ إلاَّ باللهِ،
والباءُ تكونُ بمعنى في، يعني: إلاَّ في اللهِ وحدَهُ، ومَنْ سِوَاهُ لَيْسَ لهم حولٌ ولا قُوَّةٌ، ويكونُ الحولُ والقُوَّةُ المنفيَّانِ عنْ غيرِ اللهِ الحولَ المُطْلَقَ والقُوَّةَ المطلقةَ؛ لأنَّ غيرَ اللهِ فيهِ حولٌ وقُوَّةٌ، لكنَّها نسبيَّةٌ لَيْسَتْ بكاملةٍ. فالحولُ الكاملُ والقُوَّةُ الكاملةُ في اللهِ وحدَهُ.
الثاني: أنَّهُ لا يُوجَدُ لنا حولٌ ولا قُوَّةٌ إلاَّ باللهِ، فالباءُ للاستعانةِ، وهذا المعنى أصحُّ، وهو مقتضى وُرُودِها في مواضِعِها؛ إذْ إنَّنا لا نتَحَوَّلُ مِنْ حالٍ إلى حالٍ، ولا نَقْوَى على ذلِكَ إلاَّ باللهِ؛ فيكونُ في هذِهِ الجملةِ كمالُ التفويضِ إلى اللهِ، وأنَّ الإنسانَ يَبْرَأُ مِنْ حولِهِ وقوَّتِهِ إلاَّ بما أعطاهُ اللهُ مِن الحولِ والقُوَّةِ.
فإنْ صحَّ الحديثُ فالرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أرْشدَنا إذا رَأَيْنا ما نكرَهُ ممَّا يَتَشَاءَمُ بهِ المتشائمُ أنْ نقولَ: (( اللهُمَّ لاَ يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلاَّ أَنْتَ وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئاتِ إِلاَّ أَنْتَ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ ) ).
قولُهُ: (مَرْفُوعًا) أيْ: إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
(12) قولُهُ:
(( الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ ) )هاتانِ الجملتانِ يُؤَكِّدُ بعضُهما بعضًا مِنْ بابِ التوكيدِ اللفظِيِّ.
وقولُهُ: (( شِرْكٌ ) )أيْ: إنَّها مِنْ أنواعِ الشركِ، ولَيْسَت الشركَ كُلَّهُ، وإلاَّ لقالَ: الطِّيَرَةُ الشركُ.
وهَل المرادُ بالشركِ هنا الشركُ الأكبرُ المُخْرِجُ عَن الملَّةِ، أوْ أنَّها نوعٌ مِنْ أنواعِ الشركِ؟
نقولُ: هِيَ نوعٌ مِنْ أنواعِ الشركِ كقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:
(( اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ ) )أيْ: لَيْسَ الكفرَ المخرجَ عَن المِلَّةِ، وإلاَّ لقالَ: (هُمَا بِهُم الكُفْرُ) بلْ هيَ أنواعٌ من الكفرِ.
لكنْ في تَرْكِ الصلاةِ جاء الحديث الصحيح: (( بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاَةِ ) )فقالَ: الكفرُ، ويجبُ أنْ نعرفَ الفَرْقَ بينَ (ال) المعرفةِ أو الدَّالَّةِ على الاستغراقِ، وبينَ خُلُوِّ اللفظِ مِنْها، فإذا قيلَ: هذا كُفْرٌ؟
فالمرادُ أنَّهُ نوعٌ من الكفرِ لا يُخْرِجُ مِن الملَّةِ.
وإذا قيلَ:
هذا الكفرُ، فهوَ المُخْرِجُ مِن الملَّةِ.
فإذا تطيَّرَ إنسانٌ بشيءٍ رآهُ أوْ سَمِعَهُ، فإنَّهُ لا يُعَدُّ مشركًا شِرْكًا يُخْرِجُهُ مِن الملَّةِ، لكنَّهُ أشْرَكَ مِنْ حيثُ إنَّهُ اعتمدَ على هذا السببِ الذي لمْ يجعلْهُ اللهُ سببًا، وهذا يُضْعِفُ التوكُّلَ على اللهِ ويُوهِنُ العزيمةَ، وبذلِكَ يُعْتَبَرُ شِرْكًا مِنْ هذِهِ الناحيةِ، والقاعدةُ (أنَّ كلَّ إنسانٍ اعتمدَ على سببٍ لم يجعلْهُ الشرعُ سببًا فإنَّهُ مشركٌ شِرْكًا أصغرَ) .
وهذا نوعٌ مِن الإشراكِ مَعَ اللهِ؛ إمَّا في التشريعِ إنْ كانَ هذا السببُ شرعيًّا، وإمَّا في التقديرِ إنْ كانَ هذا السببُ كونيًّا، لكنْ لو اعتقدَ هذا المتشائِمُ المتطيِّرُ أنَّ هذا فاعلٌ بنفسِهِ دونَ اللهِ فهوَ مُشْرِكٌ شِرْكًا أكبرَ؛ لأنَّهُ جعلَ للهِ شريكًا في الخلقِ والإيجادِ.
قولُهُ: (( وَمَا مِنَّا ) ) (( مِنَّا ) )جارٌّ ومجرورٌ خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ قَبْلَ (( إلاَّ ) )إنْ قَدَّرْتَ ما بعدَ (( إلاَّ ) )فعلاً، أيْ: وما منَّا أحدٌ إلاَّ تطَيَّرَ، أوْ بعْدَ (( إلاَّ ) )أيْ: وما منَّا إلاَّ مُتَطَيِّرٌ.
والمعنى:
ما مِنَّا إنسانٌ يَسْلَمُ مِن التَّطَيُّرِ، فالإنسانُ يسمعُ شيئًا فيتشاءمُ، أوْ يبدأُ في فعلٍ فيجدُ أوَّلَهُ لَيْسَ بالسهلِ فيتشاءمُ ويتركُهُ.
والتوكُّلُ: صدقُ الاعتمادِ على اللهِ في جلْبِ المنافعِ ودَفْعِ المضارِّ، مَعَ الثقةِ باللهِ وفِعْلِ الأسبابِ التي جعَلَها اللهُ تعالى أسبابًا.
فلا يكفِي صدقُ الاعتمادِ فَقَطْ، بَلْ لا بُدَّ أنْ تَثِقَ بِهِ؛ لأنَّهُ سُبحانَهُ يقولُ:
{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} .
(13) قولُهُ: (( وجعلَ آخِرَهُ مِنْ قَوْلِ ابنِ مَسْعودٍ ) )وهوَ قولُهُ: (( وما منَّا إلاَّ.. إلخ ) ). وعلى هذا يكونُ مَوْقُوفًا، وهو مُدْرَجٌ في الحديثِ.
(14) قولُهُ: (( مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عنْ حاجَتِهِ ) ) (( مَنْ ) )شرطيَّةٌ، وجوابُ الشرطِ (( فَقَدْ أَشْرَكَ ) ).
وقولُهُ: (( عَنْ حاجَتِهِ ) )الحاجةُ: كلُّ ما يحتاجُهُ الإنسانُ بما تتعلَّقُ بِهِ الكمالاتُ، وقدْ تُطْلَقُ على الأمورِ الضروريَّةِ.
قولُهُ: (( فَقَدْ أَشْرَكَ ) )أيْ: شِرْكًا أكبرَ إن اعتقدَ أنَّ هذا المُتَشَاءَمَ بِهِ يفعلُ ويُحْدِثُ الشرَّ بنفسِهِ، وإن اعتقدَهُ سببًا فهوَ أصغرُ.
(15) وقولُهُ: (( فَما كَفَّارَةُ ذلِكَ ) )أيْ: ما كفَّارةُ هذا الشركِ؟ لأنَّ الكَفَّارةَ قدْ تُطْلَقُ على كَفَّارةِ الشيءِ بَعْدَ فِعْلِهِ؟
وقدْ تُطْلَقُ على الكفَّارةِ قبلَ الفعلِ؛ وذلِكَ لأنَّ الاشتقاقَ مأخوذٌ مِن الكفرِ وهو السَّتْرُ، والسَّتْرُ واقٍ، فكفَّارةُ ذلكَ إنْ وقعَ، وكَفَّارَةُ ذلِكَ إنْ لمْ يقَعْ.
(16) وقولُهُ: (( اللهُمَّ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُكَ، وَلاَ طَيْرَ إِلاَّ طَيْرُكَ ) )يعني: فأنتَ الذي بيدِكَ الخيرُ المباشرُ كالمطرِ والنباتِ، وغيرُ المباشرِ كالذي يكونُ سببُهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ على يدِ مخلوقٍ، مثلَ: (أنْ يُعْطِيَكَ إنسانٌ دراهَمَ صَدَقَةً أوْ هدِيَّةً) وما أشبهَ ذلكَ، فهذا الخيرُ مِن اللهِ، لكنْ بوَاسِطَةٍ جعلَهَا اللهُ سببًا، وإلاَّ فَكُلُّ الخيرِ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ.
وقولُهُ: (( لا خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُكَ ) )هذا الحصرُ حقيقيٌّ، فالخيرُ كلُّهُ مِن اللهِ، سواءٌ كانَ بسببٍ معلومٍ أوْ غيْرِهِ.
وقولُهُ: (( لا طَيْرَ إِلاَّ طَيْرُكَ ) )أي: الطيورُ كلُّها مِلْكُكَ، فهيَ لا تفعلُ شيئًا وإنَّما هيَ مُسَخَّرةٌ، قالَ تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} .
-وقالَ تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
فالمهمُّ أنَّ الطيرَ مُسَخَّرَةٌ بإذنِ اللهِ، فاللهُ تعالى هوَ الذي يُدَبِّرُها ويُصَرِّفُها ويُسَخِّرُها تذهبُ يمينًا وشمالاً، ولا عَلاقةَ لها بالحوادثِ.
ويَحْتَمِلُ أنَّ المرادَ بالطيرِ هنا: ما يتشاءمُ بهِ الإنسانُ، فكلُّ ما يحدثُ للإنسانِ مِن التشاؤمِ والحوادثِ المكروهةِ فإنَّهُ مِن اللهِ، كما أنَّ الخيرَ مِن اللهِ، كَمَا قالَ تعالى: {أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ} .
لكنْ سَبَقَ لنا أنَّ الشرَّ في فِعْلِ اللهِ لَيْسَ بواقعٍ، بلِ الشرُّ في المفعولِ لا في الفعلِ، بلْ فِعْلُهُ تعالى كُلُّهُ خيرٌ، إمَّا خيرٌ لذاتِهِ، وإمَّا لِمَا يترَتَّبُ عليهِ من المصالحِ العظيمةِ التي تَجْعَلُهُ خيرًا، فيكونُ قولُهُ: (( لا طَيْرَ إِلاَّ طَيْرُكَ ) )مقابلاً لقوْلِهِ: (( وَلا خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُكَ ) ).
قولُهُ: (( وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ ) ) (( لا ) )نافيةٌ للجنسِ، و (( إلهَ ) )بمعنى مَأْلُوهٍ.
والمَأْلُوهُ هوَ: المعبودُ مَحَبَّةً وتعظيمًا، يتألَّهُ إليهِ الإنسانُ مَحَبَّةً لهُ وتعظيمًا لهُ.
-فإنْ قيلَ: إنَّ هناكَ آلهةً دونَ اللهِ كَمَا قالَ تعالى:
{فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ} .
-قيل: هي إنَّها وإنْ عُبِدَتْ مِنْ دونِ اللهِ وسُمِّيَتْ آلهةً فليسَتْ آلهةً حقًّا؛ لأنَّها لا تسْتَحِقُّ أنْ تُعْبَدَ؛ فلهذا نقولُ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ، أيْ: لا إلهَ حقٌّ إلاَّ اللهُ.
(17) قولُهُ في حديثِ الفضلِ: (( إِنَّمَا الطِّيَرَةُ ) )هذهِ الجملةُ عندَ البلاغِيِّينَ تُسمَّى حَصْرًا، أيْ: ما الطِّيَرَةُ إلاَّ ما أمْضَاكَ أوْ رَدَّكَ، لا ما حَدَثَ في قلبِكَ ولم تلْتَفِتْ إليهِ، ولا رَيْبَ أنَّ السلامةَ منها حتَّى في تفكيرِ الإنسانِ خَيْرٌ بلا شكٍّ، لكنْ إذا وقَعَتْ في القلبِ ولم تَرُدَّهُ ولمْ يلتفتْ لها فإنَّها لا تضرُّهُ لكنْ عليهِ أنْ لا يسْتَسْلِمَ بَلْ يُدَافِعَ؛ إذ الأمرُ كلُّهُ بيدِ اللهِ.
قولُهُ: (( مَا أَمْضَاكَ أَوْ رَدَّكَ ) )أمَّا ما ردَّكَ فلا شكَّ أنَّهُ مِن الطِّيَرَةِ؛ لأنَّ التَّطَيُّرَ يُوجِبُ التركَ والتراجُعَ.
وأمَّا (( ما أمْضَاكَ ) )فلا يخْلُو مِنْ أمرَيْنِ:
الأوَّلُ:
أنْ تكونَ مِنْ جنسِ التَّطَيُّرِ،
وذلِكَ بأنْ يسْتَدِلَّ لنَجَاحِهِ أوْ عدمِ نجاحِهِ بالتَّطَيُّرِ، كَمَا لوْ قالَ: سأزْجُرُ هذا الطيرَ، فإذا ذهبَ إلى اليمينِ فمعنى ذلكَ اليُمْنُ والبركةُ فَيُقْدِمُ، فهذا لا شكَّ أنَّهُ تطيُّرٌ؛ لأنَّ التفاؤلَ بمثلِ انطلاقِ الطيرِ عَن اليمينِ غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّهُ لا وجَهَ لهُ؛ إذِ الطيرُ إذا طارَ فإنَّهُ يذهبُ إلى الذي يرى أنَّهُ وِجْهَتُهُ، فإذا اعتمدَ عليهِ فقد اعتمدَ على سببٍ لمْ يجعلْهُ اللهُ سببًا، وهو حركةُ الطيرِ.
الثاني:
أنْ يكونَ سببُ المُضِيِّ كلامًا سَمِعَهُ أوْ شيئًا شاهدَهُ يدلُّ على تيسيرِ هذا الأمرِ لهُ، فإنَّ هذا فألٌ، وهو الذي يُعْجِبُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، لكنْ إن اعتمدَ عليهِ فهذا حُكْمُهُ حُكْمُ الطِّيَرَةُ، وإنْ لمْ يعتمدْ عليهِ ولكنَّهُ فَرِحَ وَنَشِطَ وازدادَ نشاطًا في طَلَبِهِ فهذا مِن الفألِ المحمودِ.
والحديثُ في سَنَدِهِ مقالٌ، لكنْ على تقديرِ صِحَّتِهِ هذا حُكْمُهُ.
فيهِ مَسائِلُ:
الأُولى:
(( التَّنْبيهُ عَلَى قَوْلِهِ: {أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ} مَعَ قَولِهِ: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} ) )أيْ: لكيْ يتنَبَّهَ الإنسانُ؛ فإنَّ ظاهرَ الآيتيْنِ التعارضُ، وليسَ كذلِكَ، فالقرآنُ والسُّنَّةُ لا تعارُضَ بينَهما، ولا تعارُضَ في ذاتِهما، إنَّما يقعُ التعارضُ حَسَبَ فَهْمِ المُخَاطَبِ، والجمعِ أنَّ قولَهُ: {أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ} أنَّ اللهَ هوَ المقدِّرُ ذلِكَ ولَيْسَ موسى ولا غيرَهُ مِن الرسلِ، وأنَّ قولَهُ: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} مِنْ بابِ السببِ، أيْ: أنْتُمْ سببُهُ.
(19) الثَّانيةُ: (( نَفْيُ العَدْوى ) )وقَدْ سَبَقَ أنَّ المرادَ بنفيِها نفيُ تأثيرِها بنفسِها، لا أنَّها سببٌ للتأثيرِ؛ لأنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَ بعضَ الأمراضِ سببًا للعدوى وانتقالِها.
(20) الثالثةُ: (( نفيُ الطِّيَرَة ) )أيْ: نفيُ التأثيرِ، لا نفيُ الوجودِ.
(21) الرَّابعةُ: (( نَفْيُ الْهَامَةِ ) )وقَدْ سَبَقَ تفسيرُها.
(22) الخامسةُ: (( نَفْيُ الصَّفَرِ ) )وسَبَق تفسيرُهُ.
(23) السادسةُ: (( أنَّ الفَأْلَ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ مُسْتَحَبٌّ ) )يُؤْخَذُ مِنْ قولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( يُعْجِبُنِي الْفَأْلُ ) )وكُلُّ ما أَعجبَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فهوَ حَسَنٌ، قالَتْ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها: (( كانَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطَهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ ) ).
(24) السَّابِعةُ: (( تَفْسِيرُ الفَأْلِ ) )فسَّرَهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بأنَّهُ الكلمةُ الطَّيِّبَةُ، وسَبَقَ أنَّ هذا التفسيرَ على سبيلِ المثالِ، لا على سبيلِ الحَصْرِ؛ لأنَّ الفألَ كلُّ ما يُنَشِّطُ الإنسانَ على شيءٍ محمودٍ مِنْ قولٍ أوْ فعلٍ مرْئِيٍّ أوْ مسموعٍ.
(25) الثَّامِنةُ: (أنَّ الواقِعَ فِي القُلوبِ مِنْ ذلِكَ مَعَ كَراهَتِهِ لا يَضُرُّ، بَلْ يُذْهِبُهُ اللهُ بِالتَّوَكُّلِ) أيْ: إذا وَقَعَ في قَلْبِكَ وأَنْتَ كارهٌ لهُ، فإنَّهُ لا يَضُرُّكَ ويُذْهِبُهُ اللهُ بالتوكُّلِ؛ لقولِ ابنِ مسعودٍ: (( وَمَا مِنَّا إِلاَّ، وَلَكِنَّ اللهَ يُذْهِبُهُ بالتَّوكُّلِ ) ).
(26) التاسعةُ: (( ذكْرُ ما يقولُ مَنْ وَجَدَهُ ) )وسَبَقَ أنَّهُ شيئانِ: أنْ يقولَ: (( اللهُمَّ لاَ يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلاَّ أَنْتَ، وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئاتِ إِلاَّ أَنْتَ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ ) )أوْ يقولَ: (( اللهُمَّ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُكَ، وَلاَ طَيْرَ إِلاَّ طَيْرُكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ ) ).
(27) العاشرةُ: (( التَّصريِحُ بأَنَّ الطِّيَرَةَ شِرْكٌ ) )وسَبَقَ أنَّ الطِّيَرَةَ شركٌ، لكنْ بتفصيلٍ، فإن اعتقدَ تأثيرَها بنفسِها فهوَ شركٌ أكبرُ، وإن اعتقدْ أنَّها سببٌ فَهُوَ شركٌ أصغرُ.
(28) الحاديةَ عَشْرةَ: (( تَفْسِيرُ الطِّيَرَةِ الْمَذْمومةِ ) )أيْ: ما أَمْضَاكَ أوْ رَدَّكَ.