فهرس الكتاب
الصفحة 33 من 93

قولُهُ: (( أَهلْكَ ) )يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ:

الأوَّلُ:

أنَّ المُرَادَ هَلاَكُ الدِّينِ،

وعَلَيْهِ يَكُونُ الْهَلاَكُ واقِعًا مُباشَرَةً مِن الغُلُوِّ؛ لأنَّ مُجَرَّدَ الغُلُوِّ هَلاَكٌ.

الثاني:

أنَّهُ هَلاَكُ الأَجْسامِ،

وعَلَيْهِ يَكُونُ الغُلُوُّ سَبَبًا للهَلاَكِ؛ أيْ: إذا غَلَوْا خَرَجُوا عَن طَاعَةِ اللهِ فَأَهْلَكَهُم اللهُ.

وهلِ الحَصْرُ في قولِهِ:

(( فَإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَان قَبْلَكُم الغُلُوُّ ) )حَقِيقِيٌّ أوْ إِضَافِيٌّ؟

الجَوَابُ:

إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ حَقِيقِيٌّ، حَصَلَ إِشْكَالٌ وهوَ أنَّهُ هناكَ أَحَادِيثُ أضافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الهَلاَكَ فيها إلى أَعْمَالٍ غيرِ الغُلُوِّ.

مثلُ قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (( إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ) )فهنا حَصْرَانِ مُتَقَابِلاَنِ، فإذَا قُلْنَا: إِنَّهُ حَقِيقِيٌّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ هَلاَكَ إِلاَّ بِهَذا حَقِيقَةً، صَارَ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ تَنَاقُضٌ.

وإنْ قيلَ

: إِنَّ الحَصْرَ إِضَافِيٌّ، أيْ: باعْتِبَارِ عَمَلٍ مُعَيَّنٍ، فإنَّهُ لاَ يَحْصُلُ تَنَاقُضٌ بِحَيْثُ يُحْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى جِهَةٍ لاَ تُعَارِضُ الَحدِيثَ الآخَرَ، لِئَلاَّ يكُونَ في حَدِيثِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ تَنَاقُضٌ، وحينَئذٍ يكُونُ الحَصْرُ إِضَافيًّا.

فيُقَالُ: أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم الغُلُوُّ، هذا الحَصْرُ باعْتِبَارِ الغُلُوِّ في التَّعَبُّدِ في الحَدِيثِ الأوَّلِ، وفي الآخَرِ يُقَالُ: أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم باعْتِبَارِ الحُكْمِ، فيَهْلِكُ النَّاسُ إذا أَقَامُوا الحَدَّ عَلَى الضَّعِيفِ دُونَ الشَّرِيفِ.

وفي هذا الحَدِيثِ يُحَذِّرُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أُمَّتَهُ مِن الغُلُوِّ،

ويُبَرْهِنُ عَلَى أنَّ الغُلُوَّ سَبَبٌ للهَلاَكِ؛ لأنَّهُ مُخَالِفٌ للشَّرْعِ، ولإِهْلاَكِهِ للأُمَمِ السَّابِقَةِ.

فيُسْتَفَادُ منهُ تَحْريمُ الغُلُوِّ مِنْ وجْهَيْنِ:

الوجْهُ الأَوَّلُ:

تَحْذِيرُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والتَّحْذِيرُ نَهْيٌ وزِيادَةٌ.

الوجْهُ الثَّانِي: أنَّهُ سَبَبٌ لِإِهْلاَكِ الأُمَمِ كَمَا أَهْلَكَ كلَّ مَنْ قبلَنا، ومَا كَانَ سَبَبًا للَهَلاَكِ كانَ مُحَرَّمًا.

والنَّاسُ في العِبَادَةِ طَرَفَانِ ووَسَطٌ: فَمْنْهم المُفْرِطُ، ومنهم المُفرِّطُ، ومنهم المُتَوسِّطُ.

فدِينُ اللهِ بَيْنَ الغَالِي فيهِ والجَافِي عنه، وكونُ الإنسانِ مُعْتَدلاً لاَ يَمِيلُ إِلَى هذا ولاَ إلى هذا، هذا هوَ الواجِبُ، فَلاَ يَجُوزُ التَّشَدُّدُ في الدِّينِ والمُبَالَغَةُ، ولاَ التَّهَاونُ وعَدَمُ المُبَالاَةِ، بلْ كُنْ وسَطًا بَيْنَ هذا وهذا.

قولُهُ:

(( المُتَنَطِّعُونَ ) )المُتَنَطِّعُ:هوَ المُتَعَمِّقُ المُتَقَعِّرُ المُتَشَدِّقُ، سَواءٌ كَانَ في الكَلاَمِ أوْ في الأفعالِ، فهوَ هَالِكٌ حَتَّى ولوْ كَانَ ذلكَ في الأقوالِ المُعْتادةِ.

فيهِ مَسائِلُ:

الأُولَى:

(أنَّ مَنْ فَهِمَ هذا البابَ) أيْ: بِمَا مَرَّ مِنْ تَفْسِيرِ الآيَةِ الكَرِيمةِ: { وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ } - وبَابَيْنِ بعدَهُ تَبَيَّنَ لهُ غُرْبَةُ الإسْلاَمِ.

وهذا حقٌّ، فإنَّ الإسْلاَمَ المَبْنِيَّ على التَّوْحيدِ الخَالِصِ غَرِيبِ.

الثَّانِيَةُ:

(مَعْرِفَةُ أوَّلِ شِرْكٍ حَدَثَ في الأَرْضِ) وجْهُ ذلكَ: أنَّ هذه الأَصْنامَ التي عَبَدَها قَوْمُ نُوحٍ كَانُوا أَقْوامًا صَالِحِينَ، فَحَدَثَ الغُلُوُّ فيهم، ثُمَّ عَبَدُوهم مِنْ دونِ اللهِ، ففيهِ الحَذَرُ مِن الغُلُوِّ في الصَّالِحِينَ.

الثَّالِثَةُ:

(مَعْرِفَةُ أوَّلِ شيءٍ غُيِّرَ بهِ دِينُ الأَنْبياءِ) ومَا سَبَبُ ذلكَ، مَعَ مَعْرِفَةِ أنَّ اللهَ أَرْسَلَهُم.

أوَّلُ شيءٍ غُيِّرَ بهِ دِينُ الأنبياءِ هوَ الشِّرْكُ، وسَبَبُهُ هوَ الغُلُوُّ في الصَّالِحِينَ.

وقولُهُ: (مَعَ مَعرِفةِ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَهُم) قَالَ اللهُ تَعَالَى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } أيْ: كَانُوا أُمَّةً واحِدَةً عَلَى التَّوْحِيدِ فاخْتَلَفُوا، فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ وأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَذَا أوَّلُ مَا حَدَثَ مِنَ الشِّركِ في بَنِي آدَمَ.

الرابعةُ:

(قَبُولُ البِدَعِ معَ كَوْنِ الشَّرَائعِ والفِطَرِ تَرُدُّها) .

قولُهُ: (قَبُولُ البِدَعِ) أيْ: أنَّ النُّفُوسَ تَقْبَلُها لاَ لأنَّها مَشْرُوعَةٌ، بَلْ إنَّ الشَّرَائِعَ تَرُدُّها، وكذلكَ الفِطَرُ السَّلِيمَةُ تَرُدُّها؛ لأَِنَّ الفِطَرَ السَّلِيمَةَ جُبِلَتْ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:

{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } فالفِطَرُ السَّلِيمَةُ لاَ تَقْبَلُ تَشْرِيعًا إِلاَّ مِمَّنْ يِمْلِكُ ذلِكَ.

الخامِسةُ:

(أنَّ سَبَبَ ذلكَ كُلِّهِ مَزْجُ الحَقِّ بالباطِلِ) أَرَادَ المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أنْ يُبَيِّنَ أنَّ مَزْجَ الحَقِّ بالباطِلِ حَصَلَ بِأَمْرَيْنِ:

الأوَّلُ:

(مَحَبَّةُ الصَّالِحِينَ) ولِهَذا صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُم مَحَبَّةً لَهُم، ورَغْبَةً في مُشَاهَدَةِ أَشْبَاحِهِم.

الثاني:

(أنَّ أَهْلَ العِلْمِ والدِّينِ أَرَادُوا بذلكَ خَيْرًا) وهُوَ أنْ يَنْشَطُوا عَلَى العِبَادَةِ، ولَكِنَّ مَنْ بعدَهم أَرَادُوا شَرًّا غيرَ الخَيْرِ الذي أَرَادَهُ أولئِكَ، ويُؤْخَذُ مِنْهُ: أنَّ مَنْ أَرَادَ تَقْوِيَةَ دِينِهِ ببدعةٍ فإنَّ ضَرَرَها أكثرُ مِنْ نَفْعِها.

مثالُ ذلكَ: أولئكَ الذينَ يَغْلُونَ في الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ،

ويَجْعَلُونَ لهُ المَوالِدَ، وهُم يُرِيدُونَ بذلكَ خَيْرًا، لَكِنْ أَرَادُوا خَيْرًا بِهَذِهِ البِدْعَةِ فَصَارَ ضَرُّها أَكْثرَ مِنْ نفعِها؛ لأنَّها تُعْطِي الإنسانَ نَشَاطًا غيرَ مَشْرُوعٍ في وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ يَعْقُبُهُ فُتُورٌ غَيرُ مشروعٍ في بَقِيَّةِ العَامِ.

ولهذا تَجِدُ هؤلاءِ الذينَ يُغَالُون في هذه البِدَعِ فَاتِرِينَ في الأُمُورِ المَشْرُوعَةِ الوَاضِحَةِ ليسوا كنَشَاطِ غَيْرِهم، وهذا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَأْثِيرِ البِدَعِ في القُلُوبِ، وأنَّها مَهْمَا زيَّنَها أَصْحَابُها لاَ تَزِيدُ الإنْسَانَ إِلاَّ ضَلاَلاً؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: (( كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ ) ).

السادسةُ:

(تَفْسيرُ الآيَةِ التي في سُورَةِ نُوحٍ) وقَدْ سَبَقَ ذلِكَ وبيانُ أنَّهم يَتَوَاصَوْنَ بالبَاطِلِ، وهذا خِلاَفُ طَرِيقِ المُؤْمِنينَ الذينَ يَتَوَاصَوْنَ بالحَقِّ والصَبْرِ والمَرْحَمَةِ، ويُشْبِهُهُم أَهْلُ البَاطِلِ والضَلاَلِ الذينَ يَتَوَاصَوْنَ بِمَا هُم عَلَيْهِ، سَواءٌ كَانُوا رُؤَسَاءَ سِيَاسِيِّينَ أوْ رؤساءَ دِينِيِّينَ يَنْتَسِبونَ إلى الدِّينِ، فتَجِدُ الواحِدَ مِنْهم لاَ يَمُوتُ إِلاَّ وقَدْ وَضَعَ لَهُ رَكِيزَةً مِنْ بعدِهِ يُنَمِّي هذا الأمرَ الذي هُوَ عَلَيْهِ.

السَّابِعَةُ:

(جِبِلَّةُ الآدَمِيِّ في كَوْنِ الحَقِّ يَنْقُصُ في قَلْبِهِ والباطِلِ يَزِيدُ) هذه العِبَارَةُ تُقَيَّدُ مِنْ حيثُ كونُهُ آدَمِيًّا بقَطْعِ النَّظَرِ عَلَى مَنْ يَمُنُّ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، فإنَّ اللهَ يَقُولُ: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } .

قولُهُ: (جِبِلَّةُ) عَلَى وَزْنِ فِعِلَّة، وهوَ مَا يُجْبَلُ المَرْءُ عَلَيْهِ أيْ: يُخْلَقُ عَلَيْهِ ويُطْبَعُ ويُبْدَعُ، بِمَعْنَى الطَّبِيعَةِ التي عَلَيْها الإنْسَانُ مِنْ حيثُ هوَ إِنْسانٌ، بقَطْعِ النَّظرِ عَنْ كونِهِ زَكَّى نَفْسَهُ أوْ دَسَّاها.

الثَّامِنَةُ:

(فيهِ شَاهِدٌ لِمَا نُقِلَ عَنِ السَّلَفِ أنَّ البِدَعَ سَبَبُ الكُفْرِ) قالَ أهلُ العلمِ: إنَّ الكُفْرَ لَهُ أسْبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ ولاَ مَانِعَ أنْ يَكُونَ للشَّيْءِ الوَاحِدِ أَسْبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ، ومِنْ ذلِكَ الكُفْرُ، ذَكَرُوا مِنْ أَسْبَابِهِ البِدْعَةَ.

وقَالُوا: (إنَّ البِدْعَةَ لاَ تَزَالُ في القَلْبِ يُظْلِمُ منها شيئًا فشيئًا حَتَّى يَصِلَ إِلَى الكُفْرِ) واسْتَدَلُّوا بقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (( كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وكُلُّ ضَلاَلَةٍ في النَّارِ ) ).

التَّاسِعَةُ:

(مَعْرِفَةُ الشَّيْطَانِ بِمَا تَؤُولُ إليهِ البِدْعَةُ ولوْ حَسُنَ قَصْدُ الفَاعِلِ) لأنَّ الشَّيْطانَ هوَ الذي سَوَّلَ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ أنْ يُصَوِّرُوا هذه التَّمَاثيلَ والتَّصَاوِيرَ؛ لأنَّهُ يَعْرِفُ أنَّ هذه البِدْعَةَ تَؤُولُ إلى الشِّرْكِ.

وقولُهُ: (ولَوْ حَسُنَ قَصْدُ الفَاعِلِ) أيْ: أنَّ البِدْعَةَ شَرٌّ ولوْ حَسُنَ قَصْدُ فَاعِلِهَا، ويَأْثَمُ إنْ كَانَ عَالِمًا أَنَّها بِدْعَةٌ ولوْ حَسُنَ قَصْدُهُ؛ لأَِنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى المَعْصِيَةِ، كَمَنْ يُجِيزُ الكَذِبَ والغِشَّ ويدَّعِي أنَّهُ مَصْلَحَةٌ، أمَّا لوْ كانَ جَاهِلاً فإنَّهُ لاَ يَأْثَمُ؛ لأَِنَّ جَمِيعَ المَعَاصِي لاَ يَأْثَمُ بِهَا إِلاَّ مَعَ العِلْمِ، وَقَدْ يُثابُ عَلَى حُسْنِ قَصْدِهِ، وقَدْ نبَّهُ عَلَى ذلِكَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابنُ تَيْمِيَّةَ في كِتَابِهِ (اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ) : (فيُثَابُ عَلَى نيَّتِهِ دِونَ عَمَلِهِ، فعَمَلُهُ هذا غَيْرُ صَالِحٍ ولاَ مَقْبُولٍ عِنْدَ اللهِ ولاَ مَرْضِيٍّ لكنْ لحُسْنِ نيَّتِهِ مَعَ الجَهْلِ يَكُونُ لَهُ أَجْرٌ، ولِهَذَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للرَّجُلِ الذي صَلَّى وأَعَادَ الوُضُوءَ بَعْدَما وَجَدَ الماءَ وصَلَّى ثانيَةً:(( لَكَ الأَجْرُ مَرَّتَيْنِ ) )لحُسْنِ قَصْدِهِ؛ ولأنَّ عمَلَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ في الأَصْلِ، لكنْ لوْ أَرَادَ أَحَدٌ أنْ يَعْمَلَ العَمَلَ مَرَّتَيْنِ - مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ غَيرُ مَشْرُوعٍ - لَمْ يكنْ لَهُ أَجْرٌ؛ لأَِنَّ عَمَلَهُ غيرُ مشروعٍ لكونِهِ خِلاَفَ السُّنَّةِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للذي لَمْ يُعِدْ: (( أَصَبْتَ السُّنَّةَ ) )).

(24) العَاشِرَةُ:

(مَعْرِفَةُ القَاعِدَةِ الكُلِّيَّةِ وهيَ النَّهْيُ عَنِ الغُلُوِّ ومَعْرِفَةُ ما يَؤُولُ إليهِ) هذا ما حَذَّرَ منهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؛ لأَِنَّ الغُلُوَّ مُجَاوَزَةُ الحَدِّ، وهُوَ كَمَا يكونُ في العِبَادَاتِ يكونُ في غيرِها.

-قَالَ تَعَالَى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا } .

-وقَالَ: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا } وقَدْ سَبَقَ بيانُ ذلِكَ.

الحَادِيَةَ عشرةَ:

(مَضَرَّةُ العُكُوفِ عَلَى القَبْرِ مِنْ أَجْلِ عَمَلٍ صَالِحٍ) المَضَرَّةُ الحَاصِلَةُ: هيَ أَنَّها تُوصِلُ إلى عِبَادَتِهِم.

الثانيَةَ عشرةَ:

(مَعْرِفَةُ النَّهْيِ عَنِ التَّمَاثِيلِ والحِكْمَةِ في إِزَالِتِها) التماثيلُ: هِيَ الصُّورُ عَلَى مثالِ رَجُلٍ، أوْ حَيَوَانٍ، أوْ حَجَرٍ، والغَالِبُ أنَّها تُطْلَقُ عَلَى مَا صُنِعَ ليُعْبَدَ مِنْ دونِ اللهِ، والحِكْمَةُ في إِزَالِتِها سَدُّ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ.

الثالثةَ عشرةَ:

(مَعْرفةُ عِظَمِ شأنِ هذه القِصَّةِ) أيْ: قِصَّةِ هؤلاءِ الذينَ غَلَوْا في الصَّالِحِينَ وغَيْرِ الصَّالِحِينَ لكن اعْتَقَدُوا فيهم الصَّلاَحَ، حَتَّى تَدَرَّجَ بِهم الأمرُ إلى عِبَادَتِهم مِنْ دونِ اللهِ، فتَجِبُ مَعْرِفةُ هذه القِصَّةِ، وأنَّ أمْرَ الغُلُوِّ عَظِيمٌ، ونَتَائِجَهُ وخِيمَةٌ، فالحَاجَةُ شديدةٌ إلى ذلِكَ، والغَفْلَةُ عنها كثيرةٌ، والنَّاسُ لوْ تَدَبَّرْتَ أَحْوالَهم، وسَبَرَتْ قُلُوبَهم وجَدَتْ أنَّهم في غَفْلَةٍ عَنْ هذا الأَمْرِ، وهذا مَوْجُودٌ في البِلاَدِ الإسْلاَمِيَّةِ.

الرابعةَ عشرة:

(وهِيَ أَعْجَبُ العَجَبِ: قَرَاءتُهم إِيَّاهَا في كُتُبِ التفسيرِ والحديثِ)

قولُهُ: (وأعْجَبُ) أيْ: أكثرُ عجبًا وأشدُّ.

والعَجَبُ نوعانِ:

الأوَّلُ:

بمعنى الاسْتِحْسَانِ، وهوَ مَا إِذَا تَعَلَّقَ بِمَحْمُودٍ كَقَوْلِ عَائِشَةَ في الحَدِيثِ: (كانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ في تَنَعُّلِهِ وتَرَجُّلِهِ وطُهورِهِ، وفي شَأْنِهِ كُلِّهِ) .

الثَّانِي: بِمَعْنَى الإنْكَارِ، وذلِكَ فِيمَا إِذَا تَعَلَّقَ بِمَذْمُومٍ، قَالَ تَعَالَى: { وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } وكَلاَمُ المُؤَلِّفِ هنا مِنْ بابِ الإنْكَارِ.

وكَلاَمُ المُؤَلِّفِ هنا عَمَّا كَانَ في زَمَنِهِ حَيْثُ غَفَلُوا عَنْ هذهِ القِصَّةِ مَعَ قِرَاءَتِهم لَهَا في كُتُبِ التَّفْسِيرِ والحَدِيثِ.

قولُهُ: (فاعْتَقَدُوا أنَّ مَا نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عنه هوَ الكُفْرُ المُبِيحُ للدَّمِ والمَالِ) أيْ: مَن اعْتَقَدَ أنَّ الشِّرْكَ والكُفْرَ مِنْ أَفْضَلِ العِبَادَاتِ وأنَّهُ مُقَرِّبٌ إلى اللهِ فَهَذَا كُفْرٌ مُبِيحٌ لِدَمِهِ ومَالِهِ، هَذَا مَا أَرَادَ المُؤَلِّفُ، وإنْ كَانَ لاَ يُسْعِفُهُ ظَاهِرُ كَلاَمِهِ، ثُمَّ بَدَا لي مَا لَعَلَّهُ المرادُ: أنَّ هؤلاءِ الغَالِينَ اعْتَقَدُوا أنَّ المَنْهِيَّ عنه هوَ الكُفْرُ المُبِيحُ للدَّمِ والمَالِ، وأمَّا مَا دونَهُ مِن الغُلُوِّ فَلاَ نَهْيَ فيهِ، واللهُ أعْلَمُ.

الخامسةَ عشرةَ:

(التَّصْرِيحُ بأنَّهم لَمْ يُرِيدُوا إِلاَّ الشَّفَاعَةَ) أيْ: مَا أَرَادُوا إِلاَّ الشَّفَاعَةَ ومَعَ ذلكَ وقَعُوا في الشِّرْكِ.

السادسةَ عشرةَ:

(ظَنُّهم أنَّ العلماءَ الذينَ صَوَّرُوا الصُّوَرَ أَرَادُوا ذلِكَ) أيْ: أَرَادُوا أنْ تَشْفَعَ لَهُم، بَلْ ظَنُّوا أَنَّها تُنَشِّطُهم عَلَى العِبَادَةِ، وهذا ظَنٌّ فَاسِدٌ كَمَا سَبَقَ.

السابعةَ عشرةَ: (البيانُ العَظِيمُ في قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:

(( لاَ تَطْرُونِي.. ) )الحديثَ) و مَعْنَى الإطْرَاءِ: الغَلُوُّ في المَدْحِ، والمُبَالَغَةُ فيهِ، وهذا الذي نَهَى عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وَقَعَ فيهِ بَعْضُ هذِهِ الأُمَّةِ، بَلْ أَشَدَّ حَتَّى جَعَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ المَرْجِعَ في كُلِّ شَيْءٍ، وهذا أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِ النَّصَارَى: المَسْيحُ ابنُ اللهِ وثَالِثُ ثَلاَثَةٍ.

ومعنى: (بَلَّغَ) أيْ: أَوْصَلَ وبَيَّنَ.

الثامنةَ عشرةَ:

(نَصِيحَتُهُ إِيَّانَا بِهَلاَكِ المُتَنَطِّعِينَ) وذلِكَ بقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (( هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ ) )فَلَمْ يُرِدْ مُجَرَّدَ الخَبَرِ، ولكن التَّحْذِيرَ مِن التَّنَطُّعِ.

التاسعةَ عشرةَ:

(التَّصْرِيحُ بأَنَّها لَمْ تُعْبَدْ حَتَّى نُسِيَ العِلْمُ) أيْ: لَمْ تُعْبَدْ هذه التماثيلُ إِلاَّ بعدَ أنْ نُسِيَ العِلْمُ واضْمَحَلَّ، ففيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَعْرِفَةِ قَدْرِ وُجُودِهِ -أي: العِلْمِ- وأنَّ وُجُودَهُ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ للأُمَّةِ؛ لأنَّهُ إذا فُقِدَ العِلْمُ حَلَّ الجَهْلُ مَحَلَّهُ، وإذا حَلَّ الجَهْلُ فَلاَ تَسْأَلْ عَنْ حَالِ النَّاسِ فَسَوْفَ لاَ يَعْرِفُونَ كيفَ يَعْبُدُونَ اللهَ، ولاَ كيفَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ.

العشرونَ:

(أنَّ سَبَبَ فَقْدِ العِلْمِ موتُ العُلَمَاءِ) فهذا مِنْ أَكْبَرِ الأسْبابِ لفَقْدِ العِلْمِ، فإذا مَاتَ العُلَمَاءُ لَمْ يَبْقَ إِلاَّ جُهَّالُ الخَلْقِ يُفْتُونَ بغيرِ عِلْمٍ.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام