وقولُهُ: (( لاَ يَرُدُّهُ كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ ) )أيْ: أنَّ رزْقَ اللهِ إذا قُدِّرَ للعبدِ فَلَنْ يمْنَعَهُ عنْهُ كراهيَةُ كارِهٍ، فَكَمْ مِنْ إنسانٍ حَسَدَهُ الناسُ، وحاوَلُوا منْعَ رزقِ اللهِ، فلمْ يستطيعوا إلى ذلكَ سبيلاً.
قولُهُ في حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: (( مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ ) )التمسَ: طلبَ، ومنهُ قولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في ليلةِ القدرِ: (( الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ ) ).
وقولُهُ: (( رِضَا اللهِ ) )أيْ: أسبابَ رِضَاهُ.
وقولُهُ: (( بِسَخَطِ اللهِ ) )الباءُ للعِوَضِ؛ أيْ: أنَّهُ طلبَ ما يُرْضِي اللهَ ولوْ سَخِطَ الناسُ بِهِ بدلاً مِنْ هذا الرِّضَا، وجوابُ الشرطِ: (( رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ ) ).
وقولُهُ: (( رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ ) )هذا ظاهرٌ، فإذا التمسَ العبدُ رِضَا ربِّهِ بنيَّةٍ صادقةٍ رَضِيَ اللهُ عنْهُ؛ لأنَّهُ أكرمُ مِنْ عبدِهِ، وأرْضَى عنْهُ الناسَ، وذلكَ بما يُلْقِي في قلوبِهِم مِن الرِّضا عنهُ ومحبَّتِهِ؛ لأنَّ القلوبَ بينَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أصابِعِ الرحمنِ يُقَلِّبُها كيفَ يشاءُ.
قولُهُ: (( وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ ) )التمسَ: طلبَ؛ أيْ: طَلَبَ ما يُرضِي الناسَ ولوْ كانَ يُسْخِطُ اللهَ.
فنتيجةُ ذلكَ أنْ يُعَامَلَ بنقيضِ قَصْدِهِ؛ ولهذا قالَ: (( سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِ، وأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ ) )فأَلْقَى في قلوبِهِم سَخَطَهُ وكرَاهِيَتَهُ.
ومناسبةُ الحديثِ للترجمةِ:
في قولُهُ: (وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ) أيْ: خوفًا مِنْهُمْ حتَّى يَرْضَوْا عنْهُ، فقَدَّمَ خوْفَهُم على مخافةِ اللهِ.
فيهِ مَسائِلُ:
الأُولَى:
(تَفْسيرُ آيَةِ آلِ عِمْرانَ)
وهيَ قولُهُ تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
الثانيَةُ: (تفسيرُ آيَةِ بَرَاءة)
وهيَ قولُهُ تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} . وسبقَ.
الثالثةُ: (تَفْسيرُ آيَةِ الْعَنْكَبُوتِ)
وهيَ قولُهُ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ} وقدْ تكلَّمْنَا على تفسيرِهَا فيما سبقَ.
الرابعةُ:
(أنَّ اليقينَ يَضْعُفُ ويَقْوَى)
تُؤْخَذُ مِن الحديثِ (( إِنَّ مِنْ ضَعْفِ الْيَقِينِ... ) )الحديثَ.
الخامسةُ: (عَلامةُ ضَعْفِهِ، وَمِنْ ذلِكَ هَذهِ الثَّلاثُ)
وهيَ أنْ تُرْضِيَ الناسَ بسَخَطِ اللهِ، وأنْ تحْمَدَهُمْ على رزقِ اللهِ، وأنْ تذُمَّهُمْ على ما لمْ يُؤْتِكَ اللهُ.
السادسةُ: (أنَّ إخلاصَ الخوْفِ للهِ مِن الفرائضِ)
تُؤخَذُ منْ قولِهِ في الحديثِ: (( مَنِ الْتَمَسَ... ) )الحديث، ووَجْهُهُ ترتيبُ العقوبةِ على مَنْ قدَّمَ رضا الناسِ على رضا اللهِ تعالى.
السابعةُ: (( ذِكْرُ ثوابِ مَنْ فَعَلَهُ ) )
وهوَ رضا اللهِ عنهُ، وأنَّهُ يُرْضِي عنهُ الناسَ، وهوَ العاقبةُ الحميدةُ.
الثامنةُ: (( ذِكْرُ عِقابِ مَنْ تَرَكَهُ ) )
وهوَ أنْ يَسْخَطَ اللهُ عليهِ، ويُسْخِطَ عليهِ الناسَ، ولا ينالُ مقْصُودَهُ.
وخُلاصةُ البابِ:
أنَّهُ يجبُ على المرءِ أنْ يجعلَ الخوفَ من اللهِ فوقَ كلِّ خوفٍ،
وأنْ لا يُبَاليَ بأحدٍ في شريعةِ اللهِ تعالى، وأنْ يعلمَ أنَّ مَن التمسَ رضا اللهِ تعالى وإنْ سَخِطَ الناسُ عليهِ، فالعاقبةُ لَهُ.
وإن التمسَ رضا الناسِ وتعلَّقَ بهمْ وأسخطَ اللهَ انقَلَبَتْ عليهِ الأحوالُ، ولم يَنَلْ مقصودَهُ، بلْ حصلَ لَهُ عكسُ مقصودِهِ، وهوَ أنْ يَسْخَطَ اللهُ عليهِ ويُسْخِطَ عليهِ الناسَ.
قال ابن رجب في (نور الاقتباس) (ص: 89) : (فمن تحقق أن كل مخلوق من تراب فهو تراب، فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب؟! أم كيف يرضي التراب بسخط الملك الوهاب؟! إن هذا لشيء عجاب) .