فهرس الكتاب
الصفحة 3 من 93

ولهذا أَعْطَى اللهُ البشرَ عُقولاً، وأرسلَ إليهم رُسلاً، وأنزلَ عليهم كُتُبًا، ولوْ كانَ الغرَضُ مِنْ خَلْقِهم كالغرضِ مِنْ خَلْقِ البهائِمِ، لضاعتِ الحكمةُ مِنْ إرسالِ الرُّسلِ، وإنزالِ الكُتُبِ؛ لأنَّهُ في النهايَةِ يكونُ كشجرةٍ نَبَتَتْ، فنَمَتْ، ثمَّ تحَطَّمَتْ.

-ولهذا قال تعالَى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} فلا بدَّ أنْ يَرُدَّكَ إلى معادٍ تُجازَى على عَملِكَ، إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشرٌّ.

وليسَت الحكمةُ مِنْ خلْقِهم نفْعَ اللهِ بذلك، ولهذا قال تعالَى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} .

-وأما قولُهُ تعالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} .

فهذا ليسَ إقراضًا للهِ سبحانَه، بلْ هوَ غنيٌّ عنه، لكنه سُبحانَه شبَّه معاملةَ عبدِهِ لهُ بالقَرْضِ؛ لأنَّهُ لا بدَّ مِنْ وفائِهِ، فكأنَّه التزامٌ مِن اللهِ سبحانَهُ أنْ يُوَفِّيَ العاملَ أجرَ عملِهِ، كما يُوَفِّي المُقْتَرِضُ مَنْ أَقْرَضَهُ.

(2) قوله: {أمَّةٍ} تُطْلَقُ الأمَّةُ في القرآنِ على معانٍ منها:

الطائفةُ،كما في هذه الآيَةِ.

فكلُّ أمةٍ بُعِثَ فيها رسولٌ، مِنْ عَهدِ نوحٍ إلى عهدِ نبيِّنا محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.

والحكمةُ مِنْ إرسالِ الرُّسل تشتمل على ثلاث مقاصد:

الأول: إقامةُ الحُجَّةِ،قال تعالَى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} .

الثاني: الرحمةُ، لقولِهِ تعالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} .

الثالث: بيانُ الطَّريقِ المُوصِلِ إلى اللهِ تعالَى؛لأنَّ الإنسانَ لا يَعْرِفُ ما يَجِبُ للهِ على وجهِ التفصيلِ إلاَّ عنْ طريقِ الرُّسلِ.

قولُهُ: {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ} ، (أنْ) : قيل: تفسيريَّةٌ،وهيَ التي سُبِقَتْ بما يدلُّ على القولِ دونَ حروفِهِ، كقولِهِ تعالَى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ} والوحيُ فيهِ معنى القولِ دونَ حروفِهِ، والبعثُ متضمِّنٌ معنى الوحْيِ؛ لأنَّ كُلَّ رسولٍ مُوحًى إليهِ.

وقيل:إنَّها مصدريَّةٌ على تقديرِ الباءِ،أيْ: بأنْ اعبدوا، والراجحُ: الأوَّلُ لعدمِ التقديرِ.

-قولُهُ: {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ} أيْ: تذَلَّلُوا لهُ بالعبادةِ، وسبقَ تعريفُ العبادةِ.

-قولُهُ: {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} أي: ابْتَعِدُوا عنه بأنْ تكونوا في جانبٍ، وهوَ في جانبٍ.

والطاغوتُ: مُشْتَقٌّ من الطُّغْيانِ، وهوَ صفةٌ مُشَبَّهةٌ.

والطغيانُ: مُجَاوَزةُ الحدِّ، كما في قولِهِ تعالَى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} أيْ: تَجَاوَزَ حدَّهُ.

وأَجْمَعُ ما قِيلَ في تعريفِهِ، هوَ ما ذكرَه ابنُ القيِّمِ رحِمَهُ اللهُ، بأنَّهُ: (ما تجاوَزَ بهِ العبدُ حدَّهُ مِنْ متبوعٍ، أوْ معبودٍ، أوْ مُطاعٍ) .

ومُرادُهُ مَنْ كان راضيًا بذلكَ، أوْ يقالُ: هوَ طاغوتٌ باعتبارِ عابدِهِ، وتابعِهِ، ومُطيعِهِ؛ لأنَّهُ تجاوَزَ بهِ حدَّهُ؛ حيثُ نزَّلهُ فوقَ مَنْزلتِهِ التي جَعَلها اللهُ لهُ، فتكونُ عبادتُهُ لهذا المعبودِ، واتَّباعُهُ لمتبوعِهِ، وطاعتُهُ لِمُطاعِهِ، طُغْيانًا لمجاوزتِهِ الحدَّ بذلكَ.

وقد يجتمع المعنيان فيكون طاغوتاً باعتبار عابده وتابعه ومطيعه، وطاغوتاً باعتبار رضاه بذلك.

فالمتبوعُ مثلُ: الكُهَّانِ، والسَّحَرةِ، وعلماءِ السُّوءِ.

والمعبودُ مثلُ: الأصنامِ.

والمطاعُ مثلُ: الأمراءِ الخارجينَ عَن طاعةِ اللهِ، فإذا اتَّخذهم الإنسانُ أربابًا يُحِلُّ ما حرَّمَ اللهُ منْ أجلِ تحليلِهم لهُ، ويُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ مِنْ أجلِ تحريمِهم لهُ، فهؤلاءِ طواغيتُ، والفاعلُ تابعٌ للطاغوتِ؛ قال تعالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَِالطَّاغُوتِ} ولمْ يقلْ: إنَّهُم طواغيتُ.

والتوحيدُ لا يَتِمُّ إلاَّ برُكْنيْنِ هما:

-الإثباتُ.

-النفْيُ.

إذ النفيُ المحضُ تعطيلٌ محضٌ، والإثباتُ المحضُ لا يمنعُ المشاركةَ.

مثالُ ذلكَ: (زيْدٌ قائمٌ) يدلُّ على ثبوتِ القيامِ لزيدٍ، لكنْ لا يدلُّ على انفرادِهِ بهِ.

و (لَم يقُمْ أحدٌ) هذا نفيٌ محضٌ، و (لمْ يقُمْ إلاَّ زيدٌ) هذا توحيدٌ لهُ بالقيامِ؛ لأنَّهُ اشْتَملَ على إثباتٍ ونفيٍ.

ووجهُ الاستشهادِ بهذه الآيَةِ لكتابِ التوحيدِ:

أنَّها دالَّةٌ على إجماعِ الرسلِ -عليهمُ الصلاةُ والسلامُ- على الدعوةِ إلى التوحيدِ، وأنَّهُم أُرْسِلوا بهِ لقولِهِ تعالَى: {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} .

(1) قولُه: {وقَضَى} قضاءُ اللهِ -عزَّ وجلَّ- يَنْقَسِمُ إلى قسمين:

الأول:قضاءٌ شَرْعِيٌّ.

الثاني:قضاءٌ كَوْنيٌّ.

فالقضاءُ الشرعيُّ:يجوزُ وقوعُه مِن المَقْضِي عليه وعدمُه، ولا يكونُ إلا فيما يحبُّه اللهُ.

كالمذكور في هذه الآيةِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} فتكونُ {قَضَى} بمعنى: شرَع، أو بمعنى: وصَّى، وما أشْبَهَهما.

والقضاءُ الكونيُّ: لابُدَّ من وقوعِه، ويكونُ فيما أحَبَّه اللهُ وفيما لا يُحِبُّه كقولِه تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} . فالقضاءُ هنا كونيٌّ؛ لأنَّ اللهَ لا يَشْرَعُ الفسادَ في الأرضِ، ولا يُحِبُّه.

فإن قيل: ثبتَ أنَّ اللهَ قَضَى كَونًا ما لا يُحِبُّه، فكيف يَقْضِي اللهُ ما لا يُحِبُّه؟

والجوابُ: أنَّ المحبوبَ قسمانِ:

أحدهما:محبوبٌ لذاتِه.

والآخر: محبوبٌ لغيرِه.

فالمحبوبُ لغيرِه: قد يكونُ مَكْرُوهًا لذاتِه، ولكن يُحَبُّ لما فيه مِنَ الحكمةِ والمصلحةِ، فيكون حينئذٍ محبوبًا مِن وجهٍ؛ مكروهًا مِن وجهٍ آخرَ.

كالفسادِ في الأرضِ الذي وقع مِن بني إسرائيلَ هو في حدِّ ذاتِهِ مكروهٌ للهِ؛ لأنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفسادَ، ولكنْ للحكمةِ التي يَتَضَمَّنُها وكان محبوبًا إلى اللهِ -عزَّ وجلَّ- مِن وجهٍ آخرَ.

ومِنْ ذلك: القحطُ، والجدْبُ، والمرَضُ، والفقْرُ؛ لأنَّ اللهَ رحيمٌ لا يُحِبُّ أنْ يُؤْذِيَ عبادَه بشيءٍ مِن ذلك، بل يريدُ بعبادِه اليُسرَ، لكن يُقَدِّرُه للحِكَمِ المُتَرَتِّبةِ عليه، فيكونُ محبوبًا إلى اللهِ من وجهٍ، مكروهًا مِن وجهٍ آخر.

-قال اللهُ تعالى: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .

والشاهدُ من هذه الآيةِ:

قولُه تعالى: {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} فهذا هو التوحيدُ لتضمُّنِه للنفيِ والإثباتِ.

(2) قولُه: {وَلا تُشْرِكُوا} في مقابلِ (لا إِلَهَ) لأنها نفيٌ.

-وقولُه: {وَاعْبُدُوا} في مقابلِ (إِلا اللهُ) لأنها إثباتٌ.

-وقولُه: {شَيْئًا} نكرةٌ في سياقِ النهيِ، فتعُمُّ كلَّ شيءٍ: لا نبيًّا، ولا مَلَكًا، ولا وليًّا، بل ولا أمرًا مِن أمورِ الدُّنيا، فلا تَجْعَلِ الدُّنيا شَريكًا مَع الله.

والإنسانُ إذا كان هَمُّه الدنيا كان عابدًا لها؛ كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (( تَعِسَ عبدُ الدنيارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرهَمِ، تَعِسَ عَبدُ الخَمِيلةِ، تَعِسَ عبدُ الخَمِيصَة ) ).

(3) الخطابُ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أمرَه اللهُ أنْ يقولَ للناسِ: {تَعَالَوْا} أي: أَقْبِلوا، وهَلُمُّوا، وأصلُه من العلوِّ كأنَّ المناديَ يُنَادِيكَ أنْ تَعْلُوَ إلى مكانِه، فيقولُ: تَعَالَ، أي: ارْتَفِعْ إليَّ.

-وقولُه: {أَتْلُ} بالجزمِ جوابًا للأمرِ في قولِهِ: {تَعَالَوْا} .

-وقولُه: {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} {ما} اسمٌ موصولٌ مفعولٌ لأَتْلُ، والعائدُ محذوفٌ، والتقديرُ: ما حَرَّمَهُ رَبُّكم عليكم.

-وقال: {رَبُّكُمْ} ولم يقلْ: ما حَرّمَ اللهُ؛ لأنَّ الرَّبَّ هنا أنسبُ؛ حيثُ إنّ الربَّ له مُطْلَقُ التصرفِ في المربوبِ والحكمُ عليه بما تَقْتَضِيه حكمتُه.

-قولُه: {أَلا تُشْرِكُوا} أنْ: تفسيريةٌ، تُفَسِّرُ {أتل} أي: أتلو عليكم ألا تُشْرِكوا به شيئًا، وليستْ مصدريةً، وقد قيل به، وعلى هذا القولِ تكونُ (لا) زائدةً، ولكنَّ القولَ الأولَ أصحُّ أي: أتلُ عليكم عدَمَ الإشراكِ؛ لأنَّ اللهَ لم يُحَرِّمْ علينا أنْ لا نُشْرِكَ بهِ، بل حَرَّمَ علينا أن نُشْرِكَ به، ومما يُؤَيِّدُ أنَّ (أن) تفسيريةٌ أن (لا) هنا ناهيةٌ لتَتَنَاسَبَ الجُمَلُ، فتكونَ كلُّها طلبيةً.

وقد تضمنت هذه الآيات خمس وصايا في الآية الأولى:

الأولى: توحيد الله.

الثانية:الإحسان بالوالدين.

الثالثة:أن لا نقتل أولادنا.

الرابعة:أن لا نقرب الفواحش.

الخامسة:أن لا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.

وأربعُ وصايا في الآية الثانية:

الأولى:أن لا نقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن.

الثانية:أن نوفي الكيل والميزان بالقسط.

الثالثة:أن نعدل إذا قلنا.

الرابعة:أن نوفي بعهد الله.

ثم قال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} وهذه هي الوصيةُ العاشرة.

-فقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي} يحتمل أنّ المشارَ إليه ما سبق؛ لأنك لو تأملتَه وجدته محيطًا بالشرعِ كله إما نصًّا، وإما إيماءً.

ويُحتمل أنّ المرادَ به ما عُلِمَ من دين الله، أي: هذا الذي جاءكم بهِ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ هو صراطي، أي الطريقُ الموصلُ إليه سبحانه وتعالى.

-قوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي: ذلك المذكورُ وصاكم به لتنالوا درجةَ التقوى، والالتزامِ بما أمر اللهُ به ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.

(4) قوله: (وصيةِ مُحَمَّدٍ) الوصيةُ بمعنى: العهدِ، ولا يكون العهدُ وصيةً إلا إذا كانَ في أمرٍ مهمٍّ.

-وقوله: (الّتي عَلَيها خاتَمهُ) الخاتم: بمعنى التوقيع.

وهي ليست وصيةً مكتوبةً مختومًا عليها، لأنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لم يوصِ بشيءٍ، لكن ابن مسعودٍ رضيَ الله عنهُ يرى أنّ هذه الآياتِ قد شمِلت الدِّين كُلّه فكأنها الوصيةُ التي ختَمَ عليها رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وأبقاها لأُمَّته.

وهيَ آياتٌ عظيمةٌ إذا تدبرها الإنسانُ وعمِل بها حصَلت له الأوصافُ الثلاثةُ الكاملةُ العقلُ والتذكُّرُ والتَّقوى.

(5) قولهُ: (رديف) بمعنى رادفٍ أي: راكبٌ معه خلفَه، فهو فعيلٌ بمعنى فاعلٍ مثل: رحيمٍ بمعنى راحمٍ، وسميعٍ بمعنى سامعٍ.

قوله: (( ما حَقُّ اللهِ عَلَى العبادِ ) )أي: ما أوجَبه عليهِم، وما يجبُ أن يعاملوه به، وألقاه على معاذٍ بصيغةِ السؤالِ ليكون أشدَّ حضورًا لقلبِه، حَتى يفهَم ما يقوله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.

قوله: (( وما حَقُّ العِبادِ علَى اللهِ؟ ) )أي: ما يجبُ أن يعاملَهم به، والعبادُ لم يوجبوا شيئًا، بل اللهُ أوجبه على نفسِه فضلاً منه على عبادِه، قالَ تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

فأوجبَ سبحانَه على نفسِه أنْ يرحمَ مَنْ عمِل سوءًا بجهالةٍ أي: بسَفَهٍ وعدَم حُسنِ تصرفٍ ثم تابَ مِن بعدِ ذلك وأصلَح.

ومعنى {كتَب} أي: أوْجبَ.

قال ابن تيمية: (كون المطيع يستحق الجزاء فهو استحقاق إنعام وفضل من الله، ليس استحقاق مقابلة، كما يستحق المخلوق على المخلوق)

قوله: (يَعْبُدُوهُ) أي: يتذللوا له بالطاعةِ.

قوله: (وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) أي: في عبادتهِ وما يختصُّ به، وشيئًا نكرة في سياق النفي، فتعمُّ كلَّ شيءٍ لا رسولاً ولا ملكًا ولا وليًّا ولا غيرهم.

وقوله: (وَحَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ لا يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) وهذا الحقُّ تفضلَ اللهُ به على عبادِه، ولم يوجبه عليه أحدٌ، ولا تظن أن قوله: (( مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ) )أنه مجردٌ عن العبادةِ؛ لأن التقدير: مَنْ يعبدُه ولا يشركُ به شيئًا، ولم يذكر قوله: (من يعبده) لأنه مفهومٌ من قوله: (( وَحَقُّ العِبَادِ ) )ومن كان وصفُه العبوديةَ فلا بد أن يكون عابدًا.

ومَن لَم يعبدِ اللهَ ولَم يُشرك بهِ شيئًا هل يعذبْ؟

الجوابُ: نعم،يُعذب لأن الكلامَ فيه حذفٌ، وتقديرُه: (مَن يعبده ولا يُشْرِكُ به شيئاً) ،ويدلُّ لهذا أمران:

الأولُ:قوله: (( حَقُّ العِبَادِ ) )ومن كان وصفُه العبوديةَ فلا بد أن يكون عابدًا.

الثاني:أن هذا مقابلٌ لما تقدم: (( أَنْ يَعْبُدُوهُ، وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ) )فَعُلِمَ أنّالمرادَ بقوله: (( لا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ) )أي: في العبادة.

ومعنى الحديث: أنّ الله لا يعذبُ من لا يشرك به شيئًا، وأنّ المعاصي تكون مغفورة بتحقيقِ التوحيدِ، ونَهى صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عن إخبارهم لئلا يتكلوا على هذه البشرى؛ لأنّ تحقيقَ التوحيد يستلزمُ اجتناب المعاصي؛ والمعاصي صادرةٌ عن الهوى، وهذا نوعٌ مِن الشرك، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} .

ومناسبةُ الحديثِ للترجمة: بيانُ فضيلةِ التوحيدِ، وأنه مانعٌ من عذابِ الله.

(6) فيه مسائل:

الأولى: (الحكمةُ من خلقِ الجن والإنس) لقوله: {ومَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} ، فالحكمةُ هي عبادةُ الله، لا أن يتمتعوا بالمآكل والمشارب والمناكحِ.

(7) والثانيةُ: (أنّ العبادة هي التوحيد) أي: أنّ العبادةَ مبنيّةٌ على التوحيد، فكل عبادة لا توحيد فيها ليست بعبادة، لا سيما وأنّ بعضَ السَّلف فسَّروا قوله تعالى: {إِلا لِيَعْبُدُونِ} إلا ليوحدون.

وهذا مطابقٌ تمامًا لما استنبطه المؤلِّف - رحمه الله - مِن أنّ العبادة هي التوحيد، فكل عبادةٍ لا تُبنى على التوحيدِ فهي باطلة، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (( قال الله تعالى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ ) ).

وقوله: (لأنّ الخصومة فيه) أي: بينَ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وقريش، فقريشٌ يعبدون الله يطوفون له ويُصلون، ولكن على غير الإخلاص والوجه الشرعي، فهي كالعدم، لعدم الإتيان بالتوحيد، قال تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ} .

(8) وقوله في الثالثةِ: (ففيه معنى قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} ) لَستم عابدين عبادتي، لأنّ عبادتكم مبنيةٌ على الشِّرك، فليست بعبادة لله تعالى.

(9) الرابعةُ: (الحكمة في إرسالِ الرسلِ) أخذها رحمه الله تعالى من قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} فالحكمةُ هي: الدعوةُ إلى عبادةِ الله وحده، واجتنابُ عبادةِ الطاغوتِ.

(10) الخامسةُ: (أنّ الرسالة عمت كل أمةٍ)

أخذَها من قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً} .

(11) السادسة: (أنّ دينَ الأنبياءِ واحدٌ) أخذها من قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} .

ومثله:قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} .

وهذا لا ينافي قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} لأنّ الشرعة العملية تختلفُ باختلاف الأممِ والأماكنِ والأزمنةِ.

-وأما أصلُ الدِّين فواحدٌ، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} .

(12) السابعة: (المسألة الكبيرة أن عبادةَ الله لا تحصُل إلا بالكفرِ بالطاغوت) ودليله قوله -تعالى-: {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} فمَن عبدَ الله ولَم يكفر بالطاغوتِ فليس بموحدٍ، ولهذا جَعل المؤلفُ رحمه الله هذهِ المسألة كبيرةً؛ لأنّ كثيرًا مِن المسلمين جَهِلها في زمانِه وفي زماننا الآن.

(13) الثامنةُ: (أنّ الطاغوتَ عامٌّ في كل ما عُبِدَ مِن دونِ الله) فكل ما عُبد مِن دونِ اللهِ فهو طاغوتٌ، وقد عرَّفه ابن القيم: (بأنه كلُّ ما تجاوزَ به العبدُ حدَّه من معبودٍ أو متبوعٍ أو مُطاعٍ) .

فالمعبودُ:كالصنمِ.

والمتبوعُ:كالعالِم.

والمطاعُ:كالأميرِ.

(14) التاسعةُ: (عِظمُ شأنِ الثلاثِ آياتٍ المحكماتِ في سورة الأنعام) (المحكماتُ) أي: التي ليسَ فيها نسخٌ، أَخَذَ ذلك من قول ابن مسعود رضي الله عنه.

(15) العاشرةُ: (الآياتُ المحكماتُ في سورةِ الإسراءِ) وهيَ قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} .

(16) (وفيها ثماني عَشرة مسألةً، بدأَها بقوله تعالى:

{لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولاً} وختَمها بقولِه تعالى: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} ، وقد نَبّهَنا الله سبحانه على عِظم شَأنِ هذه المسائلِ بقوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} ).

فبدأها اللهُ بالنهيِ عن الشركِ بقوله تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولاً} والقاعدُ ليس قائمًا، لأنه لا خيرَ لِمن أشركَ بالله، مذمومًا عندَ الله وعندَ أوليائهِ، مخذولاً لا ينتصِر في الدنيا ولا في الآخرةِ.

وختَمها بقوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} فهذهِ عقوبتُه عندما يُلقى في النارِ كلٌّ يلومُه ويدحَرُه فيندحرُ والعياذُ بالله.

(17) الحاديةَ عشرةَ: (آيةُ سورةِ النساءِ التي تُسمَّى آيةَ الحقوقِ العشرةِ بدأها بقولِه تعالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} ) فأحقُّ الحقوقِ حقُّ الله، ولا تنفعُ الحقوقُ صاحبها إذا أدّاها إلا به، فبُدِئت هذه الحقوقُ به، ولهذا لما سألَ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حكيمُ بن حزامٍ عمَّن كان يتصدقُ ويعتقُ ويصلُ رحِمه في الجاهليةِ هل له من أجرٍ؟

فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (( أسْلَمْتَ على ما أسْلَفْتَ مِنَ الخيرِ ) )فدلّ على أنه إذا لم يُسْلِم لم يكنْ له أجرٌ، فصارتِ الحقوقُ كلها لا تنفعُ إلا بتحقيقِ حقِّ الله.

(18) الثانيةَ عشرةَ: (التنبيهُ على وصيةِ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عند موته) وذلك مِن قولِ ابنِ مسعودٍ -رضي الله عنه- ولكنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- لم يوصِ بها حقيقةً، بل أشار إلى أننا إذا تَمسَّكنا بكتابِ الله فلنْ نَضلَّ بعده، ومِن أعظم ما جاءَ به كتابُ الله قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} .

(19) الثالثة عشرةَ: (معرفةُ حقِّ الله علينا) وذلكَ بأن نعبُده ولا نشركَ به شيئًا.

(20) الرابعة عشرةَ: (معرفةُ حقِّ العبادِ عليه إذا أدّوا حقه) وذلكَ بأن لا يعذِّب مَن لا يشركُ به شيئًا، أما مَن أشركَ فإنه حقيقٌ أنْ يعذَّبَ.

(21) الخامسةَ عشرةَ: (أنَّ هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابةِ) وذلك أنَّ معاذًا أخبر بها تأثمًا، أي: خروجًا عَن إثمِ الكِتمان عند موته بعدَ أنْ مات كثيرٌ من الصحابة، وكان -رضي الله عنه- علم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يخشى أن يُفتتن الناس بها ويتكلوا، ولم يُرد -صلى الله عليه وسلم- كتمها مطلقًا، لأنه لو أراد ذلك لم يخبر بها معاذًا ولا غيره.

(22) السادسةَ عشرةَ: (جوازُ كتمانِ العلمِ للمصلحةِ) إذْ إنَّ كتمان العلمِ على سبيل الإطلاق لا يجوزُ، لأنه ليس بمصلحةٍ، ولهذا أخبرَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- معاذًا ولم يكتم ذلكَ مُطلَقًا.

وأما كتمان العلمِ في بعض الأحوال،أو عَن بعض الأشخاصِ لا على سبيل الإطلاق فجائزٌ للمصلحةِ، كما كَتَم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، ذلك عَن بقيةِ الصحابة، خَشيةَ أنْ يَتَّكِلُوا عليه، وقال لمعاذ: (( لا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا ) ).

(23) السابعة عشرةَ: (استحبابُ بشارة المسلم بما يَسرُّهُ) لقوله: (أَفَلا أُبَشِّر النَّاسَ؟) وهذه مِن أحسن الفوائدِ.

(24) الثامنة عشرةَ: (الخوفُ من الاتكال على سعةِ رحمةِ اللهِ) وذلك لقوله: (( لا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا ) )لأنّ الاتكالَ على رحمةِ الله يسبب مفسدةً عظيمةً، هي: الأمنُ مِن مكرِ الله.

(25) التاسعة عشرةَ: (قولُ المسؤول عمّا لا يعلمُ: الله ورسوله أعلمُ) وذلك لإقرارِ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- مُعاذًا لَمَّا قالها، ولم يُنكر النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- على معاذٍ حيثُ عَطَفَ رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- على الله بالواو، وأنكرَ على مَن قال: (مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ) .

وقال: (( أَجَعَلْتَنِي للهِ نِدًّا، بَلْ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَه ) ).

فيقالُ: إنَّ الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- عنده عِلْمٌ من العلوم الشرعيةِ ما ليس عند القائل، ولهذا لم ينكر الرسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- على معاذٍ، بخلافِ العلوم الكونيةِ القدريةِ فالرسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- ليسَ عنده علمٌ منها.

فلو قيلَ: هل يحرُم صوْم العيدينِ؟

جاز أنْ نقول: الله ورسوله أعلم، ولهذا كان الصحابة إذا أَشكلَتْ عليهم المسائل ذهبوا إلى رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فيبيِّنها لهم.

ولو قيلَ: هل يُتوقَّع نزول مطر في هذا الشهرِ؟

لم يَجُز أن نقولَ: الله ورسولُه أعلَم؛ لأنه مِن العلومِ الكونيةِ.

(26) العشرونَ: (جوازُ تخصيص بعضِ الناسِ بالعلم دون بعضٍ) وذلكَ أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- خصَّ هذا العلم بمعاذ دونَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ، فيجوزُ أنْ نخصِّص بعضَ الناس بالعلمِ دون بعضٍ، حيث إنَّ بعض الناس لو أخبرته بشيءٍ مِن العلم افتتن، قال ابن مسعودٍ: (إِنَّكَ لَنْ تُحَدِّثَ قَوْمًا بِحَدِيثٍ لا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً) .

وقال علي: (حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ) .

فيحدَّث كلُّ أحدٍ حسب مقدرتهِ وفهمهِ وعقلهِ.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام