أنَّ الشِّركَ الأصغرَ: ما كانَ وسيلةً للأكبرِ، وإنْ لمْ يُطْلِق الشرعُ عليهِ اسمَ الشركِ، مثلَ: أنْ يعتمدَ الإنسانُ على شيءٍ كاعتمادِهِ على اللهِ لكنَّهُ لمْ يتَّخِذْهُ إلهًا، فهذا شِرْكٌ أصغرُ؛ لأنَّ هذا الاعتمادَ الذي يكونُ كاعتمادِهِ على اللهِ يؤَدِّي بهِ في النهايةِ إلى الشِّركِ الأكبرِ. وهذا التعريفُ أوْسَعُ من الأوَّلِ؛ لأنَّ الأوَّلَ يمنعُ أنْ تُطْلِقَ على شيءٍ أنَّهُ شِرْكٌ إلاَّ إذا كانَ لديكَ دليلٌ، والثاني يجعلُ كلَّ ما كانَ وسيلةً للشركِ فهوَ شركٌ، ورُبَّما نقولُ على هذا التعريفِ: إنَّ المعاصيَ كُلَّها شركٌ أصغرُ؛ لأنَّ الحاملَ عليها الهَوَى، وقدْ قالَ تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ } ولهذا أطلقَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ الشِّركَ على تاركِ الصلاةِ معَ أنَّهُ لم يُشْرِكْ، فقالَ: (( بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ والكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ ) ).
فالحاصلُ:
أنَّ المؤَلِّفَ رحِمَهُ اللهُ يقولُ: إنَّ هذا الشِّركَ فيهِ أكبرُ وأصغرُ؛ لأنَّهُم لم يرْتَدُّوا بهذا، وسبقَ وجهُ ذلكَ.
أما الشرك الجليُّ والخفيُّ:
فبعْضُهُمْ قالَ:
إنَّ الجليَّ والخفيَّ هوَ الأكبرُ والأصغرُ.
وبعضُهُمْ قالَ:
الجليُّ ما ظهَرَ للناسِ منْ أصغرَ أوْ أكبرَ،
كالحلفِ بغيرِ اللهِ والسجودِ للصنمِ، والخفيُّ ما لا يعْلَمُهُ الناسُ منْ أصغرَ أوْ أكبرَ، كالرياءِ واعتقادِ أنَّ معَ اللهِ إلهًا آخرَ.
وهذا هوَ المطابقُ للَّفْظِ، أنَّ الجليَّ: ما انجلى أمْرُهُ، والخفيَّ: ما خَفِيَ أمْرُهُ.
فقدْ يكونُ الحلفُ بغيرِ اللهِ إذا أعْلَنَهُ الإنسانُ منْ بابِ الجليِّ؛ لأنَّهُ أظهرُ وأعْلَنُ.
والرياءُ منْ بابِ الخفيِّ؛ لأنَّهُ لا يَطَّلِعُ عليهِ أحدٌ.
الثانيةَ عشْرةَ: (قولُهُ:(وَنَحْنُ حُدَثاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ ) )
معناهُ: أنَّهُ يعتذرُ عمَّا طَلَبوا حيثُ طَلَبُوا أنْ يجْعَلَ لهمْ ذاتَ أنواطٍ فهمْ يعتذرونَ لجهْلِهِم بكوْنِهم حُدَثَاءَ عهْدٍ بكُفْرٍ، وأمَّا غيْرُهم ممَّنْ سبقَ إسلامُهُ فلا يجْهَلُ ذلكَ.
وعلى هذا فنقولُ:
إنَّهُ ينبغي للإنسانِ أنْ يُقَدِّمَ الْعُذْرَ عنْ قوْلِهِ أوْ فعْلِهِ، حتَّى لا يُعرِّضَ نفسَهُ إلى القولِ بما ليسَ فيهِ.
ومعلومٌ حديثُ صفِيَّةَ حينَ شيَّعَها الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وهوَ مُعْتَكِفٌ فمرَّ رجُلانِ من الأنصارِ، فقالَ: (( إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ ) ).
الثالثةَ عشرةَ: (التكبيرُ عندَ التعجُّبِ...)
إلخ، تُؤْخَذُ منْ قوْلِهِ: (( اللهُ أَكْبَرُ إِنَّهَا السُّنَنُ ) )أي: اللهُ أكبرُ وأعظمُ مِنْ أنْ يُشْرَكَ بهِ.
وفي روايةِ الترمذيِّ أنَّهُ قالَ: (( سُبْحَانَ اللهِ ) )أيْ: تَنْزِيهٌ للهِ عمَّا لا يليقُ بهِ.
الرابعةَ عشرةَ: (سدُّ الذرائعِ)
الذرائعُ هي: الطرقُ المُوصِلَةُ إلى الشَّيْءِ.
والذرائعُ نوعانِ:
الأول:
ذرائعُ إلى أمورٍ مطلوبةٍ، فهذهِ لا تُسَدُّ، بلْ تُفْتَحُ وتُطْلَبُ.
الثاني:
ذرائعُ إلى أمورٍ مذمومةٍ، فهذهِ تُسَدُّ، وهوَ مرادُ المُؤَلِّفِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
وذاتُ أنواطٍ وسيلةٌ إلى الشركِ الأكبرِ، فإذا وَضَعُوا عليها أسلِحَتَهُم وتبَرَّكُوا بها يتدَرَّجُ بِهم الشيطانُ إلى عبادَتِها وسُؤَالِهِم حوائِجَهُم منها مُبَاشرةً؛ فلهذا سدَّ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ الذرائعَ.
الخامسةَ عشرةَ: (النهيُ عن التشبُّهِ بأهلِ الجاهليَّةِ)
تُؤْخَذُ منْ قولِهِ: (( قُلْتُمْ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ) )فَأَنْكَرَ عليهِمْ، وبهذا نعرفُ أنَّ الجاهليَّةَ لا تخْتَصُّ بمَنْ كانَ قَبْلَ زمنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، بلْ كُلُّ مَنْ جَهِلَ الحقَّ وعَمِلَ عَمَلَ الجاهلينَ فهوَ منْ أهلِ الجاهِليَّةِ.
السادسةَ عشرةَ: (الغضبُ عندَ التعليمِ)
والحديثُ ليسَ بصريحٍ في ذلكَ، ورُبَّمَا يُؤْخَذُ منْ قرائنِ قوْلِهِ: (( اللهُ أَكْبَرُ! إِنَّهَا السُّنَنُ... ) )لأنَّ قوَّةَ هذا الكلامِ تُفِيدُ الغضبَ.
السابعةَ عشرةَ: (القاعدةُ الكُلِّيَّةُ؛ لقولِهِ:(( إِنَّهَا السُّنَنُ ) ))
أي: الطُّرُقُ، وأنَّ هذهِ الأُمَّةَ ستَّتَبِعُ طُرُقَ مَنْ كانَ قبْلَها، وهذا لا يعني الحِلَّ، ولكِنَّهُ للتحذيرِ، والرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: (( سَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ إِلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةً ) ).
ومثْلُهُ قولُهُ: (( لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ ) )الحديثَ، وقوْلُهُ: (( إِنَّ الظَّعِينةَ تَذْهَبُ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا لاَ تَخْشَى إِلاَّ اللهَ ) )وما أشبهَ ذلكَ مِن الأمورِ التي أخبرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عنْ وُقُوعِها معَ تحْرِيمِها.
الثامنةَ عشرةَ: (أنَّ هذا عَلَمٌ منْ أعلامِ النبوَّةِ؛ لكوْنِهِ وقعَ كما أخبَرَ)
فإنْ قالَ قائلٌ:
إنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قدْ خطَبَ الناسَ بِعَرَفةَ وقالَ: (( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ) ).
الجوابُ:
إِنَّ يَأْسَهُ لا يدُلُّ على عدمِ الوقوعِ،
بلْ إنَّ الأمرَ يقعُ على خلافِ ما توَقَّعَهُ الشيطانُ؛ لأنَّ الشيطانَ لمَّا حَصَلَت الفتوحاتُ وقَوِيَ الإسلامُ ودخلَ الناسُ في دينِ اللهِ أفواجًا يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ سوى اللهِ في هذه الجزيرةِ، ولكنَّ حِكمةَ اللهِ تَأْبَى إلاَّ أنْ يكونَ ذلكَ، وهذا نقُولُهُ ولا بُدَّ لِئَلاَّ يُقالَ: إنَّ جميعَ الأفعالِ التي تقعُ في الجزيرةِ العربيَّةِ لا يُمْكِنُ أنْ تكونَ شِرْكًا.
ومعلومٌ أنَّ الشيخَ محَمَّدَ بنَ عبدِ الوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهُ جدَّدَ التوحيدَ في الجزيرةِ العربيَّةِ، وأنَّ الناسَ كانوا في ذلكَ الوقتِ فيهِم المشركُ وغيرُ المشركِ.
فالحديثُ أخبرَ عمَّا وقعَ في نفسِ الشيطانِ ذلكَ الوقتَ، ولكِنَّهُ لا يدُلُّ على عدَمِ الوقوعِ.
وهذا الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يقولُ: (( لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ) )وهوَ يُخَاطِبُ الصحابةَ وهمْ في جزيرةِ العربِ.
التاسعةَ عشرةَ: (أنَّ كلَّ ما ذَمَّ اللهُ بهِ اليهودَ والنصارى في القرآنِ أنَّهُ لنا)
هذا ليسَ على إطْلاقِهِ وظاهِرِهِ، بلْ يُحْمَلُ قولُهُ: (لَنَا) أيْ: لبعْضِنا، ويكونُ المرادُ بهِ المجموعَ لا الجميعَ كما قالَ العلماءُ في قوْلِهِ تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} والرسُلُ كانوا من الإنسِ فقطْ، فقوْلُهُ: (أنَّهُ لَنَا) أيْ: قدْ يكونُ مِنْ بعْضِنا.
فإذا وقعَ تشبُّهٌ باليهودِ والنصارى فإنَّ الذمَّ الذي يكونُ لهم يكونُ لنا، وما مِنْ أحدٍ مِن الناسِ إلاَّ وفيهِ شبَهٌ باليهودِ أو النصارى، فالَّذِي يعصي اللهَ على بصيرةٍ فيهِ شبَهٌ من اليهودِ، و الذي يَعْبُدُ اللهَ على ضلالةٍ فيهِ شبهٌ من النصارى، والذي يَحْسُدُ الناسَ على ما آتَاهُم اللهُ مِنْ فضْلِهِ فيهِ شبَهٌ من اليهودِ، وهَلُمَّ جَرًَّا.
وإنْ كانَ يَقْصِدُ رَحِمَهُ اللهُ: أنَّهُ لا بُدَّ أنْ يكونَ في الأُمَّةِ خَصْلَةٌ،
فهذا على إطلاقِهِ وظاهِرِهِ؛ لأنَّهُ قلَّ مَنْ يَسْلَمُ.
وإنْ أرادَ
أنَّ كُلَّ ما ذُمَّ بهِ اليهودُ والنصارى فهوَ لهذهِ الأُمَّةِ على سبيلِ العمومِ، فلا.
العِشْرُونَ: (أنَّهُ مُتَقَرِّرٌ عنْدَهُم أنَّ العباداتِ مَبْنَاهَا على الأمرِ...)
إلخ وهذا واضحٌ؛ فالعباداتُ مَبْنَاهَا على الأمرِ، فما لمْ يثبُتْ فيهِ أمرُ الشارعِ فهوَ بدعةٌ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (( مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ ) ).
وقالَ: (( إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ ) ).
فمَنْ تعَبَّدَ بعبادةٍ طُولِبَ بالدليلِ؛
لأنَّ الأصلَ في العباداتِ الحظرُ والمنعُ إلاَّ إذا قامَ الدليلُ على مشرُوعيَّتِهَا.
وأمَّا الأكلُ والمعاملاتُ والآدابُ واللباسُ وغيْرُها
فالأصلُ فيها الإباحةُ، إلاَّ ما قامَ الدليلُ على تحرِيمِهِ.
وقولُهُ: (مسائلِ القبرِ) التي يُسْأَلُ فيها الإنسانُ في قبْرِهِ:
مَنْ ربُّكَ؟
مَنْ نبِيُّكَ؟
ما دينُك؟
ففي هذه القِصَّةِ دليلٌ على مسائلِ القبرِ الثلاثِ، وليسَ مُرَادُهُ أنَّ فيها دليلاً على أنَّ الإنسانَ يُسْأَلُ في قبْرِهِ، أيْ: دليلٌ على إثباتِ الرُّبُوبِيَّةِ والنبُوَّةِ والعبادةِ.
(أمَّا مَنْ رَبُّكَ؟
فواضحٌ.
وأمَّا مَنْ نبيُّكَ؟
فمِنْ إخْبَارِهِ بالغيبِ)
قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:
(( لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ ) )فوقعَ كما أخبرَ.
(أمَّا ما دينُكَ؟ فمِنْ قوْلِهِم:
{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا}
)أيْ: مَأْلُوهًا معبُودًا، والعبادةُ هيَ الدِّينُ.
والمؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ، فَهْمُهُ دقيقٌ جدًّا لمعاني النصوصِ، فأحيانًا يصعُبُ على الإنسانِ بيانُ وجْهِ استنباطِ المسألةِ من الدليلِ.
الحاديةُ والعشرونَ: (أنَّ سُنَّةَ أهلِ الكتابِ مذمومةٌ كسُنَّةِ المشركينَ)
تُؤْخَذُ منْ قَوْلِهِ: (( كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَلِمُوسَى ) ).
الثانيةُ والعشرونَ: (أنَّ المُنْتَقِلَ من الباطلِ الذي اعتادَهُ قَلْبُهُ لا يُؤْمَنُ أنْ يكونَ في قلْبِهِ بقِيَّةٌ مِنْ تلكَ العادةِ)
وهذا صحيحٌ، فالإنسانُ المُنْتَقِلُ منْ شيءٍ سَوَاءً باطلاً أوْ لا، لا يُؤْمَنُ أنْ يكونَ في قلْبِهِ بقِيَّةٌ منْهُ، وهذهِ البقيَّةُ لا تَزُولُ إلاَّ بعدَ مُدَّةٍ؛ لقوْلِهِ: (وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ) فكأنَّهُ يقولُ ما سأَلْنَاهُ إلاَّ لأنَّ عنْدَنا بقِيَّةً منْ بقايا الجاهليَّةِ؛ ولهذا كانَ مِن الحكمةِ تغْرِيبُ الزَّانِي بعد جَلْدِهِ عنْ مكانِ الجريمةِ؛ لِئَلاَّ يعودَ إليها.
فالإنسانُ ينبغي لهُ أنْ يبتعدَ عنْ مواطنِ الكفرِ والشكِّ والفُسوقِ حتَّى لا يقعَ في قلْبِهِ شيءٌ منها.