قَالَ: صَلِّ هَا هُنا، فَصَلَّى بهم النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ علَى طَعَامٍ صَنَعُوهُ لهُ، فَجَعَلُوا يَتَذَاكَرُونَ، فذَكَرُوا رَجُلاً يُقالُ لهُ: مَالِكُ بنُ الدُّخْشُمِ، فَقَالَ بَعْضُهم: هُو مُنافِقٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (( لاَ تَقُلْ هَكَذَا، أَلَيْسَ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، ويُرِيدُ بذلكَ وجْهَ اللهِ؟ ) )ثُمَّ قَالَ: (( فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ.. ) )الحديث.
فنَهَاهُم أنْ يَقُولُوا هَكَذا؛ لأنَّهم لاَ يَدْرُونَ عَمَّا في قَلْبِهِ؛ فهوَ يَشْهَدُ أنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، وقدْ قالَ الرَّسُولُ ما قالَ، ولَمْ يَبَرِّئ الرَّجُلَ، بلْ أَتَى بِعَبارةٍ عَامَّةٍ بأنَّ اللهَ حَرَّمَ علَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللهُ، يَبْتَغِي بذلكَ وجْهَ الله.
ونَهَى أنْ نُطْلِقَ أَلْسِنَتَنا في عِبادِ اللهِ الذينَ ظَاهِرُهم الصَّلاَحُ، ونقولَ: هذا مُراءٍ، هذا فاسِقٌ، ومَا أَشْبَهَ ذلكَ؛ لأنَّنا لوْ أَخَذْنا بِما نَظُنُّ فسَدَتِ الدُّنيا والآخِرَةُ، فَكِثيرٌ مِن الناسِ نَظُنُّ بهم سوءًا، ولَكِنْ لاَ يَجُوزُ أنْ نقولَ ذلكَ، وظاهِرُهم الصَّلاَحُ، ولهذا قَالَ العُلَمَاءُ: يَحْرُمُ ظَنُّ السُّوءِ بِمُسْلمٍ ظَاهِرُهُ العَدَالَةُ.
(8) قولَهُ: (فإنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النارِ) أيْ: مَنَعَ منَ النَّارِ، أوْ مَنَعَ النَّارَ أنْ تُصِيبَهُ.
(9) قولُهُ: (مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) أيْ: يُشْتَرَطُ الإِخْلاَصُ، بدليلِ قولِهِ:
(( يَبْتَغِي بذلكَ وجْهَ اللهِ ) )أيْ: يَطْلُبُ وجْهَ اللهِ، ومَنْ طَلَبَ وجْهًا لاَ بُدَّ أنْ يَعْمَلَ كلَّ ما في وُسْعِهِ للوصولِ إليهِ؛ لأنَّ مُبْتَغِيَ الشيءِ يَسْعَى في الوصولِ إليهِ. فالحَديثُ واضِحُ الدَّلاَلَةِ علَى شَرْطيَّةِ العَمَلِ
لِمَنْ قالَ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) يَبْتَغِي بذلكَ وجْهَ اللهِ، ولذا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ عندَ قولِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (( مِفْتاحُ الجنَّةِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ) )لكِنْ مَنْ أَتَى بمِفْتاحٍ لاَ أَسْنَانَ لَهُ لاَ يُفْتَحُ لَهُ.
-قالَ شيخُ الإسْلاَمِ: (إنَّ المُبْتَغِيَ لاَ بُدَّ أنْ يُكَمِّلَ وسائلَ البُغْيَةِ، وإذا أَكْمَلَها حُرِّمَتْ عليهِ النارُ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا، فإذا أتَى بالحَسَناتِ علَى الوجْهِ الأَكْمَلِ، فإنَّ النَّارَ تَحْرُمُ عليهِ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا، وإنْ أَتَى بشيءٍ ناقصٍ فإنَّ الابتغاءَ فيهِ نَقْصٌ؛ فيكونُ تَحْرِيمُ النَّارِ عليهِ فيهِ نَقْصٌ، لكنْ يَمْنَعُهُ ما مَعَهُ مِن التَّوحيدِ مِنَ الخلودِ في النارِ.وكذا مَنْ زَنَى، أوْ شَرِبَ الخَمْرَ، أوْ سَرَقَ، فإذا فَعَلَ شيئًا مِنْ ذلكَ ثمَّ قَالَ حينَ فَعَلَهُ: أَشْهَدُ أنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، أبْتَغِي بذلكَ وجْهَ اللهِ، فهوَ كَاذِبٌ في زَعْمِهِ؛ لأنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ:(( لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) )فَضْلاً عنْ أنْ يكونَ مُبتغِيًا وجْهَ اللهِ).
وفي الحديثِ ردٌّ علَى المُرْجِئَةِ؛ فالمُرْجِئةُ يَقُولونَ: يَكْفِي قولُ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) دونَ ابتغاءِ وجْهِ اللهِ.
وفيهِ ردٌّ علَى الخَوَارِجِ والمُعْتَزِلَةِ؛لأنَّ ظاهِرَ الحديثِ أنَّ مَنْ فَعَلَ هذه المُحَرَّماتِ لاَ يُخلَّدُ في النَّارِ، لكنَّهُ مُسْتَحِقٌّ للعُقُوبَةِ، وهم يَقُولُونَ: إنَّ فَاعِلَ الكبيرَةِ مُخَلَّدٌ في النَّارِ.
(10) قولُهُ: (أَذْكُرُكَ وأَدْعُوكَ بِهِ) صِفَةٌ لشيءٍ؛ أيْ: كي أَذْكُرَكَ، وأَدْعُوَكَ بِهِ، وليست جوابَ الطَّلَبِ، فَمُوسَى عليهِ السَّلامُ طَلَبَ أَمْرَيْنِ:
أحدهما: ذِكْرُ اللهِ.
والآخر: دُعاؤهُ.
فأَجَابَهُ اللهُ بقولِهِ: (( قُلْ: لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ ) )وهذه الجُمْلَةُ ذِكْرٌ مُتَضَمِّنٌ للدُّعاءِ؛ لأنَّ الذَّاكِرَ يُرِيدُ رِضَا اللهِ عنه، والوُصُولَ إلَى دَارِ كَرَامَتِهِ، فهوَ ذِكْرٌ مُتَضَمِّنٌ للدُّعَاءِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي = حِبَاؤُكَ إنَّ شِيمَتَكَ الْحِباءُ
يعني: عَطَاؤُكَ.
واسْتَشْهَدَ ابنُ عباسٍ عَلَى أنَّ الذِّكْرَ بمعنَى الدُّعاءِ بقولِ الشَّاعِرِ:
إذَا أَثْنَى عَلَيْكَ العَبْدُ يَوْمًا= كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ
(11) قولُهُ: (كلُّ عبادِكَ يقولونَ هَذا) ليسَ المعنَى أَنَّها كَلِمَةٌ هَيِّنَةٌ كلٌّ يقولُها؛ لأنَّ مُوسَى عليهِ الصَّلاَةُ والسَّلاًمُ يَعْلَمُ عِظَمَ هذه الكَلِمَةِ، ولكنَّهُ أَرَادَ شيئًا يَخْتَصُّ بهِ؛ لأنَّ تَخْصِيصَ الإنْسانِ بالأمرِ يدلُّ عَلَى مَنْقَبةٍ لهُ ورِفْعَةٍ، فَبَيَّنَ اللهُ لمُوسَى أنَّهُ مَهْمَا أُعْطِيَ فَلَنْ يُعْطَى أَفْضَلَ مِنْ هذه الكَلِمَةِ، وأنَّ (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) أَعْظَمُ مِن السَّمَاواتِ والأَرْضِ ومَا فيهِنَّ؛ لأنَّها تَمِيلُ بِهِنَّ وتَرْجَحُ، فَدَلَّ ذلكَ
علَى فَضْلِ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) وعِظَمِها، لكنْ لاَ بُدَّ من الإتيانِ بشُرُوطِهَا.
أمَّا مُجَرَّدُ أنْ يقولَها القائلُ بلِسَانِهِ، فكَم مِنْ إنْسانٍ يَقُولُها، لكنَّها عندَهُ كالرِّيشَةِ، لاَ تُساوِي شيئًا؛ لأنَّهُ لَمْ يَقُلْها علَى الوجْهِ الذي تَمَّتْ بهِ الشُّرُوطُ، وانتَفَتْ المَوَانِعُ.
(12) قولُهُ: (والأَرَضِينَ السبعَ) في بَعْضِ النُّسَخِ بالرَّفْعِ، وهذا لاَ يَصْلُحُ؛ لأنَّهُ إذا عُطِفَ عَلَى اسمِ (إنَّ) قَبْلَ استكمالِ الخَبَرِ وجَبَ النَّصْبُ.
(13) قولُهُ: (مَالَتْ) أيْ: رَجَحَتْ حتَّى يَمِلْنَ.
قولُهُ: (عامِرَهُنَّ) أيْ: سَاكِنَهُنَّ، فالعَامِرُ للشيءِ هوَ الذي عُمِرَ بِهِ الشيءُ.
قولُهُ: (غيرِي) اسْتَثْنَى نَفْسَهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى؛ لأنَّ قولَ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) ثَنَاءٌ عَلَيهِ، والمُثْنَى عليهِ أَعْظَمُ مِن الثَّناءِ.
(14) قولُهُ: (قَالَ اللهُ تَعَالَى: يا ابنَ آدمَ...) إلخ: هذا مِن الأحاديثِ القُدْسِيَّةِ،
والحديثُ القُدْسِيُّ: ما رَوَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عنْ رَبِّهِ.
وقدْ أَدْخَلَهُ المُحَدِّثُونَ في الأحاديثِ النَّبَويَّةِ؛ لأنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ تَبْلِيغًا، وليسَ مِن القرآنِ بالإجماعِ، وإنْ كانَ كلُّ واحدٍ منهما قدْ بَلَّغَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أُمَّتَهُ عنِ اللهِ عزَّ وجَلَّ.
قولُهُ: (بِقُرَابِ الأرْضِ) أيْ: مَا يُقَارِبُها إِمَّا مَلْئًا، أوْ ثِقَلاً، أوْ حَجْمًا.
(15) قولُهُ (خَطَايا) جَمعُ: خَطِيئَةٍ، وهيَ الذنبُ،
والخَطَايا: الذُّنوبُ، ولوْ كانتْ صغيرةً، لقولِهِ تعالَى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} .
(16) قولُهُ: (لاَ تُشْرِكُ بِي شيئًا) جملةُ
(( لاَ تُشْرِكُ ) )في مَوْضِعِ نَصْبٍ علَى الحالِ مِن التاءِ؛ أيْ: لَقِيتَنِي في حَالٍ لا تُشْرِكُ بي شيئًا.
قولُهُ: (شيئًا) نَكِرَةٌ في سياقِ النَّفْيِ تُفِيدُ العُمُومَ؛ أيْ: لاَ شِرْكًا أَصْغَرَ ولاَ أَكْبَرَ.
وهذا قيدٌ عظيمٌ، قدْ يَتَهاونُ بهِ الإنسانُ، ويقولُ: أنا غيرُ مُشْرِكٍ وهوَ لاَ يَدْرِي، فحُبُّ المالِ مَثَلاً - بِحَيْثُ يُلْهِي عنْ طَاعَةِ اللهِ - مِن الإشْرَاكِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (( تعِسَ عَبْدُ الدِّينارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيلَةِ.. الحديثَ ) ).
فَسَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مَنْ كانَ همُّهُ الدِّينارَ عبدًا لهُ.
(17) قولُهُ: (لأََتَيْتُكَ بقُرَابِهَا مَغْفِرَةً) أيْ: أنَّ حَسَنَةَ التَّوْحيدِ عَظِيمَةٌ، تُكفِّرُ الخَطَايا الكبيرةَ إذا لَقِيَ اللهَ وهوَ لاَ يُشْرِكُ بهِ شيئًا.
والمغفرةُ: سَتْرُ الذَّنْبِ والتَّجاوزُ عنه.
ومناسبةُ الحديثِ للتَّرْجَمَةِ: أنه في هذا الحديثِ بيان فضلُ التوحيدِ، وأنَّهُ سببٌ لتكفيرِ الذنوبِ، فهوَ مُطَابِقٌ لقولِهِ في التَّرْجَمَةِ:
(وما يُكَفِّرُ مِن الذُّنوبِ) .
(18) قولُهُ:فيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: (سَعَةُ فَضْلِ اللهِ)
لقولِهِ: (( أَدْخَلَهُ اللهُ الْجنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَملِ ) ).
(19) الثانيَةُ: (كثرةُ ثوابِ التوحيدِ عندَ اللهِ) لقولِهِ: (( مَالَتْ بِهِنَّ: لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ ) ).
(20) الثالثةُ: (تَكْفيرُهُ معَ ذلكَ الذُّنوبَ) لقولِهِ: (( لأََتَيْتُكَ بِقُرَابِها مَغْفِرَةً ) )فالإنْسانُ قدْ تَغْلِبُهُ نَفْسُهُ أحيانًا، فيقعُ في الخَطَايا، لكنَّهُ مُخْلصٌ للهِ في عِبَادِتِهِ وطَاعَتِهِ، فحَسَنةُ التوحيدِ تُكَفِّرُ عنه الخَطَايا إذا لَقِيَ اللهَ بها.
(21) الرابعةُ: (تفسيرُ الآيَةِ التي في سُورَةِ الأنعامِ) وهيَ قولُهُ تعالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} .
فالظلمُ هنا الشِّركُ لقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (( أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ الرَّجُلِ الصَّالحِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ) ).
(22) الخامسةُ: (تأمَّل الخمسَ اللَّواتِي في حديثِ عُبَادَةَ)
وهن:
-الشَّهادَتَانِ.
-وأنَّ عيسَى عبدُ اللهِ ورسولُهُ، وكَلِمَتُهُ ألْقَاهَا إلَى مَرْيمَ، ورُوحٌ منهُ.
-وأنَّ الجنَّةَ حقٌّ.
-وأنَّ النارَ حقٌّ.
(23) السادسةُ: (أنَّكَ إذا جَمَعْتَ بينَهُ وبينَ حديثِ عِتْبانَ، وحديثِ أَبِي سعيدٍ، وحديثِ أنسٍ، وما بعدَهُ تَبَيَّنَ لكَ مَعْنَى قولِ:(لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) ، وتَبَيَّنَ خَطَأُ المَغْرُورينَ)
لأنَّهُ لاَ بُدَّ أنْ يَبْتَغِيَ بها وجْهَ اللهِ، وإذا كانَ كذلكَ فَلاَ بدَّ أنْ تَحْمِلَ المرءَ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ.
(24) السابعةُ: (التَّنْبِيهُ للشرْطِ الذي في حديثِ عِتْبانَ) وهوَ أنْ يَبْتَغِيَ بقولِهَا وجْهَ اللهِ، ولاَ يَكْفِي مجرَّدُ القولِ؛ لأنَّ المنافِقِينَ كانوا يَقُولُونَها، ولَمْ تَنْفَعْهم.
(25) الثامنةُ: (كونُ الأنبياءِ يَحْتاجُونَ للتَّنْبِيهِ عَلَى فَضْلِ: لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) فَغَيْرُهم مِنْ بَابِ أوْلَى.
(26) التاسعةُ: (التَّنْبِيهُ لرُجْحَانِها بِجَمِيعِ المَخْلوقاتِ، مَعَ أنَّ كثيرًا مِمَّن يقولُها يَخِفُّ مِيزَانُهُ) فالبَلاَءُ مِن القائلِ لاَ مِن القولِ؛ لأنَّهُ قدْ يكونُ اخْتَلَّ شرطٌ مِن الشروطِ، أوْ وُجِدَ مانعٌ مِن الموانعِ، فإنَّها تَخِفُّ بِحَسبِ ما عندَهُ، أمَّا القولُ نَفْسُهُ فَيَرْجَحُ بِجَميعِ المَخْلوقاتِ.
(27) العاشرةُ: (النَّصُّ عَلَى أنَّ الأَرَضينَ سَبْعٌ كالسماواتِ) لأنه لم يَرِدْ في القُرآنِ تَصْرِيحٌ بذلكَ، بلْ وَرَدَ صَرِيحًا أنَّ السَّماواتِ سَبْعٌ بقولِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ} وبالنسبةِ للأَرَضِينَ لم يَرِدْ إلاَّ قولُهُ تَعَالَى: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} فالمِثْلِيَّةُ بالكَيْفِيَّةِ غَيرُ مُرَادَةٍ، لظُهُورِ الفَرْقِ بينَ السَّماءِ والأرْضِ في الْهَيْئَةِ، والكَيْفِيَّةِ، والارْتِفَاعِ، والحُسْنِ، فبَقِيَت المِثْلِيَّةُ في العَدَدِ.
أمَّا السُّنَّةُ فهيَ صَرِيحةٌ جدًّا بأنَّها سَبْعٌ.
مثلُ قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (( مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ ) ).
(28) الحاديَةَ عشرةَ: (أنَّ لهنَّ عُمَّارًا) -أي: السَّماواتِ- وعُمَّارُهُنَّ المَلاَئِكَةُ.
(29) الثانيَةَ عشرةَ: (إثباتُ الصفاتِ خِلافًا للأشْعَرِيَّةِ) وفي بَعْضِ النُّسخِ (خِلافًا للمُعَطِّلَةِ) ، وهذه أَحْسَنُ؛ لأنَّها أَعَمُّ، حيثُ تَشْمَلُ الأَشْعَرِيَّةَ، والمُعْتَزِلَةَ، والجَهْمِيَّةَ، وغيرَهم، ففيهِ إثباتُ الوجْهِ للهِ سبحانَهُ بقولِهِ: (( يَبْتَغِي بذلِكَ وجْهَ اللهِ ) )وإثباتُ الكَلاَمِ بقولِهِ: (( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا ) )وإثْباتُ القولِ في قولِهِ: (( قُل: لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ ) ).
(30) الثالثةَ عشرةَ: (أنَّكَ إذا عَرَفْتَ حَديثَ أنسٍ عَرَفْتَ أنَّ قولَهُ في حديثِ عِتْبانَ:(( فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، يَبْتَغِي بِذلِكَ وجْهَ اللهِ ) )أنَّهُ تَرَكَ الشِّرْكَ) وفي بعضِ النُّسخِ: (إذَا تَرَكَ الشِّرْكَ) أيْ: أنَّ قولَهُ: (( حَرَّمَ عَلَى النارِ مَنْ قالَ: لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، يَبْتَغِي بذلِكَ ) )يَعْنِي تَرَكَ الشِّرْكَ، وليسَ مجرَّدَ قولِها باللسانِ؛ لأنَّ مَن ابْتَغَى وجْهَ اللهِ في هذا القولِ لاَ يُمْكنُ أنْ يُشْرِكَ أبدًا.
(31) الرابعةَ عشرةَ: (تَأَمَّل الجَمْعَ بينَ كونِ كلٍّ مِنْ عيسَى ومحمدٍ عبْدَيِ اللهِ ورَسُولَيْهِ)
مِنْ وجْهَيْنِ:
الأولُ:أنَّهُ جَمَعَ لكلٍّ منهما بينَ العبوديَّةِ والرسالَةِ.
الثاني:أنَّهُ جَمَعَ بينَ الرَّجُلَيْنِ، فتَبَيَّنَ أنَّ
عيسَى مثلُ مُحَمَّدٍوأنَّهُ عبدٌ ورسولٌ، وليسَ ربًّا ولاَ ابنًا للرَّبِّ سبحانَهُ.
(32) الخامسةَ عشرةَ: (مَعْرِفَةُ اخْتِصَاصِ عِيسَى بكَوْنِهِ كَلِمَةَ اللهِ) أيْ: أنَّ عِيسَى انْفَرَدَ عنْ مُحَمَّدٍ في أَصْلِ الخِلْقَةِ، فَقَدْ كانَ بكَلِمَةٍ، أمَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ خُلِقَ مِنْ مَاءِ أَبِيهِ.
(33) السادسةَ عشرةَ: (مَعْرِفَةُ كونِهِ رُوحًا منهُ) أيْ: أنَّ عيسَى رُوحٌ مِن اللهِ، و (مِنْ) هنا بَيَانِيَّةٌ، أوْ للابْتِدَاءِ، وليستْ للتَّبْعِيضِ؛ أيْ: رُوحٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ اللهِ، وليسَت بعضًا مِن اللهِ، بلْ هيَ مِنْ جُمْلَةِ الأَرْواحِ المَخْلُوقَةِ.
(34) السابعةَ عشرةَ: (مَعْرِفَةُ فَضْلِ الإيمانِ بالجنَّةِ والنَّارِ) لقولِهِ في حَديثِ عُبَادَةَ: (( وأنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، والنَّارَ حَقٌّ ) )والفَضْلُ أنَّهُ مِنْ أَسْبابِ دُخولِ الجنَّةِ.
(35) الثامنةَ عشرةَ: (مَعْرِفَةُ قولِهِ:(( عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ ) ))
أيْ: عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ ولوْ قَلَّ، أوْ عَلَى مَا كَانَ مِن العَمَلِ السيِّئِ ولوْ كَثُرَ، بشرطِ أنْ لاَ يَأْتِيَ بِمَا يُنافِي التَّوْحيدَ، ويُوجِبُ الخُلُودَ في النَّارِ، لكنْ لاَ بُدَّ مِن العَمَلِ، ولاَ يَلْزَمُ اسْتِكْمَالُ العَمَلِ الصَّالِحِ، كَمَا قَالَتِ المُعْتَزِلَةُ والخَوَارِجُ.
ولَمْ تُذْكَرْ أركانُ الإسْلاَمِ هنا؛لأنَّ مِنْهَا مَا يَكْفُرُ الإنسانُ بتَرْكِهِ، ومِنْها مَا لاَ يَكْفُرُ؛ فإنَّ الصَّحِيحَ أنَّهُ لاَ يَكْفُرُ إلاَّ بتَرْكِ الشَّهَادَتَيْنِ والصَّلاَةِ، وإنْ كَانَ رُوِيَ عن الإمامِ أحْمَدَ أنَّ جميعَ أركانِ الإسْلاَمِ يَكْفُرُ بتَرْكِهَا، لكنَّ الصَّحِيحَ خِلاَفُ ذلكَ.
(36) التاسعةَ عَشرةَ: (مَعْرِفَةُ أنَّ المِيزَانَ لَهُ كِفَّتانِ)
أَخَذَها المُؤَلِّفُ مِنْ قولِهِ: (( لوْ أنَّ السَّماواتِ.. إلخ، وُضِعَتْ في كِفَّةٍ، ولاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ في كِفَّةٍ ) ).
والظَّاهِرُ: أنَّ الذي في الحَديثِ تَمْثِيلٌ، يَعْنِي أنَّ قولَ: لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، أَرْجَحُ مِنْ كلِّ شيءٍ، وليسَ في الحديثِ أنَّ هذا الوزنَ في الآخِرَةِ، وكأنَّ المؤلِّفَ رَحِمَهُ اللهُ حَصَلَ عندَهُ انْتِقَالٌ ذِهْنِيٌّ، فانْتَقَلَ ذِهْنُهُ مِنْ هذا إلَى ميزانِ الآخرةِ.
قلت: لم يصرح إمام الدعوة -رحمه الله- بأنه ميزان الآخرة، فمراده بيان أن حقيقة الميزان إذا أطلق في لسان العرب فهو ذو كفتين كما في هذا الحديث، ويعرف به أن لميزان الآخرة كفتين.
(37) العشرونَ: (معرفةُ ذِكْرِ الوجْهِ) وجهُ اللهِ تَعَالَى صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ الخَبَرِيَّةِ الذَّاتيَّةِ التي مُسَمَّاهَا بالنِّسْبَةِ لَنَا أبعاضٌ وأجزاءٌ؛ لأنَّ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى مَا هُو مَعْنًى مَحْضٌ، ومنهُ ما مُسَمَّاهُ بالنِّسْبَةِ لَنَا أَبْعَاضٌ وأجزاءٌ، ولاَ نَقُولُ بالنِّسبةِ للهِ تَعَالَى أبعاضٌ، لأنَّنا نَتَحاشَى كَلِمَةَ التَّبْعِيضِ في جَانِبِ اللهِ تَعَالَى.