قولُهُ: (( وَصَلُّوا عَلَيَّ ) )هذا أمرٌ، أيْ: قولوا: اللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ، وقد أمَرَ اللهُ بذلِكَ في قولِهِ: {إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنواْ صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .
وفَضْلُ الصَّلاِة على النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- مَعْروفٌ، ومِنْهُ: (أنَّ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً واحدةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بها عَشْرًا) .
والصَّلاةُ مِن اللهِ على رسولِهِ لَيْسَ معناها كَمَا قالَ بعضُ أهلِ العلمِ: إنَّ الصَّلاةَ مِن اللهِ الرَّحمةُ، ومِن الملائكةِ الاسْتِغْفارُ، ومِن الآدَمِيِّين الدُّعاءُ.
فهذا لَيْسَ بصحيحٍ، بَلْ إنَّ صَلاةَ اللهِ على المرءِ ثَناؤُه عَلَيْهِ في المَلأِ الأعلى، كَمَا قالَ أبو العالِيةَ، وتَبِعَه على ذلِكَ المُحَقِّقُون مِنْ أهلِ العلمِ، ويرد عليه أن ثناء الله على العبد في الملأ الأعلى غيب لا يعلم إلا بطريق النقل، وتفسير الصلاة به لم يعرف في القرآن ولا في السنة ولا في كلام الصحابة.
ويَدُلُّ على بُطْلانِ القَوْلِ الأوَّلِ قولُهُ تعالى: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ). فعطَفَ الرَّحمةَ على الصَّلواتِ، والأَصْلُ في العطفِ المُغايَرةُ، ولأنَّ الرَّحمةَ تَكونُ لكلِّ أحدٍ، ولهذا أَجْمَعَ العلماءُ على أنه يَجوزُ أن تَقولَ: فلانٌ -رَحِمَه اللهُ-، واخْتَلَفُوا هل يَجوزُ أن تَقولَ: فُلانٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ؟.
فَمَنْ صَلَّى على مُحَمَّدٍ أَثْنَى اللهُ عَلَيْهِ في المَلأِ الأَعْلى عَشْرَ مَرَّاتٍ، وهذه نِعمةٌ كبيرةٌ.
قولُهُ: (( فَإِنَّ صَلاتَكُم تَبْلُغُني حَيْثُ كُنْتُمْ ) )حيثُ: ظرفٌ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ في مَحَلِّ نَصْبٍ، ويُقالُ فيها: حيثُ، وحَوْثُ، وحاثُ، لكنَّها قليلةٌ.
كيفَ تَبْلُغُه الصَّلاةُ عَلَيْهِ؟
الجوابُ:
نقولُ: إذا جاءَ مثلُ هذا النَّصِّ، وهو مِنْ أمورِ الغيبِ، فالواجبُ أنْ يُقالَ: الكَيْفُ مجهولٌ، لا نَعْلَمُ بأيِّ وَسيلةٍ تَبْلُغُه، لكنْ وَرَدَ عَن النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: (( إنَّ للهِ مَلائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الأَرْضِ يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِيَ السَّلامَ ) )فإنْ صَحَّ فهذهِ هي الكيفيَّةُ.
قولُهُ:(رَواه
أَبُو داودَ بإسنادٍ حَسَنٍ، ورُواتُه ثِقاتٌ)هذا التَّعْبيرُ مِن النَّاحِيةِ الاصْطِلاحيةِ ظاهرُه أنَّ بينَهما اخْتِلافًا، ولكنَّنا نَعْرِفُ أنَّ الحَسَنَ: هو أنْ يَكونَ الرَّاوِي خَفِيفَ الضَّبْطِ، فمعناه أنَّ فيه نَوْعًا مِن الثِّقَةِ، فيُجْمَعُ بينَ كلامِ المؤلِّفِ -رَحِمَهُ اللهُ- وبينَ ما ذَكَرَهُ عَنْ رِوايةِ أَبي دَاوُدَ بإسنادٍ حَسَنٍ: أنَّ المرادَ بالثِّقَةِ لَيْسَ غايةَ الثِّقَةِ؛ لأنَّه لو بَلَغَ إلى حَدِّ الثِّقةِ الغايةَ لَكانَ صحيحًا؛ لأنَّ ثِقةَ الرَّاوِي تَعُودُ على تَحَقُّقِ الوصفَيْنِ فيه، وهما: العَدالةُ والضَّبْطُ، فإذا خَفَّ الضَّبْطُ خَفَّت الثَّقةُ، كَمَا إذا خَفَّت العَدالةُ أيضًا تَخِفُّ الثِّقةُ فيه.
فيُجْمَعُ بَيْنَهُما على أنَّ المرادَ: مُطْلَقُ الثِّقةِ،
ولكنَّه لا شكَّ فيما أَرَى أنَّه إذا أَعْقَبَ قولَهُ: (حَسَنٌ) بقولِهِ: (رواتُه ثقاتٌ) أنَّه أعلى مما لو اقتصرَ على لفظِ: (حسنٍ) .
قولُهُ: (وعَنْ عليِّ بنِ الحُسَيْنِ) هو عليُّ بنُ الحُسَيْنِ بنِ عليِّ بنِ أَبي طالِبٍ، يُسَمَّى بزَيْنِ العابِدِينَ مِنْ أَفْضَلِ أهلِ البيتِ عِلْمًا وزُهْدًا وفِقْهًا.
والحُسَيْنُ: معروفٌ، ابنُ فاطِمةَ -رَضِيَ اللهُ عنها-، وأَبُوه: عليٌّ -رَضِيَ اللهُ عنه-.
قولُهُ: (يَجِيءُ إِلى فُرْجَةٍ) هذا الرَّجلُ لا شكَّ أنَّه لم يَتَكَرَّرْ مَجِيئُه إلى هذهِ الفُرْجَةِ إلاَّ لاعْتِقادِه أنَّ فيها فَضْلاً ومَزِيَّةً، وكونُهُ يَظُنُّ أنَّ الدُّعاءَ عندَ القبرِ له مَزِيَّةٌ فَتْحُ بابٍ ووَسيلةٌ إلى الشِّركِ، بَلْ جميعُ العباداتِ إذا كانَتْ عِنْدَ القبرِ فلا يَجوزُ أنْ يُعْتَقَدَ أنَّ لها مَزِيَّةً، سَواءٌ كانَتْ صَلاةً أو دُعاءً أو قِراءةً، ولهذا نَقولُ تُكْرَهُ القِراءةُ عِنْدَ القبرِ إذا كانَ الإنسانُ يَعْتَقِدُ أنَّ القِراءةَ عِنْدَ القبرِ أَفْضَلُ.
قولُه: (فَنَهَاهُ) أي: طَلَبَ منه الكَفَّ.
قولُه: (أَلا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا) قالَ: أُحَدِّثُكُم، والرَّجلُ واحدٌ؛ لأنَّ الظاهِرَ: أنَّه كانَ عِنْدَ أصحابِه يُحَدِّثُهم، فجاءَ هذا الرَّجلُ إلى الفُرْجَةِ.
و (ألا) أداةُ عَرْضٍ، أيْ: أَعْرِضُ عَلَيْكُم أن أُحَدِّثَكم، وفائدتُها: تَنبيهُ المُخاطَبِ إلى ما يُرِيدُ أنْ يُحَدِّثَه به.
قولُه:(عَنْ أَبي عَنْ
جَدِّي)أَبُوهُ: الحُسَيْنُ، وجَدُّه: عليُّ بنُ أَبي طالبٍ.
قولُهُ: (عَنْ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ) السَّنَدُ مُتَّصِلٌ، وفيه عَنْعَنةٌ، لكنَّها لا تَضُرُّه؛ لأنَّها مِنْ غيرِ مُدَلِّسٍ، فتُحْمَلُ على السَّماعِ.
قولُهُ:
(( لا تَتَّخِذوا قَبْري عِيدًا ) )يُقالُ فيه كَمَا في الحديثِ السَّابقِ: إنَّه نَهَى أنْ يُتَّخَذَ قبرُه عِيدًا يُعْتادُ ويُتَكَرَّرُ إليه؛ لأنَّه وَسيلةٌ إلى الشِّركِ.
قولُهُ:
(( ولا بُيوتَكُم قُبورًا ) )سَبَق مَعْناه.
قولُهُ:
(( وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلُغُني أَيْنَ كُنْتُم ) )اللَّفْظُ هكذا، وأَشُكُّ في صِحَّتِهِ؛ لأنَّ قولَهُ: (( صَلُّوا عَلَيَّ ) )يَقْتَضِي أنْ يُقالَ: فإنَّ صَلاتَكُم تَبْلُغُنِي إلاَّ أنْ يُقالَ هذا مِنْ بابِ الطَّيِّ والنَّشْرِ.
والمعنى: صَلُّوا عَلَيَّ وسَلِّموا، فإنَّ تَسْلِيمَكم وصَلاتَكُم تَبْلُغُنِي، وكأنَّه ذَكَرَ الفِعلين والعِلَّتين، لكنْ حَذَفَ مِن الأُولَى ما دَلَّتْ عَلَيْهِ الثَّانيةُ، ومِن الثانيةِ ما دلَّتْ عَلَيْهِ الأُولَى.
وقولُهُ: (( وَصَلُّوا عَلَيَّ ) )سَبَق معناها، والمرادُ: صَلُّوا عَلَيَّ في أيِّ مكانٍ كُنْتُم، ولا حاجةَ إلى أنْ تَأْتُوا إلى القَبْرِ وتُسَلِّموا عَلَيَّ وتُصَلُّوا عَلَيَّ عِنْدَه.
قولُه: (( يَبْلُغُني ) )تَقَدَّمَ كيفَ يَبْلُغُه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-.
قولُهُ: (رَوَاه في
(المُختارةِ ) ) الفاعلُ: مُؤلِّفُ المُخْتارةِ، و (المُخْتارةُ) : اسمٌ للكِتابِ، أيْ: الأحاديثُ المختارةُ.
والمؤلِّفُ هو: الضياء المَقْدِسِيُّ مِن الحَنابِلةِ.
فيه مسائلُ:
الأُولَى: (تفسيرُ آيةِ(براءةٌ ) ) وسَبَقَ ذلِكَ في أَوَّلِ البابِ.
الثانيةُ: (إبعادُه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أَمَّتَه عَنْ هذا الحِمَى غايةَ البُعدِ)
تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: (( لا تَجْعَلُوا بُيوتَكُم قُبورًا، وَلا تَجْعَلُوا قَبْرِيَ عِيدًا ) ).
الثالثةُ: (ذِكْرُ حِرْصِه علَيْنا ورَأْفَتِه ورَحْمَتِه)
وهذا مَذْكورٌ في آيةِ"بَرَاءةٌ".
الرَّابعةُ: (نَهْيُه عَنْ زِيارةِ قبرِهِ على وجهٍ مَخْصوصٍ)
تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: (( وَلا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا ) )فقولُهُ: (( عِيدًا ) )هذا هو الوجهُ المَخْصوصُ.
وزِيارةُ قبرِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- مِنْ أَفْضَلِ الأعمالِ مِنْ جِنْسِها، فزِيارتُه فيها سَلامٌ عَلَيْهِ، وحَقُّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أَعْظَمُ مِنْ حقِّ غيرِه.
وأمَّا مِنْ حيثُ التَّذْكِيرُ بالآخَرةِ فلا فَرْقَ بينَ قبرِهِ وقبرِ غيرِه.
الخامسةُ: (نَهْيُه عَن الإكثارِ مِن الزِّيارةِ)
تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: (( وَلا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا ) )لكنَّه لا يَلْزَمُ مِنْهُ الإكثارُ؛ لأنَّه قَدْ لا يَأْتِي إلاَّ بعدَ سَنَةٍ، ويَكونُ قد اتَّخَذَه عِيدًا، فإنَّ فيه نوعًا مِن الإكثارِ.
السَّادسةُ: (حَثُّه على النَّافلةِ في البيتِ)
تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: (( ولا تَجْعَلُوا بُيوتَكُم قُبورًا ) )
وسَبَقَ أنَّ فيها معنيين:
المعنى الأوَّلُ: أنْ لا يُقْبَرَ في البيتِ، وهو ظاهرُ الجُمْلةِ.
والثاني: الذي هو مِنْ لازِمِ المعنى أنْ لا تُتْرَكَ الصَّلاةُ فيها.
السَّابعةُ: (أنَّه مُقَرَّرٌ عِنْدَهُم أنَّه لا يُصَلَّى في المَقْبَرةِ)
تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: (( لا تَجْعَلُوا بُيوتَكُم قُبورًا ) )لأنَّ المعنى: لا تَجْعَلُوها قُبورًا، أي: لا تَتْرُكُوا الصَّلاةَ فيها على أَحدِ الوَجْهَين، فكأنَّه مِن المُتَقَرِّرِ عِنْدَهُم أنَّ المَقابرَ لا يُصَلَّى فيها.
الثَّامنةُ: (تعليلُ ذَلِكَ بأنَّ صَلاةَ الرَّجلِ وسَلامَه عَلَيْهِ يَبْلُغُه، وإنْ بَعُدَ فلا حاجةَ إلى ما يتَوَهَّمُه مَنْ أرادَ القُرْبَ)
أي: كَوْنُه نَهَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أنْ يُجْعَلَ قَبرُهُ عِيدًا، العِلَّةُ في ذلِكَ: أنَّ الصَّلاةَ تَبْلُغُه حيثُ كانَ الإنسانُ، فلا حاجةَ إلى أنْ يَأْتِيَ إلى قبرِهِ، ولهذا نُسَلِّمُ ونُصَلِّي عَلَيْهِ في أيِّ مكانٍ فيَبْلُغُه السَّلامُ والصَّلاةُ، ولهذا قالَ عليُّ بنُ الحُسَيْنِ: ما أَنْتَ ومَنْ في الأَنْدَلُسِ إلاَّ سَواءٌ.
التَّاسعةُ: (كَوْنُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- في البَرْزَخِ تُعْرَضُ أعمالُ أُمَّتِه في الصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَيْهِ)
أيْ: فَقَطْ فكلُّ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ أو سَلَّمَ عُرِضَتْ عَلَيْهِ صَلاتُه وسَلامُه، ويُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: (( فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلُغُني أين كُنْتُم ) ).