فإنَّ فعلَها مع أَخِيها لم يَسْتَدِلَّ عَلَيْهِا عبدُ اللهِ بنُ أَبِي مُلَيْكَةَ بَلَعْنِ زائِراتِ القُبُورِ، وإنَّما اسْتَدَلَّ عَلَيْهِا بالنَّهْيِ عَنْ زِيارةِ القبورِ؛ لأنَّه لو اسْتَدَلَّ عَلَيْهِا بالنَّهْيِ عَنْ زِيارةِ النِّساءِ للقبورِ، أو بلَعْنِ زائراتِ القبورِ، لكنَّا نَنْظُرُ بماذا سَتُجِيبُه؟
فهو اسْتَدَلَّ عَلَيْهِا بالنَّهْيِ عَنْ زيارةِ القبورِ مُطْلَقًا، ومعلومٌ أنَّ النَّهْيَ عَنْ زِيارةِ القبورِ كانَ عامًّا، ولهذا أَجابَتْهُ بالنَّسْخِ العامِّ، وقالَتْ: إنّه قَدْ أَمَرَ بذلِكَ، ونحنُ وإنْ كُنَّا نَقُولُ: إنَّ عائشةَ -رَضِيَ اللهُ عنها- اسْتَدَلَّتْ بلفظِ العُمومِ فهي كَغَيرِها مِن العُلماءِ لا يُعارَضُ بقولِها قولُ الرَّسولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، على أنَّه رُوِيَ عَنْها أنَّها قالَتْ: (( لَوْ شَهِدْتُكَ ما زُرْتُكَ ) )وهذا دَلِيلٌ على أنَّها -رَضِيَ اللهُ عنها-، خَرَجَتْ لِتَدْعُوَ له؛ لأنَّها لم تَشْهَدْ جِنازَتَه، لكنَّ هذه الرِّوَايةَ طَعَنَ فيها بعضُ العلماءِ وقالَ: إنَّها لا تَصِحُّ عَنْ عائشةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْها، لكنَّنا نَبْقَى على الرِّوايةِ الأُولَى الصَّحيحةِ، إذْ لَيْسَ فيها دَليلٌ على أنَّ الرَّسولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- نَسَخَهُ، وإذا فَهِمَتْ هي فلا يُعارَضُ بقولِها قولُ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
إشكالٌ وجوابُه:
في قولِه: (( زَوَّاراتِ القبورِ ) )ألاَ يُمْكِنُ أنْ يُحْمَلَ النَّهْيُ على تَكرارِ الزِّيارةِ؛ لأنَّ (( زَوَّاراتِ ) )صيغةُ مُبالَغةٍ؟
الجوابُ: هذا مُمْكِنٌ، لكنَّنا إذا حَمَلْناه على ذلِكَ فإنَّنا أَضَعْنَا دَلالةَ المُطْلَقِ (( زائِراتِ ) ).
والتَّضعيفُ قَدْ يُحْمَلُ على كَثْرةِ الفاعِلِين، لا على كَثْرةِ الفِعْلِ فـ (( زَوَّاراتِ ) )يَعْنِي النِّساءَ إذا كُنَّ مِائةً كانَ فِعلُهُنَّ كَثِيرًا، والتَّضْعيفُ باعتبارِ الفاعلِ موجودٌ في اللُّغةِ العربيةِ، قالَ تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ} .
فلمَّا كانَت الأبوابُ كَثِيرةً كانَ فيها التَّضْعِيفُ؛
إذْ البابُ لا يُفْتَحُ إلا مَرَّةً واحِدةً، و-أيضًا- قِراءةُ: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِّحَتْ} فهِيَ مِثلُها.
فالرَّاجِحُ: تحريمُ زِيارةِ النِّساءِ لِلمَقابرِ، وأنَّها مِنْ كَبائرِ الذُّنوبِ، وانْظُرْ كَلامَ شيخِ الإسلامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ في (مَجْموعِ الفَتاوَى) (24/343)
فيه مسائلُ:
الأُولَى:
(تفسيرُ الأوثانِ) وهي: كلُّ ما عُبِدَ مِنْ دونِ اللهِ سَواءٌ كانَ صَنَمًا أو قبرًا أو غيرَه.
الثانيةُ: (تفسيرُ العبادةِ)
وهي: التَّذلُّلُ والخُضوعُ للمعبودِ خوفًا ورَجاءً ومَحبَّةً وتعظيمًا لِقولِهِ: (( لا تَجْعَلْ قَبْري وَثَنًا يُعْبَدُ ) ).
الثالثةُ: (أنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- لم يَسْتَعِذْ إلا ممَّا يَخافُ مِنْ وقوعِهِ)
وذلِكَ في قولِهِ: (( اللهُمَّ لا تَجْعَلْ قَبْري وَثَنًا يُعْبَدُ ) ).
الرابعةُ:
(قَرْنُه بهذا اتِّخاذَ قبورِ الأنبياءِ مساجدَ) وذلِكَ في قولِهِ: (( اشْتدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ ) ).
الخامسةُ: (ذِكْرُ شِدَّةِ الغضبِ مِن اللهِ)
تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: (( اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ ) ).
وفيه:
إثباتُ الغضبِ مِن اللهِ حقيقةً،
لكنَّه كغيرِهِ مِن صِفاتِ الأفعالِ الَّتي نَعْرِفُ معناها ولا نَعْرِفُ كَيْفيَّتَها.
وفيه أنَّه يَتَفَاوَتُ:
كما ثبتَ في الحديثِ الصحيحِ حديثِ الشفاعةِ: (( إِنَّ رَبِّي غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لَمْ يَغضبْ مثلَه قَبْلَهُ ولا بعدَهُ ) ).
(20) السَّادسةُ: (وهِيَ مِنْ أَهَمِّها معرفةُ صِفةِ عِبادةِ اللاَّتِ الَّتي هِيَ مِنْ أكبرِ الأوثانِ)
وذلِكَ في قولِهِ: (( فَمَاتَ فعَكَفُوا عَلَى قَبْرِه ) ).
السَّابعةُ: (مَعرفةُ أنَّه قبرُ رجلٍ صالحٍ)
تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: (كانَ يَلُتُّ لَهُمُ السَّوِيقَ) أي: للحُجَّاجِ؛ لأنَّه مُعَظَّمٌ عندَهم، والغالِبُ لا يَكونُ مُعَظَّمًا إلا صاحبُ دِينٍ.
الثَّامنةُ: (أنَّه اسمُ صاحبِ القبر، وذكْرُ مَعْنى التَّسميةِ)
وهو أنَّه كانَ يَلُتُّ السَّوِيقَ.
التَّاسعةُ: (لَعْنُهُ زَوَّاراتِ القبورِ)
أيْ: النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وذَكَرَ -رَحِمَهُ اللهُ- لفظَ: (( زَوَّاراتِ القبورِ ) )مُراعاةً للَّفْظِ الآخَرِ.
العاشرةُ: (لعْنُهُ مَنْ أَسْرَجَها)
وذلِكَ في قولِهِ: (( والمُتَّخِذِين عَلَيْهِا المَسَاجِدَ والسُّرُجَ ) ).
وهنا مسألةٌ مُهِمَّةٌ لم تُذْكَرْ وهِيَ:
أنَّ الغُلُوَّ في قبورِ الصَّالحينَ يُصَيِّرُها أوثانًا، كما في قبرِ اللاَّتِ، وهذِهِ مِنْ أَهَمِّ المسائلِ، ولم يَذْكُرْها المؤلِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- ولعلَّهُ اكْتَفَى بالتَّرْجَمةِ عَنْ هذهِ المسألةِ بما حَصَلَ للاَّتِ، فإذا قِيلَ بذلِكَ فَلَهُ وَجْهٌ.
مسألةٌ: المَرْأةُ إذا ذهبَتْ للرَّوْضةِ في المسجدِ النَّبوِيِّ لِتُصَلِّيَ فيها، فالقبرُ قريبٌ منها فتَقِفُ وتُسَلِّمُ، ولا مانِعَ فيه، والأَحْسَنُ البُعدُ عن الزِّحامِ، ومُخالَطةِ الرِّجالِ، ولئلاَّ يَظُنَّ مَنْ يُشاهِدُها أنَّ المَرْأةَ يَجوزُ لها قَصْدُ الزِّيارةِ فيَقَعُ الإنسانُ في مَحْذورٍ، وتَسْليمُ المَرْءِ على النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- يَبْلُغُه حيثُ كانَ.