فهرس الكتاب
الصفحة 35 من 93

إِنّ مِنْ شِرارِ النَّاسِ )) مِنْ: للتَّبْعِيضِ، وشِرارِ: جمعُ شرٍّ، مثلُ صِحابٍ جمعُ صَحْبٍ، والمعنى: أصحابُ الشَّرِّ، وفي هذا دليلٌ على أنَّ الناسَ يَتَفاوَتون في الشَّرِّ، وأنَّ بعضَهم أَشَرُّ مِنْ بعضٍ.

قولُه: (( مَنْ تُدْرِكُهُم السَّاعةُ ) )مَن: اسمٌ مَوْصولٌ؛ اسمُ إنَّ، والسَّاعةُ، أيْ: يومُ القيامةِ، وسُمِّيَتْ بذلِكَ؛ لأَِنَّها داهِيةٌ، وكلُّ شيءٍ داهِيةٍ عَظِيمةٍ يُسَمَّى ساعةً، كَمَا يُقالُ: هذه ساعتُك. في الأمورِ الدَّاهيةِ الَّتي تُصِيبُ الإنسانَ.

قولُه: (( وَهُمْ أَحياءٌ ) )الجملةُ حالٌ من الهاءِ في (( تُدْرِكُهُمْ ) ).

وفي قولِهِ: (( تُدْرِكُهُم السَّاعةُ وَهُمْ أَحياءٌ ) )إشْكالٌ، وهو أنَّه ثَبَتَ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ قولُه: (( لا تَزالُ طائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي على الحقِّ ظَاهِرِينَ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ ) ).

وفي رِوايةٍ: (( حتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ) ).

فكيفَ نُوَفِّقُ بينَ الحديثين؟

لأنَّ ظاهرَ الحديثِ الذي سَاقَه

المؤلِّفُ أنَّ كلَّ مَنْ تُدْرِكُهم السَّاعةُ، وهم أحياءٌ، فَهُمْ مِنْ شِرارِ الخَلْقِ.

والجمعُ بَيْنَهُما:

أنْ يُقالَ: إنَّ المرادَ بقولِهِ: (( حتَّى تَقُومَ السَّاعةُ ) )أيْ: إلى قُرْبِ قِيامِ السَّاعةِ، ولَيْسَ إلى قِيامِها بالفعلِ؛ لأنَّها لا تَقُومُ إلا على شِرارِ الخلْقِ، فاللهُ يُرْسِلُ رِيحًا تَقْبِضُ نَفْسَ كلِّ مُؤْمِنٍ، ولا يَبْقَى إلا شِرارُ الخلْقِ، وعليهم تَقُومُ السَّاعةُ.

قولُهُ:

(( الَّذينَ يَتَّخِذُونَ القُبورَ مَساجِدَ ) )فَهُم مِنَ شِرارِ الخَلْقِ، وإنْ لم يُشْرِكوا؛ لأنَّهم فَعَلوا وَسيلةً مِنْ وسائلِ الشِّركِ، والوَسائلُ لها أحكامُ المَقاصِدِ، وإنْ كانَتْ دونَ مَرْتَبتِها، لكنَّها تُعْطَى حُكْمَها بالمعنى العامِّ، فإنْ كانَتْ وسيلةً لِواجبٍ صارَتْ واجبةً، وإنْ كانَتْ وسيلةً لمُحَرَّمٍ فهي مُحَرَّمةٌ.

فشَرُّ النَّاسِ كما في هذا الحديثِ يَنْقَسِمون إلى صِنْفَيْنِ:

الأوَّلُ:

الذين تُدْرِكُهم السَّاعةُ، وهم أحياءٌ.

الثاني:

الذين يَتَّخِذون القبورَ مَساجدَ.

وفي قولِهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ-:

(( إِنَّ مِنْ شِرارِ النَّاسِ ) )دليلٌ على أنَّ النَّاسَ يَتَفاوَتون في الشَّرِّ؛ لأنَّ بعضَهم أَشَدُّ مِنْ بعضٍ فيه، كما أنَّهم يَتَفاوَتون في الخيرِ أيضًا؛ لقولِهِ تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللهِ واللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} .

وذلكَ مِنْ حيثُ الكَمِّيَّةُ: مثلَ مَنْ صَلَّى رَكْعَتين فَلَيْسَ كمَن صَلَّى أَرْبعًا.

ومن حيثُ الكيفيَّةُ:

فمَنْ صَلَّى، وهو قانِتٌ خاشِعٌ حاضِرُ القلبِ، ليس كَمَنْ صَلَّى وهو غافِلٌ.

ومن حيثُ النوعيَّةُ:

فالفرضُ أَفْضَلُ مِن النَّفْلِ، وجِنْسُ الصَّلاةِ أفضلُ مِنْ جِنسِ الصَّدَقةِ؛ لأنَّ الصَّلاةَ أفضلُ الأعمالِ البَدَنيَّةِ.

وهذا الذي تَدُلُّ عليه الأَدِلَّةُ هو مَذْهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وهو التَّفاضُلُ في الأعمالِ، حتَّى في الإيمانِ الذي هو في القلبِ يَتَفاضَلُ النَّاسُ فيه، بَلْ إنَّ الإنسانَ يُحِسُّ في نفسِه أنَّه في بعضِ الأحيانِ يَجِدُ في قلبِه مِن الإيمانِ ما لا يَجِدُه في بعضِ الأحيانِ، فكَيْفَ بَيْنَ شخصٍ وشخصٍ؟

فهو يَتَفاضَلُ أَكْثرَ.

وخُلاصةُ البابِ:

أنَّه يَجِبُ البُعْدُ عَن الشِّركِ ووَسائِلِهِ، ويُغَلَّظُ على مَنْ عبدَ اللهَ عندَ قبرِ رجلٍ صالحٍ.

وكلامُ المؤلِّفِ -رَحِمَهُ اللهُ- في قولِهِ: (فيمَن عَبَدَ اللهَ) يَشْمَلُ الصَّلاةَ وغيرَها، والأحاديثُ التي ساقَها في الصَّلاةِ، لكنَّه-رَحِمَهُ اللهُ- كأنَّه قاسَ غيرَها عَلَيْها، فمَنْ زَعَمَ أنَّ الصَّدقةَ عندَ هذا القبرِ أَفْضَلُ مِنْ غيرهِ فهو شَبِيهٌ بِمَن اتَّخَذَه مَسجدًا؛ لأنَّه يَرَى أنَّ لهذه البُقْعةِ أو لِمَنْ فيها شَأْنًا يَفْضُلُ بِهِ على غيرِهِ، فالشَّيخُ عَمَّمَ، والدَّليلُ خاصٌّ.

فإنْ قِيلَ: لا يُسْتَدَلُّ بالدَّليلِ الخاصِّ على العامِّ؟

أُجِيبُ:

أنَّ الشَّيخَ أَرادَ بذلكَ أنَّ العِلَّةَ هي تعظيمُ هذا المكانِ لِكَوْنِه قَبْرًا، وهذا كما يُوجَدُ في الصَّلاةِ يُوجَدُ في غيرِها مِن العِباداتِ، فيكونُ التَّعْمِيمُ مِنْ بابِ القِياسِ، لا مِنْ بابِ شُمولِ النَّصِّ له لفظًا.

فيه مسائلُ:

الأُولَى:

ما ذكَرَ الرَّسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- فيمَنْ بَنَى مَسجدًا يَعْبُدُ اللهَ فيه عندَ قبرِ رجلٍ صالحٍ، ولو صَحَّتْ نيَّةُ الفاعلِ: تُؤْخَذُ مِنْ لَعْنِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ- الذين اتَّخَذُوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ.

قولُهُ: (ولو صَحَّت نيَّةُ الفاعلِ) لأنَّ الحُكْمَ عُلِّقَ على مُجَرَّدِ صورتِه، فهذا العملُ لا يَحْتاجُ إلى نيَّةٍ؛ لأنَّه مُعلَّقٌ بمجرَّدِ الفعلِ.

فالنِّيَّةُ تُؤَثِّرُ في الأعمالِ الصَّالحةِ وتَصْحِيحِها، وتُؤَثِّرُ في الأعمالِ التي لا يَقْدِرُ عليها فيُعْطَى أَجْرَها، وما أَشْبَهَ ذلكَ، بخِلافِ ما عُلِّقَ على فعلٍ مجرَّدٍ فلا حاجَةَ فيه إلى النِّيَّةِ، أيْ: ولو كانَ يَعْبُدُ اللهَ، ولو كانَ يُرِيدُ التَّقَرُّبَ إلى اللهِ بِبِناءِ هذا المسجدِ اعْتِبارًا بما يَؤُولُ إليه الأمرُ، وبالنَّتيجةِ السَّيِّئَةِ التي تَتَرَتَّبُ على ذلك، وهذه النُّقْطةُ نَتَدَرَّجُ منها إلى نُقْطةٍ أُخْرَى، وهي التَّحذيرُ مِنْ مُشابَهةِ المُشرِكين، وإنْ لم يَقْصِد الإنسانُ المُشابَهةَ، وهذه قد تَخْفَى على بعضِ النَّاسِ حيثُ يَظُنُّ أنَّ التَّشبُّهَ إنَّما يَحْرُمُ إذا قُصِدَت المُشابَهةُ، والشَّرْعُ إنَّما عَلَّقَ الحُكْمَ بالتَّشبُّهِ، أيْ: بأنْ يُفْعَلَ ما يُشْبِهُ فِعلَهم، سَواءً قُصِدَ أو لم يُقْصَدْ.

ولهذا قالَ العُلماءُ في مَسألةِ التَّشبُّهِ:

(وإنْ لم يَنْوِ ذلكَ، فإن التَّشبِيهَ يَحْصُلُ بمُطْلَقِ الصُّورةِ) .

فإنْ قيلَ: قاعِدةُ (( إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ ) )هل تُعارِضُ ما ذَكَرْنا؟

الجوابُ:

لا تُعارِضُه؛

لأنَّ ما عُلِّقَ بالعملِ ثَبَتَ له حُكْمُه، وإنْ لم يَنْوِ الفعلَ، كالأشياءِ المُحَرَّمةِ؛ كالظِّهارِ والزِّنا وما أشْبَهَهَا.

الثانيةُ: النَّهْيُ عَنِ التَّماثيلِ

وغِلَظُ الأمرِ في ذلِكَ:

تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: (( وصَوَّرُوا فيه تلك الصُّورَ ) )ولا سِيَّما إذا كانَتْ هذه الصُّوَرُ مُعَظَّمةً عادةً؛ كالرُؤَساءِ والزُّعَماءِ والأبِ والأخِ والعمِّ.

أو شَرْعًا:

مثلَ: الأَوْلِياءِ والصَّالحين والأنبياءِ، وما أَشْبَهَ ذلِكَ.

(17) الثالثةُ:العِبْرةُ في مُبالَغتِه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- في ذلِكَ كَيْفَ بَيَّنَ لهم هذا أوَّلاً، ثُمَّ قَبْلَ مَوْتِه بخمسٍ قالَ ما قالَ، ثُمَّ لمَّا كانَ في السِّياقِ لم يَكْتَفِ بما تَقَدَّمَ؟:

وهذا مما يَدُلُّ على حِرْصِ النِّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- على حِمايةِ جانِبِ التَّوحيدِ؛ لأنَّه خُلاصةُ دَعوةِ الرُّسلِ؛ ولأنَّ التَّوحيدَ أَعْظَمُ الطَّاعاتِ، فالمعاصِي، ولو كَبُرَتْ، أَهْوَنُ مِنَ الشِّركِ، حتَّى قالَ ابنُ مَسْعودٍ: (لأََنْ أَحْلِفَ باللهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إليَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا) لأنَّ الحَلِفَ بغيرِهِ نوعٌ مِن الشِّركِ، والحَلِفَ باللهِ كاذبًا مَعْصيةٌ، وهي أَهْوَنُ مِنَ الشِّركِ.

فالشِّركُ أَمْرُه عظيمٌ جِدًّا،

ونحن نُحَذِّرُ إخوانَنا المُسْلِمينَ ممَّا هم عليه الآنَ مِن الانْكِبابِ العظيمِ على الدُّنيا حتَّى غَفَلوا عمَّا خُلِقُوا له، واشْتَغَلُوا بما خُلِقَ لهم، فعامَّةُ النَّاسِ الآنَ تَجِدُهم مُشْتَغِلِين بالدُّنيا ليس في أفكارِهم إلا الدُّنيا، قائِمِين وقاعِدِين ونائِمِين ومُسْتَيْقِظِين، وهذا في الحقيقةِ نوعٌ مِنَ الشِّركِ؛ لأنَّه يُوجِبُ الغَفْلةَ عَنِ اللهِ -عزَّ وجلَّ-، ولهذا سَمَّى النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ- مَنْ فعلَ ذلك عبدًا لِمَا تَعَبَّدَ له، فَقَالَ: (( تَعِسَ عَبدُ الدِّينارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عبْدُ الخَمِيصَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيلَةِ ) ).

ولو أقبَلَ العبدُ على اللهِ بِقَلبِهِ وجَوَارحِه لَحَصَلَ ما قُدِّرَ له مِنَ الدُّنيا، فالدُّنيا وَسيلةٌ ولَيْسَتْ غايةً، وتَعِسَ مَنْ جَعَلَها غايةً، كيف تَجْعَلُها غايةً وأَنْتَ لا تَدْرِي مَقامَك فيها، وكيف تَجْعَلُها غايةً، وسُرورُها مَصْحُوبٌ بالأحزانِ؟

كما قالَ الشَّاعرُ:

فيومٌ علينا ويومٌ لنا ويومٌ نُساءُ ويومٌ نُسَرُّ

فالحاصلُ:

أنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- بُعِثَ لِتَحْقيقِ عِبادةِ اللهِ، ولهذا كانَ حريصًا على سَدِّ كلِّ الأبوابِ الَّتي تُؤَدِّي إلى الشِّركِ، فالرسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- حَذَّرَ مِنَ اتِّخاذِ القبورِ مساجدَ ثلاثَ مَرَّاتٍ:

الأُولَى:

في سائرِ حَياتِه.

والثانيةُ:

قَبْلَ موتِه بخمسٍ.

والثالثةُ:

وهو في السِّياقِ.

الرابعةُ: نَهْيُه عَنْ فِعْلِهِ عندَ قبرِهِ قَبْلَ أنْ يُوجَدَ القبرُ: تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: (( أَلا فَلا تَتَّخِذوا القُبورَ مَسَاجِدَ ) )فإنَّ قبرَه داخلٌ في ذلِكَ بلا شكٍّ، بَلْ أوَّلُ ما يَدْخُلُ فيه.

الخامسةُ: أنَّه مِنْ سُنَنِ اليهودِ والنَّصارَى في قبورِ أنبيائِهم:

تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: (( اتَّخَذوا قُبُورَ أَنْبيائِهِم مَسَاجِدَ ) )وبِئْسَ رجلٌ جَعَلَ إمامَه اليهودَ والنَّصارَى، وتَشَبَّهَ بهم في قَبيحِ أعمالِهم.

السادسةُ: لَعْنُه إيَّاهُم على ذلِكَ،

تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: (( لَعْنَةُ اللهِ عَلَى اليهودِ والنَّصارَى ) ).

السابعةُ: أنَّ مُرادَه

-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- تَحْذيرُه إيَّانا عَنْ قبرِهِ،

تُؤْخَذُ مِنْ قولِ عائِشةَ: (( يُحَذِّرُ ما صَنَعوا ) )أي: ما صنَعَه اليهودُ والنَّصارَى في قبورِ أنبيائِهم.

الثامنةُ: العِلَّةُ في عدمِ إبرازِ قبرِهِ:

تُؤْخَذُ مِنْ قولِ عائِشةَ: (( ولولا ذلك أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أنَّه خَشِيَ أن يُتَّخَذَ مسجدًا ) ).

هناك عِلَّةٌ أخرى، وهي: إخبارُه بأنَّه ما مِنْ نبيٍّ يَموتُ إلا دُفِنَ حيثُ يَموتُ، ولا يَمْتَنِعُ أنْ يَكونَ لِلحُكْمِ عِلَّتان، كما لا يَمْتَنِعُ أنْ يَكونَ لِلعِلَّةِ حُكْمانِ.

التاسعةُ: في معنى اتِّخاذِها مَسجدًا:

سَبَقَ أنْ ذكَرْنا أنَّ لها معنيين:

الأول: بِناءَ المساجدِ عليها.

والثاني: اتِّخاذَها مَكانًا للصَّلاةِ تُقْصَدُ فيُصَلَّى عندَها،

بَلْ إنَّ مَنْ صَلَّى عندَها ولم يَتَّخِذْها للصَّلاةِ فَقَد اتَّخَذَها مَسجدًا بالمعنى العامِّ.

العاشرةُ: أنَّه قَرَنَ بينَ مَن اتَّخَذَها مَسْجدًا،

وبينَ مَنْ تَقومُ عَلَيْهِم السَّاعةُ، فذكَرَ الذَّرِيعةَ إلى الشِّركِ قَبْلَ وُقوعِهِ مع خاتِمتِه:

ومعنى هذا أنَّ الرَّسولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- ذَكَرَ التَّحْذِيرَ مِن الشِّركِ قَبْلَ أنْ يَموتَ.

وقولُه: (( مَعَ خاتِمتِهِ ) )وهِيَ: أنَّ مَنْ تَقومُ عليهم شِرارُ الخَلْقِ، والذينَ تَقومُ عَلَيْهِم السَّاعةُ، وهُم أحياءٌ هؤلاءِ كُفَّارٌ، والذين يَتَّخِذُون القبورَ مَساجدَ هؤلاءِ فَعَلوا أسبابَ الشِّركِ والكُفْرِ.

الحاديةَ عشرةَ: ذِكْرُه في خُطْبتِه قَبْلَ موتِهِ بخمسٍ الرَّدَّ على الطَّائفتين اللَّتين هما أَشَرُّ أهلِ البِدَعِ:

قولُه: (قبلَ موتِه بخمسٍ) أي: خمسِ لَيالٍ، والعربُ يُعَبِّرُون عن الأيَّامِ باللَّيالي وبالعَكْسِ.

قولُه: (أَشَرُّ أهلِ البِدَعِ) يُقالُ: أَشَرُّ، ويُقالُ: شَرٌّ، بحذفِ الهَمْزةِ، وهو الأَكْثَرُ اسْتِعْمالاً.

وإنمَّا تَكَلَّمَ

المؤلِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- عَنْ حالِ الرَّافِضةِ والجَهْمِيَّةِ، وحُكْمِهما قَبْلَ ذِكْرِ اسمِهِما مِنْ أجلِ تَهْيِيجِ النَّفْسِ على معرفتِهما والاطِّلاعِ عَلَيْهِما؛ لأنَّ الإنسانَ إذا ذُكِرَ له الحُكْمُ والوَصْفُ قَبْلَ ذِكْرِ المَوْصُوفِ والمَحْكومِ عَلَيْهِ، صارَتْ نفسُه تَتَطَلَّعُ وتَتَشَوَّقُ إلى هذا، فلو قالَ مِنْ أوَّلِ الكلامِ: الرَّدُّ على الرَّافضةِ والجَهْمِيَّةِ، فلا يَكونُ للإنسانِ التَّشَوُّقُ مِثلَما لو تَكَلَّمَ عن حالِهما وحُكْمِهِما أوَّلاً.

وحالُهما: أنَّهما أَشَرُّ أهلِ البِدَعِ.

وحُكْمُهُما: أنَّ بعضَ أهلِ العِلْمِ أَخْرَجَهم مِن الثِّنْتَين والسَّبعينَ فِرْقةً.

والرَّافِضةُ: اسمُ فاعلٍ مِنْ رَفَضَ الشَّيءَ إذا اسْتَبْعَدَه، وسُمُّوا بذلك؛ لأنّهم رَفَضوا زَيْدَ بنَ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ بنِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طالِبٍ حينَ سَأَلُوه: ما تَقُولُ في أَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ؟ فأَثْنَى عليهما، وقالَ: هما وَزِيرا جَدِّي، فرَفَضُوه وتَرَكُوه وكانوا في السَّابقِ معه، لكنْ لمَّا قال الحقَّ المُخالِفَ لأهوائِهم نَفَرُوا منه، والعِياذُ باللهِ فسُمُّوا رافِضةً.

وأصلُ مَذْهبِهم مِنْ عبْدِ اللهِ بنِ سَبَأٍ، وهو يَهودِيٌ تَلبَّسَ بالإسلامِ، فأَظْهَرَ التَّشَيُّعَ لآلِ البيتِ والغُلُوَّ فيهم؛ لِيَشْغَلَ النَّاسَ عن دينِ الإسلامِ ويُفْسِدَه، كما أَفْسَدَ بُولِصُ دِينَ النَّصارَى عندَما تَلَبَّسَ بالنَّصْرانِيَّةِ.

وأمَّا الجَهْمِيَّةُ: فَهُم أتباعُ الجَهْمِ بنِ صَفْوانَ، وأوَّلُ بِدْعتِه أنَّه أنكَرَ صِفاتِ اللهِ، وقالَ: إنَّ اللهَ لم يَتَّخِذْ إبراهيمَ خليلاً، ولم يُكَلِّمْ موسَى تَكْلِيمًا، فَأَنْكَرَ المَحَبَّةَ والكلامَ، ثم بدأَتْ هذه البِدْعةُ تَنْتَشِرُ وتَتَّسِعُ، فاعْتَنَقَها طَوَائفُ غيرُ الجَهْمِيَّةِ؛ كالمُعْتَزِلةِ ومُتَأَخِّرِي الرَّافضةِ؛ لأنَّ الرَّافضةَ كانوا بالأوَّلِ مُشَبِّهةً، ولهذا قالَ أهلُ العِلْمِ: أوَّلُ مَنْ عُرِفَ بالتَّشْبيهِ هِشامُ بنُ الحَكَمِ الرَّافِضيُّ، ثم تحوَّلوا مِنَ التَّشْبيهِ إلى التَّعْطيلِ، وصاروا يُنْكِرون الصِّفاتِ.

فمَذْهبُهم مِنْ أَخْبَثِ المذاهبِ، إن لم نَقُلْ أَخْبَثُها، لكنْ أَخْبَثُ مِنْه مَذهبُ الرَّافِضةِ، حتَّى قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ-رَحِمَه اللهُ-: (إنَّ جميعَ البِدَعِ أصلُها مِنَ الرَّافضةِ) .

فهم أصلُ البَلِيَّةِ في الإسلامِ، ولهذا قال المؤلِّفُ: (أَخْرَجَهم بعضُ أهلِ العِلْمِ من الثِّنْتَين والسَّبعينَ فِرْقةً)

ولعلََّ الصَّوَابَ مِنَ الثلاثِ والسبعينَ فِرْقةً، أو أنَّ الصَّوابَ أَخْرَجَهم إلى الثِّنْتَين والسبعين، أيْ: أَخْرَجَهُم مِنَ الثالثةِ الَّتي كانَ عليها الرَّسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- وأصحابُهُ؛ لأنَّ المَعْروفَ أنَّ هذِهِ الأمَّةَ تَفْتَرِقُ على ثلاثٍ وسبعينَ فِرْقةً، كلُّها في النَّارِ إلا واحِدةً، وهي مَنْ كانَتْ على ما كانَ عليه النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- وأصحابُه.

وصدَقَ -رَحِمَهُ اللهُ- في قولِه عن هاتين الطَّائفتين؛ الرَّافِضةِ والجَهْمِيَّةِ: (شَرُّ طوائفِ أهلِ البِدَعِ)

وقولُ

المؤلِّفِ: (وبسببِ الرَّافضةِ حَدَثَ الشِّركُ، وعِبادةُ القبورِ، وهُم أوَّلُ مَنْ بَنَى عليها المَساجدَ) .

ولهذا يَجِبُ الحَذَرُ مِنْ بِدْعَتِهم وبِدْعةِ الجَهْمِيَّةِ وغيرِها،

ولا شكَّ أنَّ البِدَعَ دَرَكاتٌ، بعضُها أسفلُ مِنْ بعضٍ، فعلى المرءِ الحَذَرُ مِن البِدَعِ، وأنْ يَكونَ مُتَّبِعًا لِمَنْهَجِ السَّلَفِ الصَّالحِ في هذا البابِ وفي غيرِه.

الثانيةَ عَشْرَةَ: ما بُلِيَ بهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- مِنْ شِدَّةِ النَّزْعِ:

تُؤْخَذُ مِنْ قولِها:

(( طفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصةً لَهُ على وَجْهِهِ، فإذا اغتَمَّ بها كَشَفَها ) ).

وفي هذا دَليلٌ على شِدَّةِ نَزْعِه، وهكذا كانَ الرَّسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، يَمْرَضُ ويُوعَكُ كما يُوعَكُ الرَّجلانِ مِن النَّاسِ، وهذا مِنْ حِكْمةِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- فهو -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ- شُدِّدَ عليه البَلاءُ في مُقابَلةِ دَعْوتِهِ، وأُوذِيَ إِيذاءً عظيمًا، وكذلك -أيضًا- فيما يُصِيبُه مِن الأمراضِ يُضاعَفُ عليه، والحِكْمةُ مِنْ ذلِكَ: لأجلِ أنْ يَنالَ أَعلَى دَرَجاتِ الصَّبْرِ؛ لأنَّ الإنسانَ إذا ابْتُلِيَ بالشَّرِّ وصَبَرَ كانَ ذلِكَ أَرْفَعَ لِدَرجَتِه.

والصَّبرُ دَرَجةٌ عاليةٌ لا تُنالُ إلا بوجودِ أسبابِها،

ومنها الابْتِلاءُ، فيَصْبِرُ ويَحْتَسِبُ حتَّى يَنالَ دَرَجةَ الصَّابرينَ.

الثالثةَ عشرةَ: ما أُكْرِمَ بهِ مِنَ الخُلَّةِ:

ويَدُلُّ عليها قولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: (( إنّ اللهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلاً، كَمَا اتَّخَذَ إِبراهيمَ خليلاً ) )ولا شكَّ أنَّ هذه الكَرَامةُ العظيمةُ؛ لأنَّنا لا نَعْلَمُ أحدًا نالَ هذِهِ المَرْتَبةَ إلا رَسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، وإبراهيمَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.

الرابعةَ عشرةَ: التَّصْرِيحُ بأنَّها أَعْلَى مِنَ المَحَبَّةِ

: ودليلُ ذلِكَ: أنّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -كانَ يُحِبُّ أبا بَكْرٍ، وكانَ أَحَبَّ النَّاسِ إليهِ، فأَثْبَتَ له المحبَّةَ ونَفَى عنه الخُلَّةَ، فدَلَّ هذا على أنّها أَعْلَى مِنَ المحبَّةِ، والتَّصْريحُ لَيْسَ مِنَ هذا الحديثِ فَقَطْ، بَلْ بِضمِّهِ إلى غيرِه، فَقَدْ وردَ مِنْ حديثٍ آخَرَ أنَّه صَرَّحَ: بأنَّ أبا بكرٍ أَحَبُّ الرِّجالِ إليه. ثُمَّ قالَ هنا: (( لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا أحَدًا خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبا بَكْرٍ خَليلاً ) )فدَلَّ على أنَّ الخُلَّةَ أَعْلَى مِنَ المحبَّةِ.

الخامسةَ عشرةَ: التَّصْرِيحُ بأنَّ الصِّدِّيقَ

أَفْضَلُ الصَّحابةِ: تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: (( ولَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتي خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبا بَكْرٍ خَليلاً ) )فلو كانَ غيرُه أَفْضَلَ مِنْه عندَ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، لَكانَ أَحَقَّ بذلِكَ.

ومن المَسائِلِ الهامَّةِ أيضًا:

أنَّ الأَفْضَلِيَّةَ في الإيمانِ والعملِ الصالحِ فوقَ الأَفْضَلِيَّةِ بالنَّسَبِ؛ لأنَّنا لو رَاعَيْنا الأفضليَّةَ بالنَّسَبِ لَكانَ حَمْزَةُ بنُ عبدِ المُطَّلِبِ، والعَبَّاسُ -رَضِيَ اللهُ عنهما- أَحَقَّ مِنْ أبي بكرٍ في ذلِكَ، ومِنْ ثَمَّ قُدِّمَ أبو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عنه- على عليِّ بنِ أَبِي طالِبٍ وغَيرِه مِنْ آلِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-.

السادسةَ عشرةَ:

الإشارةُ إلى خِلافتِهِ: لم يَقُل: التَّصْرِيحُ، وإنمَّا قالَ: الإشارةُ؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ-، لم يَقُلْ: إنَّ أبا بَكْرٍ هو الخَلِيفةُ مِنْ بعدِهِ، لكنْ لمَّا قالَ: (( لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتي خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبا بَكْرٍ خَليلاً ) )عُلِمَ أنه- رَضِيَ اللهُ عنه- أَوْلَى النَّاسِ بِرَسُولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ-، فيَكونُ أَحَقَّ النَّاسِ بخِلافَتِه.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام