فهرس الكتاب
الصفحة 26 من 93

أيْ: أنَّ المَدْعُوَّ عليهم كُفَّارٌ، تَرْمِي إلى أنَّ الرسولَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وإنْ كانَ يَرَى أنَّهُ دعا عليهم بحقٍّ، فقدْ قَطَعَ اللهُ سبحانَهُ وتعالى أنْ يَكُونَ لهُ من الأمرِ شيءٌ؛ لأنَّهُ قدْ يَقُولُ قائلٌ: إذا كانوا كُفَّارًا أَلَيْسَ يَمْلِكُ الرسولُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنْ يَدْعُوَ عَلَيْهم؟

نقولُ:

حتَّى في هذهِ الحالِ لاَ يَمْلِكُ مِنْ أَمْرِهم شيئًا، هذا وَجْهُ قولِ المُؤَلِّفِ أنَّ المَدْعُوَّ عليهم كُفَّارٌ.

وليسَ مُرَادُهُ الإعلامَ بِكُفْرِهم؛ لأنَّ هذا مَعْلُومٌ لاَ يَسْتَحِقُّ أنْ يُعَنْوَنَ لهُ.

بل المرادُ في هذهِ الحالِ الذي كانَ هؤلاءِ كُفَّارًا لمْ يَمْلِك النبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ شيئًا بالنسبةِ إليهم.

الخامسةُ: (أنَّهم فَعَلُوا أشياءَ ما فَعَلَها غَالِبُ الكُفَّارِ) أيْ: أنَّهم مَعَ كُفْرِهم كانُوا مُعْتَدِينَ، ومَعَ ذلكَ قِيلَ لهُ في حَقِّهِم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} .

وإلاَّ فَهُم شَجُّوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وَمَثَّلُوا بالقَتْلَى؛ مِثلِ حَمْزَةَ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ. وكذلكَ أيضًا حَرَصُوا عَلَى قَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، مَعَ أنَّ كُلَّ هؤلاءِ فيهم مِنْ بَنِي عَمِّهم، وفيهم مِن الأنصارِ.

السادسةُ:

(أَنْزَلَ اللهُ عليهِ في ذلكَ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} ) أيْ: معَ ما تَقَدَّمَ مِن الأمورِ التي تَقْتَضِي أنْ يكونَ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ حقٌّ بأنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِم، أَنْزَلَ اللهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} ، فالأمرُ للهِ وحدَهُ، فإذا كانَ الرسولُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَدْ قُطِعَ عنهُ هذا الشيءُ، فغَيْرُهُ مِنْ بابِ أَوْلَى.

السابعةُ:(قولُهُ: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}

، فتابَ عَلَيْهِم فآمَنُوا) وهذا دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ سُلْطانِ اللهِ وقُدْرَتِهِ؛ فهؤلاءِ الذينَ جَرَى مِنْهم ما جَرَى تابَ اللهُ عَلَيْهِم وآمَنُوا؛ لأنَّ الأمرَ كُلَّهُ بيَدِهِ سبحانَهُ، وهوَ الذي يُذِلُّ مَنْ يشاءُ ويُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ؛ فَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ومَنْ دُونَهُ لا يَسْتَطِيعُونَ أنْ يُغيِّرُوا شيئًا مِنْ أمْرِ اللهِ.

الثامنةُ: (القنوتُ في النوازِلِ)

وهذهِ هيَ المسألةُ الفقهِيَّةُ، فإذا نَزَلَ بالمسلمينَ نازلةٌ فإنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يُدْعَى لَهُم حَتَّى تَنْكَشِفَ.

وهذا القُنُوتُ مشروعٌ في كلِّ الصلواتِ، كما في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما الذي رَوَاهُ أحْمَدُ وغيرُهُ، إلاَّ أنَّ الفقهاءَ رحِمَهُم اللهُ اسْتَثْنَوا الطَّاعُونَ وقَالُوا: لا يُقْنَتُ لهُ؛ لعدمِ وُرودِ ذلكَ، وقَدْ وَقَعَ في عهدِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ ولَمْ يَقْنُتْ. ولأنَّهُ شهادةٌ؛ فلا يَنْبَغِي الدُّعاءُ برَفْعِ سَبَبِ الشَّهَادَةِ.

وظاهرُ السُّنَّةِ: أنَّ القُنُوتَ إنَّما يُشْرَعُ في النَّوازلِ التي تكونُ مِنْ غيرِ اللهِ،

مِثلِ: إيذاءِ المسلمينَ والتَّضْيِيقِ عَلَيْهِم.

أمَّا ما كانَ مِنْ فِعْلِ اللهِ؛

فإنَّهُ يُشْرَعُ لهُ ما جَاءتْ بهِ السُّنَّةُ، مثلُ: الكُسُوفِ، فيُشْرَعُ لهُ صلاةُ الكسوفِ، والزلازلُ شُرِعَ لها صلاةُ الكُسُوفِ، كما فَعَلَ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهما وقالَ: (هذهِ صلاةُ الآياتِ) وَالْجَدْبُ يُشْرَعُ لهُ الاسْتِسْقَاءُ، وهكذا.

وما عَلِمْتُ لِسَاعَتِي هذهِ أنَّ القُنُوتَ شُرِعَ لأمرٍ نَزَلَ مِن اللهِ، بَلْ يُدْعَى لهُ بالأَدْعِيَةِ الوَارِدةِ الخَاصَّةِ، لكنْ إذا ضُيِّقَ عَلَى المُسْلِمينَ وأُوذُوا وما أَشْبَهَ ذلكَ؛ فإنَّهُ يُقْنَتُ اتِّباعًا للسُّنَّةِ في هذا الأمرِ.

ثُمَّ مَن الذي يَقْنُتُ، الإمامُ الأعظمُ، أوْ إمامُ كُلِّ مسجدٍ، أوْ كُلُّ مُصَلٍّ؟

المَذْهَبُ:

أنَّ الذِي يَقْنُتُ هوَ الإمامُ الأعْظَمُ فقطْ؛ الذي هوَ الرئيسُ الأعْلَى للدَّوْلَةِ.

وقيلَ: يَقْنُتُ كُلُّ إمامِ مَسْجِدٍ.

وقيلَ:

يَقْنُتُ كلُّ مُصَلٍّ،

وهوَ الصَّحيحُ؛ لِعُمُومِ قولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (( صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ) )وهذا يَتَنَاولُ قُنُوتَهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عِنْدَ النَّوازِلِ.

التاسعةُ: (تَسْمِيَةُ المدعوِّ عليهم في الصلاةِ بأسمائِهم وأسماءِ آبائِهم)

وهمْ صفوانُ بنُ أُمَيَّةَ، وسُهَيْلُ بنُ عمرٍو، والحَارِثُ بنُ هشامٍ، فسَمَّاهُم بأسمائِهِم وأسماءِ آبائِهِم، لكنْ هلْ هذا مَشْرُوعٌ أوْ جَائزٌ؟

الجوابُ:

هذا جائزٌ، وعليهِ؛ فإذا كانَ في تَسْمِيَةِ المَدْعُوِّ عليهم مَصْلَحةٌ كانَت التَّسْمِيَةُ أَوْلَى، لوْ دَعَا إنْسانٌ لأُنَاسٍ مُعَيَّنِينَ في الصَّلاَةِ جازَ؛ لأنَّهُ لا يُعَدُّ مِنْ كلامِ الناسِ، بلْ هوَ دُعاءٌ، والدُّعاءُ مُخَاطَبَةُ اللهِ تَعَالَى، ولاَ يَدْخُلُ في عُمُومِ قولِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (( إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ ) ).

مَسْأَلةٌ: هَل الذي نُهِيَ عنهُ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ الدُّعاءُ أوْ لَعْنُ المُعَيَّنِينَ؟

الجوابُ:

المنهيُّ عنهُ هوَ لَعْنُ الكُفَّارِ في الدُّعاءِ عَلَى وجهِ التَّعْيِينِ، أمَّا لَعْنُهُم عمومًا فلا بَأْسَ بهِ، وقَدْ ثَبَتَ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ كانَ يَقْنُتُ ويَلْعَنُ الْكَفَرةَ عُمُومًا، ولاَ بَأْسَ بِدُعائِنا عَلَى الكَافِرِ بقَوْلِنا: اللهُمَّ أَرِح المسلمينَ منهُ، واكْفِهِم شَرَّهُ، واجْعَلْ شَرَّهُ في نَحْرِهِ، ونحوِ ذلكَ.

أمَّا الدعاءُ بالهلاكِ لعمومِ الكُفَّارِ فإنَّهُ مَحَلُّ نظرٍ؛

ولهذا لم يَدْعُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَلَى قُرَيْشٍ بالهلاكِ، بَلْ قالَ: (( اللهُمَّ عَلَيْكَ بِهِمْ، اللهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ ) )وهذا دعاءٌ عليهم بالتَّضْيِيقِ، والتَّضْييقُ قَدْ يَكُونُ مِنْ مَصْلَحةِ الظَّالمِ بحيثُ يَرْجِعُ إلى اللهِ عنْ ظُلْمِهِ.

فالمُهِمُّ أنَّ الدُّعاءَ بالهلاكِ لجِمِيعِ الكُفَّارِ عِنْدِي تَرَدُّدٌ فيهِ.

وقدْ يُسْتَدَلُّ بدعاءِ خُبَيْبٍ حَيْثُ قالَ: (( اللهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، ولا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا ) )على جوازِ ذلكَ؛ لأنَّهُ وَقَعَ في عَهْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ولأنَّ الأمرَ وَقَعَ كما دَعَا؛ فإنَّهُ ما بَقِيَ مِنْهُم أحَدٌ عَلَى رَأْسِ الحَوْلِ، ولَمْ يُنْكِر اللهُ تَعَالَى ذلكَ، ولا أنْكَرَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، بلْ إنَّ إجابةَ اللهِ دُعَاءَهُ يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِهِ وإِقْرَارِهِ عليهِ.

فهذا قَدْ يُسْتَدَلُّ بهِ عَلَى جَوَازِ الدُّعاءِ عَلَى الكُفَّارِ بالْهَلاكِ، لَكِنْ يُحْتَاجُ أنْ يُنْظَرَ في القِصَّةِ فقدْ يكونُ لها أسبابٌ خاصَّةٌ لا تَأْتِي في كلِّ شيءٍ.

ثمَّ إنَّ خُبَيْبًا دَعَا بالهلاكِ لِفِئَةٍ مَحْصُورَةٍ مِن الكُفَّارِ لاَ لِجَمِيعِ الكفَّارِ.

وفيهِ:

أيضًا، إنْ صحَّ الحديثُ،

دُعَاؤُهُ عَلَى عُتْبَةَ بنِ أبي لَهَبٍ: (( اللهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلاَبِكَ ) ).

فيهِ:

دليلٌ عَلَى الدُّعاءِ بالْهَلاَكِ،

لكنْ هذا عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ لاَ عَلَى جَمِيعِ الكُفَّارِ.

العاشرةُ: (لَعْنُ المُعَيَّنِ في القُنُوتِ)

هذا غريبٌ، فإنْ أرادَ المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أنَّ هذا أَمْرٌ وَقَعَ، ثُمَّ نُهِيَ عنهُ فَلاَ إِشْكَالَ، وإنْ أرادَ أنَّهُ يُسْتَفادُ مِنْ هذا جَوَازُ لَعْنِ المُعَيَّنِ في القُنُوتِ أبدًا، فهذا فيهِ نَظَرٌ؛ لأنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نُهِيَ عنْ ذلكَ.

الحاديَةَ عشرةَ: (قِصَّتُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لمَّا أُنْزِلَ عليهِ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}

وهيَ أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الآيَةُ نادَى قُرَيْشًا، فَعَمَّ ثمَّ خصَّ، فامْتَثَلَ أَمْرَ اللهِ في هذهِ الآيَةِ.

(24) الثانيَةَ عشرةَ: (جِدُّهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في هذا الأمرِ بحَيْثُ فعلَ ما نُسِبَ بسَبَبِهِ إلى الجُنُونِ)

أي: اجْتِهَادُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ في هذا الأمرِ بحيثُ قالُوا: إنَّ مُحَمَّدًا جُنَّ، كيفَ يَجْمَعُنا ويُنَادِينَا هذا النِّدَاءَ.

وقولُهُ: (وَكَذَا لوْ فعَلَهُ مُسْلِمٌ الآنَ) أيْ: لوْ أنَّ إنْسَانًا جَمَعَ النَّاسَ ثمَّ قامَ يُحَذِّرُهُم لِتَحْذِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لقالُوا: مَجْنُونٌ؛ إلاَّ إذا كانَ مُعْتادًا عندَ الناسِ، قالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} وقالَ تَعَالَى: {يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} .

فهذا يَخْتَلِفُ باخْتِلاَفِ البلادِ والزَّمَانِ.

ثمَّ إنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإنْسَانِ أنْ يَبْذُلَ جُهْدَهُ واجْتهادَهُ في الدَّعْوةِ إلَى اللهِ بالحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ، والنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قامَ بهذا الأمرِ ولَمْ يُبَالِ بِمَا رُمِيَ بهِ مِن الجُنُونِ.

الثالثةَ عشرةَ: (قولُهُ للأبعدِ والأقربِ:(( لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا ) ))

صدقَ رَحِمَهُ اللهُ فيما قالَ؛ فإنَّهُ إذَا كانَ هذا القائلُ سيِّدَ المُرْسَلِينَ، وقالَهُ لِسَيِّدَةِ نِسَاءِ العَالَمِينَ، ثمَّ نحنُ نُؤْمِنُ أنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ لاَ يَقُولُ إلاَّ الحَقَّ، وأنَّهُ لا يُغْنِي عن ابْنَتِهِ شيئًا.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام