فهرس الكتاب
الصفحة 94 من 224

فيأتى واحد - مثلاً - يقول عن مثلاً: إستيعاب أمتنا لحضارة أخري، بمعنى أن هذه الأمة الإسلامية قد ترجمت أفكار اليونان واستفادت منها، ولذلك كان في أمتنا الفلاسفة الكبار مثل"الفارأبي"و"ابن سينا"ثم"الرازى"! ويتكلم عن الحضارة العقلية المتمثلة بهؤلاء الرجال الفلاسفة الذين كانوا يسمون"بالفلاسفة المشائيين"على رأسهم"ابن سينا"و"الفارأبي"و"الخوارزمى"وهؤلاء و"الرازى"و"ابن خطيب الرى"وغيرهم، فيعتبر أن هذا حضارة، ثم إذا أراد أن يتكلم عن الوجه المشرق لأمتنا في قضية الفنون الإسلامية، يتكلم أن أمتنا كانت متقدمة كثيراً في البناء المعمارى الإسلامي!، ويعتبر أن هذا هو إفراد حضارة أمة الإسلام، ويأتي آخر ويريد أن يتكلم عن حضارة أمتنا في إستيعاب المنطق اليوناني!، أنهم جماعة منطقيين، فيضرب بأمثال المتكلمين والفلاسفة والمعتزلة وغيرهم ..

والحقيقة، أن هذا الذي يمدحونه في أمتنا هو أسباب سقوط حضارة أمتنا ..

هذا الذي يمدَح في أمتنا، أن أمتنا كانت حضارية أخرجتت الفلاسفة وأخرجت المعماريين، ثم يمدحون ويقولون: «وكان كذلك من حضارة أمتنا،"الغناء العربى"!، كذلك من حضارة الأمة، .. » . نعم! كل هذا يمدَح به هذه الأمة ويعتبرون أن هذا يعَدُّ الوجه المشرق لأمة الإسلام ..

و الصحيح أن هذه الأسباب التي ذكرناها، والتي يعدونها حضارة، هي أسباب سقوط الأمة، الأمة سقطت عندما دخلت عليها أفكار اليونان، والأمة سقطت عندما اشتغلت بالمعماري، والأمة سقطت عندما اشتغلت بالغناء والفنون العربية التي تُسمَّى في كل زمان - كذباً - بالفنون الإسلامية، أمتنا سقطت عندما أخذت بهذه الحضارات المزعومة التي هي أسباب سقوط الحضارات .. [1]

(1) يقول الشيخ"أبوالحسن الندوي"رحمه الله، في کتابه"إلي الإسلام من جديد":"کان العالم قبل ثلاثةعشر قرناً سائراً سيره الطبيعي لا ينکر من أمره شيء، فکانت القري والمدن عأمرة بالسکان، وکانت العواصم الکبري زاخرة العمران، شامخة البنيان، وکانت الحرف البشرية ووجوه المعاش في إزدهار وأنتشار. کانت الزراعة وکانت التجارة وکانت الصناعة، فبينما کانت سکة الفلاح في شغل ونشاط کانت القوافل التجارية غادية رائحة بين الشرق والغرب، وکانت الأسواق مشحونة بالمتاجر والبضائع، وکان الصناعون مکبين علي أعمالهم. وکانت الحکومات والامارات والدول غنية بأموالها ورجالها، لکل وظيفةٍ رجلٌ کفؤ بل رجال أکفاء، وکان علي وجه الأرض کل نوع من البشر، وکل لون من الحياة، وکل مظهر من مظاهر المدنية، لا يري في الحياة الإنسانية المادية عوز أو فراغ. ولم تکن في المدينة وظيفة شاغرة يترشح لها مترشح جديد، وکانت کأس الحياة مترعة لا تطلب المزيد."

في هذه الحال ظهرت أمة في جزيرة العرب ووجد نوع جديد من البشر، وکأني بالأمم المعاصرة وهي تتسائل: أي داع إلي ظهور أمة جديدة والأمم علي وجه الأرض کثيرة منتشرة، وما شغل هذه الأمة الحديثة، وما مهمتها في العالم؟

و کأني بها تقول: إذا کانت هذه الأمة إنما بعثت للزراعة وعمارة الأرض فقد کان في فلاحي الطائف، وأکاري مدينة يثرب، وزراع وادي الفرات والنيل وربوع الکنج وجمنا، غني عن أمة زراعية جديدة، فقد أصبحت أراضي هؤلاء الفلاحين وبلادهم جنة تدر لبناً وعسلاً، وإذا کان المسلمون انما بعثوا ليشتغلوا بالزراعة فقط، فلماذا لم يبعثوا في العراق، وفي مصر، والهند وهي بلاد مخصبة زراعية، ولماذا کان مبعثهم في واد غير ذي زرع؟ وإذا کانت هذه الأمة انما بعثت للتجارة، فقد کان في يهود يثرب وفي أنباط الشام وفي أقباط مصر وتجار السند کفاية، فقد أحکموا فن التجارة وأنتشروا في العالم، وإذا کانوا قد بعثوا ليشتغلوا بالتجارة حقاً فلماذا لم يبعثوا علي طريق القوافل التجارية، وبقرب من أسواق التجارة الکبري؟

و إذا کانت هذه الأمة إنما بعثت للصناعة وأعمال اليد، فقد کان في قيون البلاد المتمدنة، وأصحاب الصنائع والحرف - وانهم لکثير - غني وکفاية!

وإذا کانت هذه الأمة انما بعثت لتنضم إلي الحکومات الرومية والايرانية، وتشغل افرادها وظائف هذه الحکومات ومناصبها، فقدکان في أهل الشام وفارس غني وکفاية في الإرادة، وإنهم يزاحمون الاجانب بالمناکب ويدفعونهم بالراح.

وإذا کانت هذه الأمة بعثت لعيش هنيء، ومطعم شهي، ومشرب مريء، وملبس وضيء، ومسکن بهيء، لا لشيء آخر وانما مناها وهمها ان تلقي لبوساً ومطعماً، لم تکن بدعاً من الأمم، وکانت منافسة لنا في ميدان الحياة، فحق لنا أن نقاتلها ونذودها عن منأهلنا، وقد ضاقت بنا، فکيف تسع أمة جديدة؟ وإذا کانت هذه الأمة إنما تحأول ملکاً، أو تريد أن تؤسس دولة، فيجب ان تصرح بذلک، وتتخذ له طريق الملوک والفاتحين، ولا تتظاهر بالدين.

و إن الطريق إلي کل ذلک - من زراعة، وتجارة، وصناعة، ووظيفة، وحياة بذخ وترف، وملک وشرف - غير الطريق التي سلکتها هذه الأمة الجديدة، فقد سفهت أحلامنا، وعابت آلهتنا، ونعت علي عقائدنا وأخلاقنا وأعمالنا، ودعت إلي دين جديد، وسارت في سبيل ذلک في شوک وقتاد، وجاهدت في غير جهاد.

لقدکان الطريق إلي الرفاهية أو الحکومة مسلوکة معبدة، قد سلکتها الأمم من قبل ومشي عليها الملوک، وأصحاب الطموح في عصرهم، فمن حال بينها وبين هذه الطريق؟ وما الذي عدل بها عن جادة الحياة، وهي معلومة واضحة؟!

هذا ما أظنه تناجي به ضمير الإنسان العاقل في فجر الإسلام ولا ألومه ولا أستغرب هذا السؤال، فإن هذا السؤال طبيعي ينبغي أن يهجس في قلب الإنسان، وينطق به اللسان، عند کل ناشئة، فلماذا لا ينشأ هذا السوال عند ظهور أمة بأسرها؟

ماهو الجواب؟ إذا کان الجواب في الإثبات، وإذا کان مبعث هذه الأمة في الحقيقة بشيء مما ذکرناه ولم تکن لهذه الأمة مهمة جديدة في العالم ورسالة خاصة إلي الأمم، کانت هذه الأمة حقاً من فضول الأمم، ومن المتطفلين علي مائدة العالم.

ولکن الله لم يبعثها لهذا أو لذاک، والأمة والأشخاص لا يبعثون لشيء، من هذا، وإنما هي من طبائع البشر، لا تحتاج إلي نبوة نبي، ولا بعثة أمة، وجهاد طويل وزلزال عالمي لم يسبق في التاريخ، زلزال في المعتقد والأخلاق والميول والنزعات، وفي نظام الفکر ومنهاج الحياة.

لقد کان مبعثها لغرض سام جداً، لمهمة غريبة طال عهد الإنسانية بها، وتشاغلت أمم الأنبياء عنها حتّي نسيتها، وذلک ما خاطب به الله سبحانه وتعالي هذه الأمة: (کنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنکر، وتؤمنون بالله) ! فنبه علي أن هذه الأمة ليست نابتة نبتت في الأرض کأشجار برية أو حشائش شيطانية، بل إنها أمة أخرجت للناس، وذلک ما تمتاز به الأمة في التاريخ، فما من أمة إلا وهي وليد أغراضها، ورهين بطنها وشهواتها، تعيش لأجلها وتموت في سبيلها. أما الأمة الإسلامية فهي أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف، وتنهي عن المنکر، وتؤمن بالله، وتجاهد في سبيل الله.

ظهرت نواة هذه الأمة في مکة - قلب جزيرة العرب - فقام العقلاء من قريش -وهم الأخذون بزمام الحياة في البلاد - ونثروا کنانة فکرهم، وقاسوا الناشئة الجديدة بمقاييسهم التي عرفوها وألفوها، ووزنوها في الميزان الإنسانية الذي طالما وزنوا فيه أصحاب الطموح، فوجدوهم خفاف الوزن، طائشي الکفة ..

وکان بعد ذلک صراع مستمر، ونزاع طويل، ولم يکن نزاعاً في أغراض المادة وشهوات البطن، والإستئثار بموارد الرزق، والتغلب علي الأسواق، بل کان نزاعاً بين الإسلام والجاهلية بمعني الکلمتين، نزاعاً بين حياة العبودية والأنقياد لله تعالي ورسوله، وبين الحياة الحرة المطلقة التي لا تعرف قيداً أو لا تخشي معاداً ولا حساباً ..

بهذه الرسالة انبثوا في العالم، وحملوها إلي الملوک والسوقة والأمم، وفي سبيل ذلک هاجروا وجاهدوا، ولأجل ذلک حاربوا وعاهدوا، ولم يزالوا يعتقدون أنهم مبعوثون من الله إلي الأمم، وحاملوا راية الإسلام في العالم.

أرسل سعد بن أبي وقاص قبل القادسية"ربعي بن عأمر"إلي"رستم"- قائد الجيوش الفارسية وأميرهم - فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة، والزرأبي، وأظهروا اليواقيت واللآلي الثمينة، والزينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلک من الأمتعة الثمينة، وقد جلس علي سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة، وسيف وترس، وفرس قصيرة، ولم يزل راکبها حتّي داس بها علي طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلک الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه، وبيضته علي رأسه، فقالوا له:"ضع سلاحک"فقال:"ائذنوا له"فأقبل يتوکأ علي رمحه فوق النمارق، فخرق عامتها، فقالو له:"ما جاء بکم؟"فقال:"الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلي عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلي سعتها، ومن جور الأديان إلي عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلي خلقه لندعوهم، فمن قبل ذلک قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبي قاتلناه أبداً، حتّي نفضي إلي موعود الله"قالوا:"وما موعود الله"؟ قال:"الجنة لمن مات علي قتال من أبي، والظفر لمن بقي".. {إلي الإسلام من جديد ص 7 - 16. ط. دار القلم. دمشق} .

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام