الآن نأتي إلى الأصل الثاني عندهم، وهو"العدل".
العدل معناه، هنا عندهم، مذهب القَدَر، العدل عندهم مذهب القدر.
نحن - أهل السنة - مراتب القدر عندنا ما هي؟ هي أربع مراتب، [1] المرتبة الأولى للقدر هي"العلم"، علم الله الأزلي السابق لما سيكون، عَلِمه سبحانه وتعالى فكتبه، إذن المرتبة الثانية:"الكتابة". علمه، فكتبه، فأراده وخلقه .. إذن: ثالثاً: الإرادة. ورابعاً: الخلق. أيُّ عملٍ في الدنيا يمر في هذه الأربع مراحل بالنسبة إلى الله عزوجل. بالنسبة لله عزوجل، أول شيءٍ العلم. ثانياً: الكتابة .. وعلمه أزلي، لا أول له حيث كان ذاته كانت صفاته، والقول في الذات كالقول في الصفات، والقول في الصفات كالقول في الذات. فلما كان ذاته أزلية، فعلمه أيضاً أزلي، سبحانه وتعالي.
وكذلك، علمه سبحانه وتعالى مطلق، علمه غير محدود [2] ومطلق وأزلي. عَلِمَه ثم كتبه، كتب في اللوح المحفوظ، (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير) ، {الحج: 70} ، فكتب، ثم إذا جاء وقت حدوث الفعل التي علمه الله، أراده ثم خلقه، والخلق لا يقع إلا بإرادة. والإرادة هنا هي إرادة الخلق .. هكذا - مختصراً - نفهم أنه، لا يحدث شيءٌ قدريٌ إلا بهذه المراتب ..
أوائل القدرية، هم الذين نفوا هذه المراتب الأربعة، بالنسبة إلى حدَث الحيوان، صاحب الإرادة الذي هو الإنسان وغيره من أصحاب الأرادات كالحيوان وغيرها الذي فيه الحياة، فكما جاء في الحديث،"جاؤوا إلى ابن عمر رضي الله عنهما وقالوا: جئناك من عند قومٍ يقولون أن الله لا يعلم شيئاً قبل وقوعه. والأمر أنفٌ .." [3] ، فنفوا علم الله بحدوث شيءٍ من أصحاب
(1) للمزيذ من التفصيل في هذا الموضوع راجع کتاب"معارج القبول"للشيخ حافظ الحکمي رحمه الله.
(2) يقول الشيخ المؤلف حفظه الله: إخواني! أضرب لکم مثالاً، يضربه أصحاب العلم الفيزياء، أن"ما لا نهاية"، لا قانون فيه. الأن نتصور مستطيلاً، هذا المستطيل، في القانون الفيزياء العلمي، لا يکون شيءٌ مستطيلاً حتّي يکون طوله أکبر من عرضه، لو أن هذا المستطيل - يقول الفيزيائيون - تصاغر، ثم صغرناه، ثم صغرناه .. إلي درجة يمکن تصورها، هو مستطيل، يعني طوله أکبر من عرضه، - قالوا - لکن إذا صغرنا هذا المستطيل إلي ما لا نهاية، يتلاشي هذا القانون - لأنه لا يتصور"ما لا نهاية"أکبر من"ما لا نهاية"، حتّي نقول طوله أکبر من عرضه، - إذا، يتلاشي هذا القانون -في"ما لا نهاية"- ولا يوجد حينئذ مستطيل. وکذلک إذا کَبُرَ إلي ما لا نهاية له، لو أن هذا المستطيل کبَّرناه، کبَّرناه إلي ما لا نهاية، يتلاشي هذا القانون .. فالقانون الفيزيائي، الذي نتعامل به، يتعامل مع المحدود، وليس مع ما لا نهاية له .. ، والله عزوجل - دائماً - ما لا نهاية، لأنه مطلق، قدرته ما لا نهاية، فلذلک فکيف نتعامل معه بهذا القانون الفيزيائي، هو الذي خلقه فهل يخلق أحد شيئاً من أجل أن يجبره - أي يجبر الخلقُ الخالقَ -؟ فهل يخلق الله قانوناً، ليکون هذا القانون حاکماً علي الله؟ حاشاه، وهو سبحانه خلقه، ولم يخْلُق کخلقک، ممکن أنک تخلق روبوتاً، ويخرج عن أرادتک، - کما يصَوَّر في بعض الأفلام، صنعوا آلة، ثم خرجت عن قدرتهم .. لکن الله عزوجل إذا أخرج قانوناً، لا يخرج عن قدرته، حاشا وکلا، قدرته فوق ما نتصور، فوق ما لا نهاية، فحديثنا الأن حديث عن ما لا نهاية، حديث عن الله عزوجل، ..
(3) الحديث رواه الإمام مسلم في أول حديث من کتابه في کتاب الإيمان من صحيحه عن يحيي بن يعمر قال: کان أول من قال في القدر بالبصرة، معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبدالرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم، فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبدالله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد، .. فقلت: أبا عبدالحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرئون القران ويتقفرون العلم وذکر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أُنُف، قال - أي ابن عمر: فإذا لقيت أولئک فأخبرهم أني بريءٌ منهم، وأنهم برآءُ مني، والذي يحلف به عبدالله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه، ما قبل الله منه حتّي يؤمن بالقدر، قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب: قال بينما نحن جلوس عند رسول الله صلي الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجلٌ .."الحديث."