مقدمة التفريغ
للشيخ أبي قتادة الفلسطيني (حفظه الله)
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحبه الغر الميامين، وعلى من اهتدى بهديهم إلى يوم الدين أما بعد ..
فإن الله عز وجل له الحكمة البالغة في التقدير والإيجاد، يرفع ويضع، ويديم ويقطع، والناس يسيرون في هذه الحياة طمعاً فيما يطلبون ويشتهون، فمن يطلب المال سعى له سعيه، ومن طلب الجاه سلك له مسلكه، ومن أراد العلم فإنه لا بد أن يجري على طريق الأنبياء والرسل، والناس في هذا الباب؛ أي باب طلب العلم لهم موازين في النظر إلى القبول والرد، وإلى البركة والمحق، يرجون الدخول في سلك العلماء والصالحين، وهم في شك مما يقع لهم، يخافون الفوت والترك من الله لهم، وعيونهم فيما يقولون ويفعلون أن يقبل الله منهم عملهم وجهدهم، فإن سارت كتبهم في الناس، أو حصل لها القبول من العلماء فرحوا بهذا رجاء أن يكون هذا من القبول الإلهي لها، مع الخوف من المكر الإلهي لهم في شيء اختفى في قلوبهم لا يحسون به ولا يعلمونه كان سبباً في الرد وعدم القبول، وهكذا يكون طالب العلم وهو يعلم ويكتب في موقف الآمل والخائف، يفرح أن بدت علائم القبول، ويخاف عليها الزوال بسبب طواريء الشر في الأعمال والنيات، وكم من كتاب صار له الانتشار حيناً ثم غاض في بحر النسيان، فلم يعد يذكر أو يعرف، وكم من كتاب لوحق صاحبه، بل أخذ منه كل مقومات البقاء والإستمرار ثم يكون القبول لهذا الكتاب فيسري بين الناس، ويكون فيه البركة والدوام، فهذه سنة الله تعالى الجارية في شأن الكتب والمقالات، وذلك لعمل السنة الإلهية التي قدرها الله حكماً في الوجود بقوله تعالى (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث) والخبيث قد يكون في الشيء ذاته، فينسب الخبث إلى ذات الشيء كما ينسب للنجاسات والربا وكلام الشر، وقد يكون الخبيث بما يعمل من عمل في ظاهره الصلاح مع النية السيئة كالرياء، فالصلاة للناس عمل خبيث، مع أن الصلاة في نفسها خير وصلاح، والله يقول (فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) وهذه القاعدة القرآنية تجمع مع الأولى ليحصل قانون البقاء والدوام لكل موجودات الحياة من علم وعمل وذكر وسير أناس، فمن لم يراقب حركة الحياة في الوضع والرفع ليعرف قوة الحق والعلم فهو غافل عن أعظم سنة إلهية في الوجود، فهذا القرآن يقرر الحقيقة هذه بقوله (فهل ترى لهم من باقية) يقولها ليرى الناظر البصير أين ذهب الشر، وكيف صار مآله، وفي المقابل يقول عن المتقين (ورفعنا لك ذكرك) وذلك لأن الصالحين يقولون على لسان إمام الحنفاء (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) ، فهذه قاعدة بقاء الحق وأهله وكتبه ومقالاته، يحب أن يدخل المرء فيها، ويطلب من الله تعالى سراً وعلناً أن يكون من أهلها، بشرط سلوك سبيلها من الاتقان والحكمة واتباع سنن الوجود،