فهرس الكتاب
الصفحة 87 من 224

المعتزلة لم يتصوروا لله إلا إرادة واحدة، وهي الإرادة الشرعية، وأما الإرادة الكونية وهي القدر، فلم يقولوا بها .. [1]

(1) سبب الضلال عند القدرية والجبرية في باب القدر: إعلم أن القدرية والجبرية کانوا أخوين يمشيان في طريق واحد، وعندهم قاعدة قد أصَّلوها واعتمدوها، وهي أن کل شيء يشاءه الله فهو يحبه، فالمشيئة عندهم مرادفة للمحبة، إلي هنا وهم متفقون، لکن لما نظروا إلي الأشياء الموجودة في الکون وجدوا فيها الکفر والشرک والبدعة والزنا وشرب الخمور وعقوق الوالدين والسرقة ونحو ذلک من الآثام،. فقالت الجبرية: بما أن هذه الأشياء قد شاءها الله وأوجدها فهو يحبها ونحن مجبورون علي فعلها، فتري الواحد منهم يقارف الذنب ويري أنه يفعل عين ما يحبه الله تعالي؛ لأن الله شاءه وکل شيء يشاءه فهو يحبه .. أما القدرية: فإنهم لما نظروا إلي نتيجة هذه القاعدة وقفوا متحيرين وتعاظموا أن يقولوا أن الله يحب الکفر والزنا واللواط والخمر ونحو ذلک؛ لأن وجودها في الکون دليل المشيئة لها والمشيئة عندهم مرادفة للمحبة، فقالوا: لا حلَّ عندنا إلا أن نقول أن العبد هو الذي يخلق هذه الأفعال وأن الله تعالي لم يشأها منه ولا أرادها أن تقع في الکون، لکن العبد هو الذي أوجدها بنفسه استقلالاً - أي هو خالق أفعاله - وهم بذلک قد وقعوا في شر مما فروا منه، فأنت تري أن سبب ضلال هاتين الفريقتين هو أنهم جعلوا مشيئة الله وأرادته شيئاً واحداً لا ينقسم وأنها مرادفة للمحبة ولهذا لزم عليهم هذه اللوازم الباطلة ..

فالجبرية والقدرية اتفقوا في الأصل والقاعدة، واختلفوا لما ظهرت نتائجها، فالجبرية رضيت لها، وأما القدرية فرفضت هذه النتيجة لکن القدرية لم يتجرءوا علي تغيير هذه القاعدة واستطاعوا تحريف کلام الله وکلام رسوله ليتوافق مع أهوائهم ومذاهبهم، فنعوذ بالله من أسباب الضلال، ونسأله جل وعلا أن يهدينا رشدنا.

أما أهل السنة والجماعة: عندهم أن إرادة الله تعالي تنقسم إلي قسمين: الأول: الإرادة الکونية القدرية،. هي مرادفة للمشيئة وهذه الإرادة لا يخرج عن مرادها شيء، فالکافر والمسلم تحت هذه الإرادة الکونية سواء، فالطاعات والمعاصي کلها داخلة تحت هذه الإرادة، قال تعالي: (و إذا أراد الله بقومٍ سوءا فلا مرد له) الرعد 11، وقال تعالي: (ولا ينفعکم نصحي إن أردت أن أنصح لکم إن کان الله يريد أن يغويکم هو ربکم وإليه ترجعون) هود 34. وقال تعالي: (فمن يرد الله أن يهده يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً کأنما يصعد في السماء) الأنعام 125 و .. الثاني: الإرادة الشرعية الأمرية الدينية، وهي مرادفة للمحبة، وتتضمن ما يحبه الله ويرضاه. قال تعالي: (يريد الله بکم أليسر ولا يريد بکم العسر) البقرة 185، وقال تعالي: (والله يريد أن يتوب عليکم) النساء 27 و ..

فهذا من ناحية التقسيم والتدليل، وأما من ناحية التفريق بين الأرادتين فاعلم أن أهل العلم قد فرقوا بينهما بثلاثة فروق:

الفرق الأول: أن الإرادة الکونية لا يستلزم المحبة، وأما الإرادة الشرعية فإنها تستلزم المحبة، أي أنها ليس کل شيء يخلقه الله کوناً يلزم أن يکون محبوباً له، وهذا فيه رد لقاعدة الجبرية والقدرية، وهي قولهم: کل شيء يشاؤه فهو يحبه، وهذا الکلام ليس له مطلق الصحة، وأما الإرادة الشرعية فإن کل شيءٍ أمر الله به شرعاً فإنه يحبه ويرضاه، فالکونية لا تستلزم المحبة، والشرعية تستلزم المحبة.

الفرق الثاني: الإرادة الکونية لابدّ أن تقع، أي أن کل شيء أراده الله کوناً فإنه لابدّ أن يقع لا يدفعه شيء أبداً فالإرادة الکونية لازمة الوقوع، وأما الإرادة الشرعية فإنها قد تقع وقد لا تقع، أي قديريد الله أشياء شرعاً لکنها لا تقع کوناً، فالله يريد شرعاً من الناس الإسلام والهداية، لکن هذا لم يقع لأن أکثر الناس في کفرٍ وضلال.

الفرق الثالث: أن الإرادة الکونية مرادة لغيرها لا لذاتها، وأما الإرادة الشرعية فإنها مرادة لذاتها، فالکفر الواقع مراد لغيره لا لذاته، والمعاصي الواقعة مرادة لغيرها لا لذاتها، وأما الإيمان فإنه مراد لذاته وکذلک الصلاة والزکاة وسائر الطاعات، فإنها مرادة لذاتها.

وقد تجتمع الأرادتان: فکل شيءٍ وقع في الکون وهو مما يحبه الله ويرضاه، فإنه مما اجتمع فيه الأرادتان، مثل إيمان أبي بکر وعمر وعثمان وعلي، وهکذا في إيمان من قد آمن من الثقلين، فهو کوني لأنه وقع - فعلاً - في الکون، وشرعي لأن الله يحبه ويرضاه.

و تنفرد الإرادة الکونية في الأشياء التي وقعت في الکون وهي ما لا يحبه الله ويرضاه، ککفر أبي جهل، وأبي لهب، بل وکفر من کفر من الثقلين ويدخل في ذلک سائر الذنوب والمعاصي التي وقعت في الکون، فإنها من قبيل الإرادة الکونية فقط، لأنها مما لا يحبه الله ويرضاه.

وتنفرد الإرادة الشرعية في الأشياء التي يحبها الله ويرضاها لکنها لم تقع في الکون، فهي شرعية فقط، لکن ليست بکونية لأنها ما وقعت، والإرادة الکونية لازمة الوقوع، - ومثال ما انفرد فيه الإرادة الشرعية فقط - کإيمان أبي جهل وسجود إبليس لآدم ونحو ذلک، فکل ذلک مما يحبه الله فهو إرادة شرعية لکنه لم يقع فأبوجهل لم يؤمن و ..

اعلم أن الجبرية -وهم الجهمية نفاة الصفات، لکن في باب القدر نطلق عليهم الجبرية - هؤلاء يقولون إن کل شيء لا يقع إلا بقضاء الله وقدره، - وهذا قول صحيح لا غبار عليه - ولکن يإليتهم وقفوا عند هذا، بل غلوا في إثبات القدر حتّي قالوا: وليس للعبد قدرة ولا إختيار علي فعله، بل هو کالريشة في مهب الريح، وکالميت بين يدي غاسله ولا يملک مطلق القدرة ولا مطلق الإختيار .. ، فأنت تري أن قولهم في باب القدر فيه حق وباطل، فالحق هو إثباتهم للقدر السابق، والباطل سلبهم العبد قدرته وإختياره.

واعلم أن القدرية - في هذا الباب - قولهم: أن العبد له مشيئة وقدرة وإختيار علي فعله، فليس هو مجبور عليه، بل يفعل فعله بقدرته وإختياره، - وهذا القدر من قولهم حق لا غبار عليه - ولکن يإليتهم وقفوا عند ذلک، بل زادوا عليه قولهم"والعبد هو الذي يخلق فعله ولا رابطة بين مشيئته ومشيئة الله جل وعلاه"، فجعلوه هو الذي يختار ويشاء فعله، الإختيار المطلق والمشيئة المطلقة، فعندهم قد يشاء العبد ويفعله، ما لا يشاؤه الله جل وعلا، فليس هناک مطلق الرابطة بين مشيئة الله عزوجل ومشيئة العبد، وقد انقسموا فريقين: 1 - القدرية الغلاة: وهم الذين ينکرون سبق العلم والکتابة، ويقولون إن الأمر أنف، لا يعلمه الله تعالي إلا بعد وقوعه من العبد، وهي الفرقة التي کفّرها من عاصرها من الصحابة کابن عمر وغيره، وکفّرها أيضاً أئمة السلف ..

2 -القدرية المتأخرون: وهؤلاء هم أکثر القدرية في هذه الأزمنة، ويقولون: قدعلم الله ما سيفعله العبد لکن العبد هو الذي يوجد فعله استقلالاً، فلا ينسب الفعل إلي الله خلقاً ولا إيجاداً، هذه هي خلاصة أقوال الفرق في مسألة القدر.

فجاء أهل السنة والجماعة، الذين عندهم الحق في هذه المسألة - وکل المسائل - ذلک الحق الذي، أخذ الجبرية والقدرية قسطاً منه فخلطوه بالباطل، .. فقال أهل السنة والجماعة: کل شيء بقضاء الله وقدره، فالله تعالي قدر المقادير قبل خلق السماوات والأرض بخمسين الف سنة وکتب کل ذلک في اللوح المحفوظ - کما ورد هذا في الصحيح عن رسول الله صلي الله عليه وسلم -وشاءه بمشيئته النافذة وقدرته الشاملة وخلق کل شيء فقدره تقديراً، وجعل للعباد قدرة علي أفعالهم ومشيئةً، وهو الخالق لقدرتهم وأرادتهم ومشيئتهم، فلا يشاؤون إلا ما يشاء الله، وأن العباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم وأن العبد هو المؤمن والکافر والبر والفاجر والمصلِّي والمزکِّي والصائم. وبالجملة فأفعال العباد تنسب إلي الله تعالي خلقاً وإيجاداً، وتنسب إلي العبد فعلاً وکسباً. - وليس هذا، الکسب الذي، عند الأشاعرة الذي يأتي ذکره في الصفحات التالية -. فأهل السنة، بهذا القول حققوا مذهب الوسطية کعادتهم وأخذوا بالأدلة کلها ولم يدعوا منها شيئاً ولم يخالفوا بهذا القول نصاً صحيحاً صريحاً. بل جاء قولهم موافقاً مع الحق (الکتاب والسنة) .

سوال: هل العبد مسير أم مخير؟ الجواب لهذا السؤال، يختلف باختلاف الاقوال في باب القدر، فالجبرية الذين يسلبون العبد قدرته وإختياره، يقولون: إن العبد مسير - مجبور - مطلقاً، لا حيلة له في فعله ولا ينسب فعله إليه إلا مجازاً. وهذا القول خطأ؛ لأنه بني أصلاً علي الخطأ، وما بني علي الضلال فهو ضلال .. وأما القدرية الذين يثبتون للعبد القدرة الکاملة والمشيئة المستقلة فإنهم يقولون: العبد مخير مطلقاً، وهذا القول خطأ أيضاً؛ لأنه مبني علي خطأ، وأما أهل السنة والجماعة، فلأنهم يقولون بإثبات القدر السابق وبإثبات قدرة العبد ومشيئته فقد قالوا هنا: إن العبد مسير ومخير، لکن بإعتبارين، فهو مسير باعتبار ما کتب وقدر له وسبق به العلم في الأزل، ومخير باعتبار دخول الفعل تحت قدرته وإختياره، أي أننا إذا نظرنا إلي ما سبق وقدر وفرغ من کتابته قلنا: هو مسير، وإذا نظرنا إلي دخول الفعل تحت قدرته وإختياره، قلنا: هو مخير، فاجتمع فيه التسيير والتخيير - باعتبارين -.

ونضرب لکم مثلاً: لو أن إنساناً سلک طريقاً من الطرق ثم جاءه مساران إما يمين وإما شمال فهو مخير باعتبار أنه إن أراد أن يذهب يميناً فله ذلک، وإن أراد أن يذهب شمالاً فله ذلک، فهذا الفعل داخل تحت إختياره، فهو بهذا الإعتبار مخير، لکن أعلم أنه لن يذهب إلا إلي الجهة التي قدرها الله له وسبق بها علمه وکتابته فهو بهذا الإعتبار مسير ..

لو أن إنساناً خير بين سيارتين لشراء واحدة منهما، فهو مخير إن شاء اشتري هذه السيارة وإن شاء اشتري الأخري، فهذا الفعل أي شراء أحدي السيارتين فعل داخل تحت قدرته وإختياره، فهو بهذا الاعتبار مخير، ولکن اعلم أنه لن يشتري إلا السيارة التي کتبت له وقدرت له، وسبق بها علم الله تعالي وشاءها له، وهو بهذا الإعتبار مسير.

وقس علي ذلک سائر الأمور. فأهل السنة بهذا الطريق، قدسلکوا مسلک الوسطية، کعادتهم في کل الأمور. کما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلک کما يؤمنون بما أخبر الله به في کتابه من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تکليف ولا تمثيل بل هم الوسط في فرقة الأمة کما أن الأمة هي الوسط في الأمم، فهم وسط في باب صفات الله تعالي بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة، وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية، وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم .. وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية. وفي أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج". {العقيدة الواسطية ص 15} .

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام