فهرس الكتاب
الصفحة 33 من 224

قلباً وبعد ذلك يدرك غاياته عقلاً. وهذه درجة الحكماء في ديننا الذين فهموا النص، بعد ذلك لو سألته عن حكمة هذا النص وعن مصالح هذا النص، يبين لك حكمته ومصالحه، وهذا فهمٌ يؤتيه الله عزوجل عباده وبهذا تتعدد مراتب الناس في عبوديتهم لله عزوجل وفي خضوعهم للنص.

فرقٌ بين من أخذ النص وسَلَّم له، كدرجة العوام، ليس له وراء العمل بالنص أمر، وفرق بين من أخذ النص واستطاع أن يدافع عنه أمام الأعداء، لو جاء إليه واحد وقال له"هذا النص يخالف العقل"، لو افترضنا أن غبياً - و الأغبياء كثير وهم الغالب على تاريخ الأمم والفرق - لو جاء وقال:"هذا النص لا يوافق المصلحة وأنتم تقولون إن الدين جاء للمصلحة"، فماذا يصنع هذا الفقيه وهذا العالم؟ يبين له موافقة هذا النص للمصلحة وأن المصلحة المتوهَّمة في عقله - بالعقل، ها! بالعقل يستشهد له - يبين له بالعقل أن المصلحة التي في ذهنك ليست حقيقية، ولكنها متوهمة، أو هي ليست راجحة ولكنها مرجوحة، وإنما جاء النص بماذا؟ بالمصالح الراجحة .. [1]

فهمتم مراتب الناس؟ فهمتم ما هي المصلحة في ديننا؟ المصلحة أن تعمل بالنص، كما قال الإمام ابن حزم عليه رحمةُ الله عندما سئل عن العقل قال:"العقل هو العمل بالوحي" [2] ، هذا هو مقدار العقل ..

فهمتم مراتب الناس في قضية الخضوع للنص؟ ..

إخواني! لابدّ أن نعلم أنه لا يوجد في الدنيا مصلحة مطلقة ومفسدة مطلقة، لا يوجد عمل في ديننا مستقل بالمصالح لامفسدة فيه - بالنسبة لكل أحد من الخلق -، لا يوجد مِن عمل من أقدار الله، من مخلوقات الله، مستقل بالمفاسد لا مصلحة فيه. الآن، الخمر التي نهينا عنها، لماذا؟ لمفسدتها. هل فيها مصالح؟ .. ، يأتي واحد ويقول لك: يا عمِّ لماذا تحرم الخمر؟ رجلٌ في عمله وتعبه ومشأكل الحياة ومشأكل الناس، تأتى له بكاسٍ من الخمر فيشربه، فينسى الدنيا ومشأكله، فأنت بهذا تريحه! .. ، فالمصلحة موجودة أو متوهمة؟ موجودة .. ، الآن يأتي آخر ويقول لك، كما قال شيخٌ - هذا شيخٌ يدعى العلم وهو سلفي - يقول هذا الشيخ: أنه في الجزائر، عامة الناس يشتغلون في كروم العنب - في مزارع العنب - فهي الداخل الرئيسى للفقراء هناك، وهي تعد مدخلاً صحيحاً من مداخل رؤوس الأموال للبلد، لأنها تُصدِّر هذه الكروم إلى الفرانسة لصناعة الخمر، - يقول - فهل من مصلحة الإسلام أن يمنع هؤلاء ويذهب هذه المصلحة الموجودة، وتحل بدل هذه مصلحة، المفسدة، وهي فقر الناس وفقر الدولة؟!.

هو يقول:"هذه مصلحة"! .. هل هي مصلحة؟ نعم هذه مصلحة، ولكنه ينسى تلك المفاسد .. يعني كلُّ إنسان يستطيع أن يبين لك الصورة التي يريدها، أن فيه المصلحة - عليكم

(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"فعلي العبد أن يسلم للشريعة المحمدية الکاملة البيضاء ويعلم أنها جاءت بتحصيل المصالح وتکميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وإذا رأي من العبادات والتقشفات وغيرها التي يظنها حسنة ونافعة ما ليس بمشروع، علم أن ضررها راجح علي نفعها ومفسدتها راجحة علي مصلحتها إذ الشارع لا يهمل المصالح". {الرد علي البکري ج 1 ص 167. الناشر: مکتبة الغرباء الأثرية المدينة المنورة} .

(2) وقال رحمه الله تعالى:"العاقل من أطاع الله". (الإحكام في أصول الأحكام ص 18) .

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام