فهرس الكتاب
الصفحة 103 من 224

أنظروا إلى الفقه، خذوا منه المنهج أو النموذج من عقلية الأمة كيف إنحدرتت: في ذلك الوقت، النص النبوى في قضية إخراج الأحكام الفقهية، مازال ناصعاً، أيُّ فقيه يريد المسألة، يذهب إلى النص مباشرةً ويتعامل معه، والتقليد كان ضعيفاً، والتعصب المذهبي غير موجود أبداً، .. و أمتنا تتعامل على أساس الإشراق العلمي والتعامل مع النص، والعالم فقط مبلِّغ لدين الله .. يأتي العامي البدوي، الذي لا يفهم شيئاً - كما قال الذهبي: البوَّال على عقبيه - يأتي للشافعي، يسأله عن المسألة، فيقول له:"هي هكذا". يقول له من أين جئت بها؟ فيقول:"من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم". فيقول:"سمعاً وطاعةً"ويخرج ..

ما زالت أمتنا حياً .. بعد ذلك، بدأ العلماء يخرجون الأحكام الفقهية من النص، جاء الدور الثاني - أو الذي بعدهم -، وهو دور المُخَرِّجين على كلام العلماء .. ، النص أنتهي، وضع في ركب البركة، صار الناس يستخدمون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم للبركة، فإذا جاء جيش من الغزاة، ليغزوا بلدتنا، فلنذهب إلى المسجد الجامع ونقرأ صحيح البخارى من أجل أن يرفع عنَّا بلاء هذا الهجوم فقط!! .. صار دور ماذا للحديث النبوي؟ للبركة، للتبرك، يأخذ للبركة حتّى الله ينصرنا!، وإذا أردنا الأستسقاء، نقرأ في البخاري، فالله يرزقنا .. وهكذا .. أما التعامل مع النص للحكم الشرعي، لا، .. الآن صار تخريج كلام العلماء، صار كلام العلماء، هو النص والبحث له عن أدلة، إذا لم يوجد له الأدلة .. ثم جاء فريق آخر، وصار يخرِّج الأحكام الشرعية على أي كلام؟ على كلام العلماء، فألَّفوا كتب مُخرَّجة على كلام العلماء، ثم جاء من يشرح كلام العلماء، كلام العلماء عميق! ويجب أن نشرحه، .. فصارت الشروحات على كلام العلماء، .. وصارت الشروحات ملأت الدنيا، صار الكتاب الواحد الفقهي لشرح مذهب فقهي في ثلاثين مجلداً، أربعين مجلداً، طويل! .. ولابدّ أن نبحث ونختصر هذه المجلدات في مختصر، في متن، فنشأت عقلية"المتون".. ثم بعد ذلك، صاروا يصيغون الفقه شعراً، وبعد ذلك، فيأتي المجموعة الثانية، ماذا يصنع؟ يشرح الشعر .. ثم يأتي من يشرح الشرح ويعلِّق عليه ويحَشِّي عليه .."أصحاب الحواشي"!! والنص أين دوره؟ فقط القراءة فيه للبركة، ولتخريج كلام العلماء .. أنظروا .. ماهذا؟ إسقاط العقل، كله لا قيمة للعقل فيه، لا أهمية للعقل ..

القصد، أنه لما جاءت المعتزلة، كان ما زال النص النبوي حياً في أمتنا، والتعامل معه مشرقاً، وعقلية الأمة عقلية مُبدعة، وكان أئمة كبار وأباقرة، يفهمون ويدركون ويجتهدون ..

فكانت أمتنا بعدُ حيةً، فنضارة النص النبوي، داعية، لعدم وجود الغير، ولا يقبل الغير .. والعالم والعبقري، يدرك أقوال الغير ويعلم مصادمتها للكتاب والسنة، فيردها. وأما الإنسان البسيط العامي، فموضوع على أذنيه جدرٌ، لاتقبل إلا من هذا المصدر - النص الشرعي -، فإذا جاءه رجلٌ يقول له، قال:"أرسطو"، قال: كذا، و .. ماذا يصنع هذا العامي؟ يطرده ولايقبل منه شيئاً .. فمازال النص النبوي، بكل هذه الأبعاد حياً في أمتنا، ولذلك هُزِم وطُرِد فكر المعتزلة .. حتّى الصوفية، في بادية الأمر، لُفِظَت وطُرِدَت من الأمة، وأعلنت الأمة أن الصوفية"كافرٌ زنديق".. جاء هذا في كتاب"اللُّمع"، للطوسي،"عبدالله بن علي الطوسي، أبو نصر السراج، المتوفي 378 ه".. يقول:"ولقد سيقت الصوفية إلى الوالي، فأمر بقتلهم جميعاً، إلا الجُنيد، فإنه تَسَتَّر بالفقه". لأنه كان يفتي على مذهب أبي ثور - ..

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام