في ذلك الوقت، لما جاءت فكر المعتزلة، أمتنا كانت حية، والنص النبوى مُشرِق، - لأنه لو جاء الآن، في زماننا .. أنا متأكد من هذا، أن لو لم تكن فكرة خلق القرآن قديمة ومبحوثة، كمسألة خصومة مأبين فِكرِ الهُدَى (وهو أهل السنة والجماعة) ومأبين فكر الضلال (وهم المعتزلة) ، لو كان هذا، في زماننا، لتوقف الناس، خلق القرآن!؟ .. يعني القرآن مخلوق؟!! .. لكان الناس لم يفهموا منها شيئاً، لكان الناس لا يعرفون منها شيئاً ..
لكن، في ذلك الوقت، للوضوح الذي كان للقضية، في طرح البدعة - عند المعتزلة -، ولنضارة النص النبوي لدى الأمة، ومعالم الإشراق في عقولها والفهم الواعي وحركة الإسلام المتدفقة الحيوية علمياً وعسكرياً، .. كان فكر المعتزلة في ذلك الحال ضعيفاً.
ولذلك كان حرب أهل السنة له شديداً، وقاموا عليه أشد قيام ففلُّوا قوَّته .. و وضح الحق وزهق الباطل ..
كان الإمام الشافعي رحمه الله، يناقش"حفص الفرد"، أحد أئمة المعتزلة الذي كان يقول بخلق القرآن وكان رجلاً قدرياً .. ناقشه، والناس حضور، فرأوا غلبة الإمام الشافعي على"حفص الفرد"حتّى قال له الإمام الشافعي:"لقد كفرت ياحفص! كفرت بالله العظيم! كفرت والله الذي لا إله إلّا هو!" [1]
المناقشة كانت فيها حيوية، فأمتنا كانت بعدُ لم يدخل فيها عوامل الإنحراف، عوامل الضعف، ودخول الأفكار الأخرى في أمتنا، كان دخولاً جزئياً متمثلاً بجماعة المعتزلة .. وأما مازال أهل الحديث بوعيهم وعقولهم وإدراكهم وفهمهم وعبقريتهم .. وأمتنا ما زالت تنجب الأباقرة، وتنجب الأفهام القوية، كأمثال الإمام الشافعي رحمه الله، .. هل تعرفون ما معنى"الشافعي"!؟ هذا عقلية سنحدث عنه في مقام آخر، هذه من عقليات التاريخ الإنسانية، التي ينبغي أن يفتخر الإنسان بكونه إنساناً، بأنه موجود في الدنيا إنسان واحد مثل الإمام الشافعي، يكون بمثل هذه العقلية ..
إخواني! الإسلام لا يمكن أن يؤتي آثاره، إلّا بعقول قويةٍ ناضرة، تستخدم العقل ولها قُوّة إدراك عميق، عندها القدرة، كما قال عمر رضي الله عنه:"لست بالخَبِّ ولا الخَبُّ يخدعني".. [2] هل تتصور هذه العقلية؟ .. أحد من الصحابة يقول:"والله لو لا الإسلام لكدتُ كيداً، تسامعت به العرب".. هذه العقلية ماذا؟! هي الفاهمة الزكية .. الإسلام لا يقوم بالخمول .. الصوفية هي التي تبني الخمول، الصوفية هي التي تبني عقلية الركود وعدم التفكير، التي يقول لصاحبها:"إخلع عقلك عند حزاءك واتبعنى"! .. نعم! الشيخ الصوفي يقول:"عليك أن تُسَلَّم لي كما يسَلَّم الميت لغاسله"..
إذن في ذلك الوقت - أي في عصر السلف -، مازال التقليد لا يوجد في أمتنا، التقليد الذي يميت إشراق العقول وإبداعاتها .. للأسف هذه الأمة، بعد ذلك، ..
(1) ذکره الإمام اللالکائي في"شرح أصول إعتقاد أهل السنة والجماعة"رقم (356 و 357 و 523) . ورواه الإمام الآجري في"الشريعة"ص 78.
(2) ذکره الإمام الماوردي في (أدب الدنيا والدين) ص 13. وذکره إبن القيم في"الروح"ص 244 وعلق عليه بقوله:"فکان عمر رضي الله عنه، أورع من أن يخدع، وأعقل من أن يخدع".