لقد كان هذا القرآن المكي يفسر للإنسان سر وجوده ووجود هذا الكون من حوله .. كان يقول له: من هو؟ ومن أين جاء وكيف جاء ولما ذا جاء؟ وإلى أين يذهب في نهاية المطاف؟ من ذا الذي جاء به من العدم والمجهول؟ ومن ذا الذي يذهب به وما مصيره هناك؟ .. وكان يقول له: ما هذا الوجود الذي يحسه ويراه ، والذي يحس أن وراءه غيبا يستشرفه ولا يراه؟ من أنشأ هذا الوجود المليء بالأسرار؟ من ذا يدبره ومن ذا يحوره؟ ومن ذا يجدد فيه ويغير على النحو الذي يراه؟ .. وكان يقول له كذلك: كيف يتعامل مع خالق هذا الكون ، ومع الكون أيضا ، وكيف يتعامل العباد مع خالق العباد.
وكانت هذه هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجود «الإنسان» . وستظل هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجوده ، على توالي الأزمان ..
وهكذا انقضت ثلاثة عشر عاما كاملة في تقرير هذه القضية الكبرى. القضية التي ليس وراءها شيء في حياة الإنسان إلا ما يقوم عليها من المقتضيات والتفريعات .. ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة ، إلا بعد أن علم اللّه أنها قد استوفت ما تستحقه من البيان ، وأنها استقرت استقرارا مكينا ثابتا في قلوب العصبة المختارة من بني الإنسان ، التي قدر اللّه لها أن يقوم هذا الدين عليها وأن تتولى هي إنشاء النظام الواقعي الذي يتمثل فيه هذا الدين.
وأصحاب الدعوة إلى دين اللّه ، وإقامة النظام الذي يتمثل فيه هذا الدين في واقع الحياة خليقون أن يقفوا طويلا أمام هذه الظاهرة الكبيرة .. ظاهرة تصدي القرآن المكي خلال ثلاثة عشر عاما .. لتقرير هذه العقيدة ثم وقوفه عندها لا يتجاوزها إلى شيء من تفصيلات النظام الذي يقوم عليها ، والتشريعات التي تحكم المجتمع المسلم الذي يعتنقها ..
لقد شاءت حكمة اللّه أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوة لها منذ اليوم الأول للرسالة.
وأن يبدأ رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - أولى خطواته في الدعوة ، بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن يمضي في دعوته يعرّف الناس بربهم الحق ، ويعبدهم له دون سواه.
ولم تكن هذه - في ظاهر الأمر وفي نظرة العقل البشري المحجوب - هي أيسر السبل إلى قلوب العرب!
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 1004)