«وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ، وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ. وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» ..
وهذا الختام في دعوة عيسى - عليه السلام - لبني إسرائيل يتكشف عن حقائق أصيلة في طبيعة دين اللّه ، وفي مفهوم هذا الدين في دعوة الرسل جميعا - عليهم الصلاة والسلام - وهي حقائق ذات قيمة خاصة حين ترد على لسان عيسى - عليه السلام - بالذات ، وهو الذي ثار حول مولده وحقيقته ما ثار من الشبهات ، التي نشأت كلها من الانحراف عن حقيقة دين اللّه التي لا تتبدل بين رسول ورسول.
فهو إذ يقول: «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» ..
يكشف عن طبيعة المسيحية الحقة. فالتوراة التي تنزلت على موسى - عليه السلام - وهي تتضمن التشريع المنظم لحياة الجماعة وفق حاجة ذلك الزمان ، وملابسات حياة بني إسرائيل (بما أنها ديانة خاصة لمجموعة من البشر في فترة من الزمان) - هذه التوراة معتمدة في رسالة المسيح عليه السلام وجاءت رسالته مصدقة لها ، مع تعديلات تتعلق بإحلال بعض ما حرم اللّه عليهم ، وكان تحريمه في صورة عقوبات حلت بهم على معاص وانحرافات ، أدبهم اللّه عليها بتحريم بعض ما كان حلالا لهم. ثم شاءت إرادته أن يرحمهم بالمسيح عليه السلام ، فيحل لهم بعض الذي حرم عليهم.
ومن هذا يتبين أن طبيعة الدين - أي دين - أن يتضمن تنظيما لحياة الناس بالتشريع وألا يقتصر على الجانب التهذيبي الأخلاقي وحده ، ولا على المشاعر الوجدانية وحدها ، ولا على العبادات والشعائر وحدها كذلك. فهذا لا يكون دينا. فما الدين إلا منهج الحياة الذي أراده اللّه للبشر ونظام الحياة الذي يربط حياة الناس بمنهج اللّه.
ولا يمكن أن ينفك عنصر العقيدة الإيمانية ، عن الشعائر التعبدية ، عن القيم الخلقية ، عن الشرائع التنظيمية ، في أي دين يريد أن يصرّف حياة الناس وفق المنهج الإلهي. وأي انفصال لهذه المقومات يبطل عمل الدين في النفوس وفي الحياة ويخالف مفهوم الدين وطبيعته كما أراده اللّه.
وهذا ما حدث للمسيحية. فإنها لعدة ملابسات تاريخية من ناحية ولكونها جاءت موقوتة لزمن - حتى يجيء الدين الأخير - ثم عاشت بعد زمنها من ناحية .. قد انفصل فيها الجانب التشريعي التنظيمي عن الجانب الروحاني التعبدي الأخلاقي .. فقد حدث أن قامت العداوة المستحكمة بين اليهود والمسيح عليه
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 399)