أسباب هذا الكف ، أنه كان يراد أولا تطويع نفوس المؤمنين من العرب للصبر امتثالا للأمر ، وخضوعا للقيادة ، وانتظارا للإذن. وقد كانوا في الجاهلية شديدي الحماسة ، يستجيبون لأول ناعق ، ولا يصبرون على الضيم .. وبناء الأمة المسلمة التي تنهض بالدور العظيم الذي نيطت به هذه الأمة يقتضي ضبط هذه الصفات النفسية ، وتطويعها لقيادة تقدر وتدبر ، وتطاع فيما تقدر وتدبر ، حتى لو كانت هذه الطاعة على حساب الأعصاب التي تعودت الاندفاع والحماسة والخفة للهيجاء عند أول داع .. ومن ثم استطاع رجال من طراز عمر بن الخطاب في حميته ، وحمزة بن عبد المطلب في فتوته ، وأمثالهما من أشداء المؤمنين الأوائل أن يصبروا للضيم يصيب الفئة المسلمة وأن يربطوا على أعصابهم في انتظار أمر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وأن يخضعوا لأمر القيادة العليا وهي تقول لهم: «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» .. ومن ثم وقع التوازن بين الاندفاع والتروي ، والحماسة والتدبر ، والحمية والطاعة .. في هذه النفوس التي كانت تعد لأمر عظيم ..
والأمر الثاني الذي يلوح لنا من وراء الكف عن القتال في مكة .. هو أن البيئة العربية ، كانت بيئة نخوة ونجدة. وقد كان صبر المسلمين على الأذى ، وفيهم من يملك رد الصاع صاعين ، مما يثير النخوة ويحرك القلوب نحو الإسلام وقد حدث بالفعل عند ما أجمعت قريش على مقاطعة بني هاشم في شعب أبي طالب ، كي يتخلوا عن حماية الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - أنه عند ما اشتد الاضطهاد لبني هاشم ، ثارت نفوس نجدة ونخوة ، ومزقت الصحيفة التي تعاهدوا فيها على المقاطعة. وانتهى هذا الحصار تحت تأثير هذا الشعور الذي كانت القيادة الإسلامية في مكة تراعيه في خطة الكف عن المقاومة ، فيما يبدو لنا من خلال دراسة السيرة كحركة.
ومما يتعلق بهذا الجانب أن القيادة الإسلامية لم تشأ أن تثير حربا دموية داخل البيوت. فقد كان المسلمون حينذاك فروعا من البيوت. وكانت هذه البيوت هي التي تؤذي أبناءها وتفتنهم عن دينهم ولم تكن هناك سلطة موحدة هي التي تتولى الإيذاء العام. ولو أذن للمسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم يومذاك ، لكان معنى هذا الإذن أن تقوم معركة في كل بيت ، وأن يقع دم في كل أسرة .. مما كان يجعل الإسلام - في نظر البيئة العربية - يبدو دعوة تفتت البيوت ، وتشعل النار فيها من داخلها .. فأما بعد الهجرة فقد انعزلت
(1) - - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 185)