«فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ ، وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ، وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ..
وهذا هو التوازن الذي يتسم به المنهج الإسلامي. التوازن بين مقتضيات الحياة في الأرض ، من عمل وكد ونشاط وكسب. وبين عزلة الروح فترة عن هذا الجو وانقطاع القلب وتجرده للذكر. وهي ضرورة لحياة القلب لا يصلح بدونها للاتصال والتلقي والنهوض بتكاليف الأمانة الكبرى. وذكر اللّه لا بد منه في أثناء ابتغاء المعاش ، والشعور باللّه فيه هو الذي يحول نشاط المعاش إلى عبادة. ولكنه - مع هذا - لا بد من فترة للذكر الخالص ، والانقطاع الكامل ، والتجرد الممحض. كما توحي هاتان الآيتان.
وكان عراك بن مالك - رضي اللّه عنه - إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: «اللهم إني أجبت دعوتك ، وصليت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتني. فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين» ..
(رواه ابن أبي حاتم) .. وهذه الصورة تمثل لنا كيف كان يأخذ الأمر جدا ، في بساطة تامة ، فهو أمر للتنفيذ فور سماعه بحرفيته وبحقيقته كذلك! ولعل هذا الإدراك الجاد الصريح البسيط هو الذي ارتقى بتلك المجموعة إلى مستواها الذي بلغت إليه ، مع كل ما كان فيها من جواذب الجاهلية. مما تصوره الآية الأخيرة في السورة: «وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً. قُلْ: ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ. وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» ..
عن جابر - رضي اللّه عنه - قال: «بينا نحن نصلي مع النبي - صلى اللّه عليه وسلم - إذ أقبلت عير تحمل طعاما ، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي - صلى - اللّه عليه وسلم - إلا اثنا عشر رجلا ، منهم أبو بكر وعمر رضي اللّه عنهما. فنزلت: «وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما» ..
وفي الآية تلويح لهم بما عند اللّه وأنه خير من اللهو ومن التجارة. وتذكير لهم بأن الرزق من عند اللّه «واللّه خير الرازقين» ..
وهذا الحادث كما أسلفنا يكشف عن مدى الجهد الذي بذل في التربية وبناء النفوس حتى انتهت إلى إنشاء تلك الجماعة الفريدة في التاريخ. ويمنح القائمين على دعوة اللّه في كل زمان رصيدا من الصبر على ما يجدونه من ضعف ونقص وتخلف وتعثر في الطريق. فهذه هي النفس البشرية بخيرها وشرها. وهي قابلة
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3570)