فهرس الكتاب
الصفحة 476 من 491

الربط بين العبادة والعقيدة[1]

كم من آلاف الشهور وآلاف السنين قد انقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة السعيدة من آثار وتحولات.

والليلة من العظمة بحيث تفوق حقيقتها حدود الإدراك البشري: «وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟» وذلك بدون حاجة إلى التعلق بالأساطير التي شاعت حول هذه الليلة في أوهام العامة. فهي ليلة عظيمة باختيار اللّه لها لبدء تنزيل هذا القرآن. وإفاضة هذا النور على الوجود كله ، وإسباغ السلام الذي فاص من روح اللّه على الضمير البشري والحياة الإنسانية ، وبما تضمنه هذا القرآن من عقيدة وتصور وشريعة وآداب تشيع السلام في الأرض والضمير . وتنزيل الملائكة وجبريل - عليه السلام - خاصة ، بإذن ربهم ، ومعهم هذا القرآن - باعتبار جنسه الذي نزل في هذه الليلة - وانتشارهم فيما بين السماء والأرض في هذا المهرجان الكوني ، الذي تصوره كلمات السورة تصويرا عجيبا ..

وحين ننظر اليوم من وراء الأجيال المتطاولة إلى تلك الليلة المجيدة السعيدة ، ونتصور ذلك المهرجان العجيب الذي شهدته الأرض في هذه الليلة ، ونتدبر حقيقة الأمر الذي تم فيها ، ونتملى آثاره المتطاولة في مراحل الزمان ، وفي واقع الأرض ، وفي تصورات القلوب والعقول .. فإننا نرى أمرا عظيما حقا. وندرك طرفا من مغزى هذه الإشارة القرآنية إلى تلك الليلة: «وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟» ..

لقد فرق فيها من كل أمر حكيم. وقد وضعت فيها من قيم وأسس وموازين. وقد قررت فيها من أقدار أكبر من أقدار الأفراد. أقدار أمم ودول وشعوب. بل أكثر وأعظم .. أقدار حقائق وأوضاع وقلوب! ولقد تغفل البشرية - لجهالتها ونكد طالعها - عن قدر ليلة القدر. وعن حقيقة ذلك الحدث ، وعظمة هذا الأمر. وهي منذ أن جهلت هذا وأغفلته فقدت أسعد وأجمل آلاء اللّه عليها ، وخسرت السعادة والسلام الحقيقي - سلام الضمير وسلام البيت وسلام المجتمع - الذي وهبها إياه الإسلام. ولم يعوضها عما فقدت ما فتح عليها من أبواب كل شيء من المادة والحضارة والعمارة. فهي شقية ، شقية على الرغم من فيض الإنتاج وتوافر وسائل المعاش! لقد انطفأ النور الجميل الذي أشرق في روحها مرة ، وانطمست الفرحة الوضيئة التي رفت بها وانطلقت إلى الملأ الأعلى. وغاب السلام الذي فاض على الأرواح والقلوب. فلم يعوضها شيء عن فرحة الروح ونور السماء وطلاقة الرفرفة إلى عليين ..

(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3945)

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام