ومن الناحية الأخرى تتقرر وحدة الوحي. وحدة مصدره فالموحي هو اللّه العزيز الحكيم. والموحى إليهم هم الرسل على مدار الزمان. والوحي واحد في جوهره على اختلاف الرسل واختلاف الزمان: «إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ» ..إنها قصة بعيدة البداية ، ضاربة في أطواء الزمان. وسلسلة كثيرة الحلقات ، متشابكة الحلقات. ومنهج ثابت الأصول على تعدد الفروع.
وهذه الحقيقة - على هذا النحو - حين تستقر في ضمائر المؤمنين تشعرهم بأصالة ما هم عليه وثباته ، ووحدة مصدره وطريقه. وتشدهم إلى مصدر هذا الوحي: «اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. كما تشعرهم بالقرابة بينهم وبين المؤمنين أتباع الوحي في كل زمان ومكان ، فهذه أسرتهم تضرب في بطون التاريخ ، وتمتد جذورها في شعاب الزمن وتتصل كلها باللّه في النهاية ، فيلتقون فيه جميعا. وهو «الْعَزِيزُ» القوي القادر «الْحَكِيمُ» الذي يوحي لمن يشاء بما يشاء وفق حكمة وتدبير. فأنى يصرفون عن هذا المنهج الإلهي الواحد الثابت إلى السبل المتفرقة التي لا تؤدي إلى اللّه ولا يعرف لها مصدر ، ولا تستقيم على اتجاه قاصد قويم؟
ويستطرد في صفة اللّه الذي يوحي وحده إلى الرسل جميعا فيقرر أنه المالك الوحيد لما في السماوات وما في الأرض ، وأنه وحده العلي العظيم: «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» ..
وكثيرا ما يخدع البشر فيحسبون أنهم يملكون شيئا ، لمجرد أنهم يجدون أشياء في أيديهم ، مسخرة لهم ، ينتفعون بها ، ويستخدمونها فيما يشاءون. ولكن هذا ليس ملكا حقيقيا. إنما الملك الحقيقي للّه الذي يوجد ويعدم ، ويحيي ويميت ويملك أن يعطي البشر ما يشاء ، ويحرمهم ما يشاء وأن يذهب بما في أيديهم من شي ء ، وأن يضع في أيديهم بدلا مما أذهب .. الملك الحقيقي للّه الذي يحكم طبائع الأشياء ، ويصرفها وفق الناموس المختار ، فتلبي وتطيع وتتصرف وفق ذلك الناموس. وكل ما في السماوات وما في الأرض من شيء «لله» بهذا الاعتبار الذي لا يشاركه فيه أحد سواه .. «وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» .. فليس هو الملك فحسب ، ولكنه ملك العلو والعظمة على وجه التفرد كذلك. العلو الذي كل شيء بالقياس إليه سفول والعظمة التي كل شيء بالقياس إليها ضآلة! ومتى استقرت هذه الحقيقة استقرارا صادقا في الضمائر ، عرف الناس إلى أين يتجهون فيما يطلبون لأنفسهم من خير ومن رزق ومن كسب. فكل ما في
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 3139)