وإلى جوار هذه العظمة في رفع هذه السماء الهائلة الوسيعة «وَضَعَ الْمِيزانَ» ميزان الحق. وضعه ثابتا راسخا مستقرا. وضعه لتقدير القيم. قيم الأشخاص والأحداث والأشياء. كي لا يختل تقويمها ، ولا يضطرب وزنها ، ولا تتبع الجهل والغرض والهوى. وضعه في الفطرة ووضعه في هذا المنهج الإلهي الذي جاءت به الرسالات وتضمنه القرآن: وضع الميزان .. «أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ» .. فتغالوا وتفرطوا .. «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ» ..
ومن ثم يستقر الوزن بالقسط ، بلا طغيان ولا خسران.
ومن ثم يرتبط الحق في الأرض وفي حياة البشر ، ببناء الكون ونظامه. يرتبط بالسماء في مدلولها المعنوي حيث يتنزل منها وحي اللّه ونهجه. ومدلولها المنظور حيث تمثل ضخامة الكون وثباته بأمر اللّه وقدرته .. ويلتقي هذان المدلولان في الحس بإيقاعهما وظلالهما الموحية.
«وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ. وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ» .
ونحن لطول استقرارنا على هذه الأرض ، وألفتنا لأوضاعها وظواهرها ، ولوضعنا نحن كذلك عليها.
نحن لهذا كله لا نكاد نحس يد القدرة التي «وضعت» هذه الأرض للأنام. وجعلت استقرارنا عليها ممكنا وميسورا إلى الحد الذي لا نكاد نشعر به. ولا ننتبه إلى ضخامة معنى الاستقرار ، وعظمة نعمة اللّه علينا فيه إلا بين الحين والحين حين يثور بركان ، أو يمور زلزال ، فيؤرجح هذه الأرض المطمئنة من تحتنا ، فتضطرب وتمور. عندئذ نتذكر معنى الاستقرار الذي نستمتع به على هذه الأرض بنعمة اللّه.
والبشر خليقون أن يتذكروا هذه الحقيقة في كل لحظة ، لو أنهم ألقوا بالهم إلى أن أرضهم هذه التي يركنون إليها ، إن هي إلا هباءة سابحة في فضاء اللّه الوسيع. هباءة تسبح في هذا الفضاء المطلق. تسبح حول نفسها بسرعة نحو ألف ميل في الساعة. وتسبح - مع هذا - حول الشمس بسرعة ستين ألف ميل في الساعة. بينما هي والشمس والمجموعة الشمسية كلها تبعد بجملتها في هذا الفضاء بسرعة عشرين ألف ميل في الساعة متجهة في اتجاه واحد نحو برج الجبار في السماء! أجل لو أنهم ألقوا بالهم إلى أنهم محمولون على هذه الهباءة السابحة التي تنهب الفضاء نهبا بهذه السرعة ، معلقة في أجوازه بغير شيء إلا قدرة اللّه .. لظلوا أبدا معلقي القلوب والأبصار ، واجفي الأرواح والأوصال ، لا يركنون إلا للواحد القهار الذي وضع الأرض للأنام ، وأقرهم عليها هذا الإقرار!!
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3449)