لقد كان لهم شأن مع البشر منذ نشأة أبيهم آدم ، كما أن هذه الصلة امتدت في طول الحياة وعرضها حتى مجال الحياة الباقية على النحو الذي أشرنا إليه في المقتطفات القرآنية السابقة. وشأن الملائكة مع النشأة الإنسانية يرد في مواضع شتى ، كالذي جاء في سورة البقرة: «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. قالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟ قالَ: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ. وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ، فَقالَ: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قالُوا: سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قالَ: يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ ، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ ..» ..
فهذا المجال الفسيح الذي تتصل فيه حياة البشر بهذا الملأ الأعلى ، هو فسحة في التصور ، وفسحة في إدراك حقائق هذا الوجود ، وفسحة في الشعور ، وفسحة في الحركة النفسية والفكرية ، يتيحها التصور الإسلامي للمسلم والقرآن يعرض عليه هذا المجال الفسيح ، وعالم الغيب المتصل بما هو فيه من عالم الشهود.
والذين يريدون أن يغلقوا على «الإنسان» هذا المجال .. ومجال عالم الغيب كله .. إنما يريدون به أقبح الشر .. يريدون أن يغلقوا عالمه على مدى الحس القريب المحدود ويريدون بذلك أن يزجوا به في عالم البهائم وقد كرمه اللّه بقوة التصور التي يملك بها أن يدرك ما لا تدركه البهائم وأن يعيش في بحبوحة من المعرفة ، وبحبوحة من الشعور! وأن ينطلق بعقله وقلبه إلى مثل هذا العالم وأن يتطهر وهو يرف بكيانه كله في مثل هذا النور! والعرب في جاهليتهم - على كل ما في هذه الجاهلية من خطأ في التصور - كانوا (من هذا الجانب) أرقى من أهل الجاهلية (العلمية!) الحديثة الذين يسخرون من الغيب كله! ويعدون الإيمان بمثل هذه العوالم الغيبية سذاجة غير علمية!
ويضعون «الغيبية» في كفة ، و «العلمية» في الكفة الأخرى! وسنناقش عند مواجهة قوله تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» هذه الدعوى التي لا سند لها من العلم ، كما أنه لا سند لها من الدين. أما هنا فنكتفي بكلمة مختصرة عن شأن الملائكة.
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 1044)