«فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ. وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» ..
والتعبير بلفظ الفرار عجيب حقا. وهو يوحي بالأثقال والقيود والأغلال والأوهاق ، التي تشد النفس البشرية إلى هذه الأرض ، وتثقلها عن الانطلاق ، وتحاصرها وتأسرها وتدعها في عقال. وبخاصة أوهاق الرزق والحرص والانشغال بالأسباب الظاهرة للنصيب الموعود. ومن ثم يجيء الهتاف قويا للانطلاق والتملص والفرار إلى اللّه من هذه الأثقال والقيود! الفرار إلى اللّه وحده منزها عن كل شريك. وتذكير الناس بانقطاع الحجة وسقوط العذر: «إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» .. وتكرار هذا التنبيه في آيتين متجاورتين ، زيادة في التنبيه والتحذير! وكأنما كانت هذه الإشارة إلى آية السماء وآية الأرض وآية الخليقة استطرادا مع آيات الرسالات والرسل.
فلما انتهت جاء التعقيب على قصص الرسل التي سلفت في السياق: «كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ. وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» ..
فهي جبلة واحدة وطبيعة واحدة للمكذبين وهو استقبال واحد للحق وللرسل يستقبلهم به المنحرفون:
«كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» .. كما يقول هؤلاء المشركون! كأنما تواصوا بهذا الاستقبال على مدار القرون! وما تواصوا بشيء إنما هي طبيعة الطغيان وتجاوز الحق والقصد تجمع بين الغابرين واللاحقين! والنتيجة الطبيعية التي تترتب على هذا الموقف المكرور ، الذي كأنما تواصى به الطاغون على مدار القرون ، ألا يحفل الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - تكذيب المشركين. فهو غير ملوم على ضلالهم ، ولا مقصر في هدايتهم: «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ» .. إنما هو مذكر ، فعليه أن يذكر ، وأن يمضي في التذكير ، مهما أعرض المعرضون وكذب المكذبون: «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» .. ولا تنفع غيرهم من الجاحدين.
والتذكير هو وظيفة الرسل. والهدى والضلال خارجان عن هذه الوظيفة ، والأمر فيهما إلى اللّه وحده. الذي خلق الناس لأمر يريده.
هنا يجيء الإيقاع الأخير في السورة. ويتضح معنى الفرار إلى اللّه ، والتخلص من الأوهاق والأثقال ، لأداء الوظيفة التي خلق اللّه العباد لها ، ومنحهم وجودهم ليؤدوها:
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3386)