«رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ ، فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» .
وفي هذا التوجه لعقد البيعة مع اللّه مباشرة لفتة ذات قيمة .. إن عهد المؤمن هو ابتداء مع ربه ، ومتى قام الرسول بإبلاغه فقد انتهت مهمة الرسول من ناحية الاعتقاد وانعقدت البيعة مع اللّه ، فهي باقية في عنق المؤمن بعد الرسول .. وفيه كذلك تعهد للّه باتباع الرسول. فليس الأمر مجرد عقيدة في الضمير ولكنه اتباع لمنهج ، والاقتداء فيه بالرسول. وهو المعنى الذي يركز عليه سياق هذه السورة - كما رأينا - ويكرره بشتى الأساليب.
ثم عبارة أخرى تلفت النظر في قول الحواريين: «فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» ..
فأي شهادة وأي شاهدين؟
إن المسلم المؤمن بدين اللّه مطلوب منه أن يؤدي شهادة لهذا الدين. شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء وتؤيد الخير الذي يحمله هذا الدين للبشر .. وهو لا يؤدي هذه الشهادة حتى يجعل من نفسه ومن خلقه ومن سلوكه ومن حياته صورة حية لهذا الدين. صورة يراها الناس فيرون فيها مثلا رفيعا ، يشهد لهذا الدين بالأحقية في الوجود ، وبالخيرية والأفضلية على سائر ما في الأرض من أنظمة وأوضاع وتشكيلات.
وهو لا يؤدي هذه الشهادة كذلك حتى يجعل من هذا الدين قاعدة حياته ، ونظام مجتمعه ، وشريعة نفسه وقومه. فيقوم مجتمع من حوله ، تدبر أموره وفق هذا المنهج الإلهي القويم .. وجهاده لقيام هذا المجتمع ، وتحقيق هذا المنهج وإيثاره الموت في سبيله على الحياة في ظل مجتمع آخر لا يحقق منهج اللّه في حياة الجماعة البشرية .. هو شهادته بأن هذا الدين خير من الحياة ذاتها وهي أعز ما يحرص عليه الأحياء! ومن ثم يدعى «شهيدا» ..
فهؤلاء الحواريون يدعون اللّه أن يكتبهم مع الشاهدين لدينه .. أي أن يوفقهم ويعينهم في أن يجعلوا من أنفسهم صورة حية لهذا الدين وأن يبعثهم للجهاد في سبيل تحقيق منهجه في الحياة ، وإقامة مجتمع يتمثل فيه هذا المنهج. ولو أدوا ثمن ذلك حياتهم ليكونوا من «الشهداء» على حق هذا الدين.
وهو دعاء جدير بأن يتأمله كل من يدعي لنفسه الإسلام .. فهذا هو الإسلام ، كما فهمه الحواريون. وكما هو في ضمير المسلمين الحقيقيين! ومن لم يؤد هذه الشهادة لدينه فكتمها فهو آثم قلبه. فأما إذا ادعى الإسلام ثم سار في نفسه غير سيرة الإسلام أو حاولها في نفسه ، ولكنه لم يؤدها في المجال العام ،
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 402)