إن سيادة المنهج الإلهي في مجتمع معناه أن يجد كل عامل جزاءه العادل في هذا المجتمع ، وأن يجد كل فرد الأمن والسكينة والاستقرار الاجتماعي - فضلا على الأمن والسكينة والاستقرار القلبي بالإيمان - ومن شأن هذا كله أن يمتع الناس متاعا حسنا في هذه الدنيا قبل أن يلقوا جزاءهم الأخير في الآخرة «1» .. وحين قلنا مرة: إن الدينونة للّه وحده في مجتمع من شأنها أن تصون جهود الناس وطاقاتهم من أن تنفق في الطبل والزمر والنفخ والتراتيل والتسابيح والترانيم والتهاويل التي تطلق حول الأرباب المزيفة ، لتخلع عليها شيئا من خصائص الألوهية حتى تخضع لها الرقاب!
ومن شأن هذا أن يوفر هذه الجهود والطاقات للبناء في الأرض والعمارة والنهوض بتكاليف الخلافة فيكون الخير الوفير للناس. فضلا على الكرامة والحرية والمساواة التي يتمتع بها الناس في ظل الدينونة للّه وحده دون العباد ..
وليست هذه إلا نماذج من ثمار الإيمان حين تتحقق حقيقته في حياة الناس.. (و سيرد عنها بعض التفصيل في نهاية استعراض قصص الرسل في ختام السورة إن شاء اللّه) .
ونقف أمام تلك المواجهة الأخيرة من هود لقومه وأمام تلك المفاصلة التي قذف بها في وجوههم في حسم كامل ، وفي تحد سافر ، وفي استعلاء بالحق الذي معه ، وثقة في ربه الذي يجد حقيقته في نفسه بينة:
«قالَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ ، فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ، وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً ، إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» ..
إن أصحاب الدعوة إلى اللّه في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلا أمام هذا المشهد الباهر .. رجل واحد ، لم يؤمن معه إلا قليل ، يواجه أعتى أهل الأرض وأغنى أهل الأرض وأكثر أهل الأرض حضارة مادية في زمانهم ، كما جاء عنهم في قول اللّه تعالى فيهم حكاية عما واجههم به أخوهم هود في السورة الأخرى: «كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ: أَلا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ. أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ؟ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 1905)