فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى: «إله» ومعنى: «لا إله إلا الله» .. كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا .. وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد اللّه - سبحانه - بها ، معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام ، ورده كله إلى اللّه .. السلطان على الضمائر ، والسلطان على الشعائر ، والسلطان على واقعيات الحياة .. السلطان في المال ، والسلطان في القضاء ، والسلطان في الأرواح والأبدان ..
كانوا يعلمون أن: «لا إله إلا اللّه» ثورة على السلطان الأرضي ، الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية ، وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها اللّه .. ولم يكن يغيب عن العرب - وهم يعرفون لغتهم جيدا ، ويعرفون المدلول الحقيقي لدعوة:
«لا إله إلا اللّه» - ماذا تعنيه هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ورياساتهم وسلطانهم .. ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة - أو هذه الثورة - ذلك الاستقبال العنيف ، وحاربوها تلك الحرب التي يعرفها الخاص والعام ..
فلم كانت هذه نقطة البدء في هذه الدعوة؟ ولم اقتضت حكمة اللّه أن تبدأ بكل هذا العناء؟
لقد بعث رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - بهذا الدين ، وأخصب بلاد العرب وأغناها ليست في أيدي العرب إنما هي في يد غيرهم من الأجناس! بلاد الشام كلها في الشمال خاضعة للروم ، يحكمها أمراء من العرب من قبل الرومان. وبلاد اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس يحكمها أمراء من العرب من قبل الفرس .. وليس في أيدي العرب إلا الحجاز ونجد وما إليهما من الصحاري القاحلة ، التي تتناثر فيها الواحات الخصبة هنا وهناك! وكان في استطاعة محمد - صلى اللّه عليه وسلم - وهو الصادق الأمين الذي حكمه أشراف قريش قبل ذلك في وضع الحجر الأسود ، وارتضوا حكمه ، منذ خمسة عشر عاما والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسبا .. كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب ، التي أكلتها الثارات ، ومزقتها النزاعات ، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة الرومان في الشمال والفرس في الجنوب وإعلاء راية العربية والعروبة وإنشاء وحدة قوية في كل أرجاء الجزيرة .. ولو دعا يومها رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - هذه الدعوة لاستجابت له العرب قاطبة - على الأرجح - بدلا من أن يعاني ثلاثة عشر عاما في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة! وربما قيل: إن محمدا - صلى اللّه عليه وسلم - كان خليقا بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة وبعد أن يولوه فيهم القيادة والسيادة وبعد استجماع السلطان في يديه والمجد فوق مفرقه .. أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها